في الذكرى الأربعين للقرار الملغى "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية"

بقلم: عبد الحميد صيام

في العاشر من نوفمبر 1975 اعتمدت الجمعية العامة القرار 3379 الذي يعتبر العقيدة الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ويطالب جميع الدول بمحاربة هذه العقيدة والتثقيف حول أخطارها.
ومع أن القرارغير ملزم لكنه يحمل وزنا معنويا كبيرا، إذ إنه يصيب العقيدة الصهيونية في مقتل، حيث نجحت تلك العقيدة في حشد الملايين من اليهود وغير اليهود لتأييد فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وإحلال تجمعات يهودية من كل العالم لتخلع السكان الأصليين وترمي بهم إلى المنافي ومخيمات اللجوء، وتقيم مكانهم دولة قائمة على تلك العقيدة. وقد صوت لصالح مشروع القرار 72 دولة، من بينها البرازيل والمكسيك بينما صوتت ضده 35 دولة، وامتنع عن التصويت 32 دولة. لكن هذا القرار لم يعمر طويلا حيث حشدت إسرائيل والولايات المتحدة كافة القوى وبقيت تعمل بالسر والعلانية والوعيد والتهديد والابتزاز والعقوبات إلى أن تم إلغاء القرار بقرار آخر هو 86/46 بتاريخ 16 ديسمبر 1991. وصوّت لصالح الإلغاء 111 دولة، بينما صوت ضده 25 دولة، وامتنع عن التصويت 13 دولة، وتغيبت 15 دولة عن حضور جلسة التصويت، من بينها مصر والمغرب وتونس والبحرين والكويت وعـُمان.
فما هي قصة هذا القرار الخطير وكيف تم إلغاؤه؟ وكيف تمادت إسرائيل بعد إلغائه لتتحول من دولة عنصرية إلى دولة تنتهج الأبرثايد في كل ما يتعلق بالفلسطينيين في الداخل والخارج؟

اعتماد القرار- لحظة كرامة

لم يكن التضامن العربي في وضع أفضل من الفترة التي تلت حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، التي خاضها أساسا الجيشان المصري والسوري مدعومين بوحدات من الجيش العراقي والجزائري، وقوات من فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية. كما أن دول الخليج بقيادة العاهل السعودي المرحوم فيصل، وقفت وقفة شجاعة في قطع إمدادات النفط عن الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، ما خلق ارتباكا عالميا سمي فيما بعد "صدمة النفط". وقف العرب وقفة رجل واحد بقيادة مصر، المدعومة بأمتها فحققوا الانتصارات على المستوى الميداني، ومرغوا أنف الجيش الذي لا يقهر في التراب. هذه الوقفة العزيزة ترجمت كذلك على المستوى السياسي. فقد عقد في الرباط مؤتمر القمة العربي، الذي اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، وقطعت دول أفريقية عديدة علاقاتها بإسرائيل وانتخب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمعية العامة في دورتها التاسعة والعشرين، واستقبل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات كرئيس دولة، وثبت بند فلسطين على جدول أعمال الجمعية العامة بعد غياب دام نحو 24 سنة، واعتمدت تلك الدورة القرار 3236 المتعلق بالحقوق الفلسطينية والقرار 3237، الذي منح منظمة التحرير مقعد المراقب. كما فرضت المجموعة العربية اللغة العربية لغة سادسة في الأمم المتحدة، حيث أصبحت المجموعة العربية في الأمم المتحدة قوة حقيقية يتزلف لها الكثيرون ويخطبون ودها، لدرجة أن أحد الدبلوماسيين قال لو أراد العرب طرد إسرائيل من المنظمة الدولية آنذاك لما وجدوا صعوبة في ذلك.
ثم جاءت الدورة الثلاثون عام 1975 وقدم العرب مشروع قرار يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية. جن جنون إسرائيل وحلفائها وحاولوا بكافة الطرق أن يفشلوا القرار، لكنهم فشلوا. لقد كان القرار ضربة موجهة للمشروع الصهيوإمبريالي، الذي زرع إسرائيل عنوة في قلب العروبة. ألقى يومها السفير الإسرائيلي حاييم هرتزوغ بيانا قويا وقطع وثيقة نص القرار ورمى بقصاصات الورق أمام الوفود بحركة هستيرية قائلا، "هكذا سنتعامل مع هذا القرار". أما السفير الأمريكي باتريك موينهان فقد اتهم 72 دولة بالكذب، ما أثار حفيظة الممثل السعودي جميل البارودي، صاحب الصوت اللاذع أن يوبخه بطريقة تليق به قائلا: "إذهب ونظف شارع 42 في منهاتن قبل أن تتهمنا بالكذب". وردا على خطابي هيرتزوغ وموينهان صعد إلى المنبر الباحث الفلسطيني الأستاذ والخطيب البليغ الدكتور فايز الصايغ، الذي كان يعمل مستشارا لدى بعثة الكويت، لكنه كان رجل المهمات الصعبة يحتمي وراءه السفراء العرب، عندما يتطلب الأمر منطقا وحجة وبلاغة ولغة إنكليزية راقية لا يباريه فيها أحد حتى أبناء اللغة.
ألقى كلمة تكاد تكون قمة في الفصاحة والمنطق والإقناع، لدرجة أن جريدة "نيويورك تايمز" نشرتها كلها في اليوم التالي، إلى جانب خطاب موينهان. ومما جاء في كلمته: "الصهيونية عبارة عن أيديولوجية سياسية محددة، تمت صياغتها من قبل منظمة سياسية محددة، أطلقت حركة سياسية محددة معبرة عن ذاتها بممارسات محددة، تهدف إلى إقصاء مجموعات من الناس بناء على كونهم غير يهود، وإدخال جماعات في تلك العملية السياسية بناء على كونهم يهودا. فاليهودية حسب التعريف الرسمي للصهيونية مرجعية عرقية لا دينية، أي أن اليهود يشكلون شعبا واحدا بحاجة إلى دولة لليهود فقط. وبرنامج الصهيونية هو تحقيق هذا الهدف عن طريق عملية مزدوجة: ضخ أكبر عدد من يهود العالم أينما كانوا وجمعهم في منطقة واحدة وطرد أكبر عدد من السكان الأصليين ليحل محلهم اليهود المستوردون. أليست هذه العنصرية بعينها؟".

إلغاء القرار – لحظة تفتت وانهيار

لم تنم إسرائيل وأنصارها لحظة واحدة بعد اعتماد القرار. وضعت الخطط لإلغاء القرار بأي ثمن، طال الزمن أو قصر، واعتمدوا على أسلوبين: السيطرة على المنظمة من داخلها عن طريق زرع عدد كبير من المسؤولين الكبار فيها ليخلقوا الأجواء المناسبة من جهة، ومن جهة أخرى تفتيت التحالف العربي- الدولي الذي ساهم في إنجاح القرار وعقاب جميع الدول التي صوتت لصالح القرار.
بعد ستة عشر عاما على اعتماد القرار تغيرت دنيا العرب تماما. انتقلت مصر إلى الصف الآخر بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد المشؤومة، وتعطل دورها تماما، ودخلت مرحلة السبات الشتوي، وأصبحت تنصاع لأوامر أمريكا وتساهم في تحالف حفر الباطن لتدمير العراق. الاتحاد السوفييتي انهار وانهارت معه الحرب الباردة. العراق بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران عاد واحتل الكويت بطريقة رعناء هدمت ما تبقى من تضامن عربي، وبعد التحرير طردت الكويت أربعمئة ألف فلسطيني عقابا لهم على موقف ياسر عرفات. منظمة التحرير أخرجت من لبنان وتشتت في المنافي، وإسرائيل تطاولت على العرب جميعا فدمرت المفاعل العراقي عام 1981، وقصفت تونس مرتين وضمت القدس والجولان ودخل لبنان في حرب أهلية لمدة 15 سنة. أما حرب الصحراء الغربية فقد أنهكت الجارين المغربي والجزائري، وأصبح الإسلام السياسي يدعو لتحرير كابل بدل القدس، والجهاد يعني الانضمام لتجمع بيشاور لمقاتلة السوفييت في أفغانستان.
أراد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكرعقد مؤتمر مدريد في 30 أكتوبر1991 لحلحة الصراع العربي الإسرائيلي، كما وعد وهو يحشد دولا عربية عديدة للانضمام إلى تحالف حفر الباطن، من بينها مصر وسوريا والمغرب. دعا بيكر رئيس الوزراء الإسرائيلي يتسحاق شامير إلى المؤتمر فرفض. وتحت الضغوط والتهديد وضع ثلاثة شروط لحضوره:
أولا: ألا يحضر الفلسطينيون في وفد مستقل، بل ضمن الوفد الأردني، فقبل بيكر بالشرط؛
ثانيا: أن يحضر فقط ممثلون فلسطينيون من الأرض المحتلة، فانصاع بيكر للشرط؛
ثالثا: أن يتم إلغاء قرار "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري" ووعده بيكر بذلك بعد انفضاض مؤتمر مدريد وترتيب الأوضاع ليتأكد من نجاح المحاولة.
في 16 ديسمبر 1991 حضر الرئيس بوش بنفسه وتقدم من منصة الجمعية العامة ليقدم مشروع القرار الجديد، الذي ينص على إلغاء القرار 3379. قال وهو يقدم مشروع القرار للتصويت: "الصهيونية ليست سياسة، بل فكرة أدت إلى قيام وطن للشعب اليهودي، هو دولة إسرائيل. إن مساواة الصهيوينة بإثم العنصرية البغيضة تشويه للتاريخ ونسيان لمعاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتأكيد خلال التاريخ بشكل عام. إن مساواة الصهيونية بالعنصرية يعني رفض وجود دولة إسرائيل، إن إلغاء ذلك القرار بدون شرط يعزز من مصداقية الأمم المتحدة ويخدم الهدف الأسمى للمنظمة الدولية وهو السلام".

هذا هو السلام الذي جاء به إلغاء القرار

مرّ على إلغاء القرار 24 سنة، فللنظر كم جلب إلغاء القرار من سلام، كما توقع الرئيس بوش الأب. وللننظر كم ابتعدت إسرائيل عن العنصرية والتمييز العنصري، حيث تحكم على الطفل رامي الحجر بثلاث سنوات كحد أدنى، أما المستوطن الذي يحرق عائلة بأسرها فلا يتم اعتقاله. جدار عنصري يبنى وطرق خاصة بالمستوطنات تقام ومستوطنات تبنى وتتوسع على حساب الأرض الفلسطينية، وهي مخصصة لنوع واحد من البشر، وبيوت تهدم بحجة عدم الترخيص وهويات تسحب من أصحابها بسبب المشاركة في الاحتجاجات. وهناك قوانين عنصرية تزيد عن 42 أقرها الكنيست للتمييز ضد الفلسطينيين من حملة الجنسية، فما بالك بسكان الأرض المحتلة. حروب تشن على لبنان وفلسطين، خاصة قطاع غزة ولا يتمكن مجلس الأمن حتى من بحثها، فقد نجحت الولايات المتحدة في تحييد مجلس الأمن ولم يعد قادرا إلا على الاستماع مرة في الشهر لنزر بسيط من معاناة شعب يرزخ تحت الاحتلال، وإذا رفعت صوتك محتجا فستتهم بالتحريض ومعاداة السامية.
لكن للحقيقة نقول إن اللوم يقع على النظام العربي البائس المفتت. فهل يعقل أن تصوت مصر لصالح انضمام إسرائيل للجنة الفضاء الخارجي، وتوثق بعض دول الخليج العلاقة مع الكيان، بحجة وجود عدو مشترك ويزور فرقه وتجاره ومسؤولوه أكثر من دولة عربية؟ أما اللوم الأكبر فتتحمله قيادة أوسلو التي فتحت الطريق أمام المطبعين والمهرولين نحو إسرائيل. قيادة صدقت وهم قيام دولة فلسطينية عن طريق المفاوضات و"سلام الشجعان" ودخلت القفص لتعفي السجان من كثير من مسؤولياته وتضفي عليه طابع شريك السلام بدل إظهاره على حقيقته "قاتل يدلي بسكين وقتلى يدلون بالأسماء: صبرا، كفر قاسم، دير ياسين شاتيلا".

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي

د. عبد الحميد صيام