الخليل مدينةٌ منكوبةٌ بحقٍ، مبتلاةٌ عن جدٍ، ليس لأنها المحافظة التي قدمت أغلب الشهداء وحسب، ولا لأنها التي قدمت معظم الشهيدات، ولا لأن دماء أبنائها قد توزعت على كل المدن والبلدات الفلسطينية، ولا لأن أهلها دفعوا ضريبة حمل مشاعل المقاومة ومواقد الانتفاضة إلى كل أرجاء القدس والضفة، ولا لأنها المحافظة التي عانى أهلها كثيراً عندما حجزت سلطات الاحتلال جثامين أبنائها، وامتنعت عن تسليمها لهم لدفنها والصلاة عليها، ولا لأنها المدينة الأكثر سخونةً والأشد عطاءً، والأكثر مشاركةً والأسرع انخراطاً، والأسبق مواجهةً.
ولا لأن أهلها يعاندون ويصرون، ويصمدون ويصبرون، ويعضون على الجرح ولا يبكون، ويحتملون كل مصيبةٍ تنزل بهم وتحل عليهم ويقولون "بيهمش"، ولا لأنها الأكثر اجتياحاً والأقرب إلى فشة الخلق الإسرائيلية ومتنفس غضبهم، يجردون عليها الحملات الأمنية والعسكرية، ويداهمونها ويفتشون بيوتها وينكثونها، ولا لأن سلطات الاحتلال تغلقها دوماً وتحولها إلى مناطق عسكرية مغلقة، وتمنع الدخول إليها والخروج منها، فتعاقبهم جميعاً وتحاصرهم طويلاً، وتصادر بيوتهم، وتبني الأسوار العالية بينها، وتمنع أحداً من الاقتراب منها أو الدخول إليها، وتبقي على المستوطنين فيها أحراراً يجولون ويجوسون، ويخربون ويفسدون.
إنما هي إلى جانبِ كل ما مضى وسبق، وما يجد ويحدث، مدينةٌ منكوبةٌ لأنها المدينة الأكثر اختراقاً من المستوطنين، فهم يستوطنون قلبها وأطرافها، ويسكنون بيوتها ويغتصبون منازل أهلها، ويستولون على أسواقها ويحتلون متاجرها، ويسورون بعضاً من مناطقها، ويدعون ملكيتهم لها، ويضعون عليها بواباتٍ ومداخل، وينصبون فوقها كاميراتٍ وأجهزة مراقبة، ويفرد لهم جيش العدوان مئات الجنود لحمايتهم والدفاع عنهم، وتلبية حاجاتهم والسهر على راحتهم، وهم في المدينة قلة، وبين السكان العرب أقلية لا تذكر، فهم مئاتٌ يملكون كل شئ إلى جانب عشرات آلاف الفلسطينيين الذين يحرمون من كل شئ.
وهي مدينةٌ منكوبةٌ لأنها الأكثر إلى جانب مدينة القدس حضوراً لغلاة المتدينين المتشددين، الذين ينتشرون فيها كالفطر، ويتحركون خلالها كالزواحف، ويبتلعون الحقوق كالتماسيح، ويؤذون السكان كالحشرات، كما البق والقمل، والبعوض والذباب، لا يحتملهم أحد، ولا يقبل بوجودهم إنسانٌ، لكن الحكومة تطلقهم كالبغاث، وتنشرهم بين السكان كالجراد، ولا تعترض على سلوكهم، بل تحمي وجودهم، وتعزز اجتياحاتهم، وتفرح لهم إذا نالوا من سكانها العرب، فصادروا بيوتهم أو حرقوا أولادهم.
وهي كذلك لأنها المدينة الأكثر استيطاناً والأقدم اغتصاباً، وهي محل أطماعٍ يهوديةٍ قديمةٍ، وحولها تدورُ قصصٌ وحكاياتٌ، وأساطيرٌ وخرافاتٌ، أبطالها ملوكٌ وأنبياء، وقادةٌ وحاخاماتٌ، يروون عنها ما لا نعرف، وينسبون إليها ما لا نصدق، ويريدون من العالم كله أن يصدق خرفهم، وأن يؤمن بخبلهم.
وفيها مستوطنة كريات أربع، التي تكاد تتفوق على جميع المستوطنات تطرفاً وتشدداً، وعنصرية وصهيونية، وفيها سكن وإليها ينتمي مائير كاهانا مؤسس حركة كاخ العنصرية، ومنها خرج المتطرف باروخ غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي فجر يومٍ من شهر رمضان المعظم، وما زال غيرهما منها يخرجون.
وهي منكوبةٌ لأن اليهود استولوا على حرمها، وأقاموا في مسجدها الإبراهيمي، واقتطعوا منه مساحاتٍ كبيرة، وخصّوا أنفسهم بأركانٍ كثيرةٍ، وزوايا متعددة، أقاموا فيها لأنبيائهم قبوراً، ولنسائهم مقاماتٍ، وأخذوا يزورونها في كل الأوقات، ويحرمون في الوقت نفسه المسلمين من الصلاة في مسجدهم، بل يطردونهم منه، ويمنعون المؤذن من رفع الآذان فيه، ويجبرون جيرانه على إغلاق نوافذ بيوتهم، وعدم استخدام أبوابهم المطلة على الحرم في الدخول والخروج منها، لتمكين اليهود من الصلاة في المسجد، وعدم التشويش على الرحلات المدرسية إليه، واحترام مراسم الزواج والختان التي يجريها اليهود وفقاً لعقيدتهم داخل بهو المسجد، في وقتٍ يخلو فيه بالأمر العسكري لأيامٍ من المصلين الفلسطينيين.
إنها مدينة منكوبة لأن الكابينت الإسرائيلي وهو مجلس الوزراء المصغر المعني بدراسة الشؤون الأمنية والعسكرية، قد قرر القيام ببعض العمليات الموضعية المحدودة في أكثر من مكانٍ في مدينة الخليل وبلداتها، وذلك لإجهاض أي مخططاتٍ عسكرية، وتفكيك الخلايا التنظيمية التي تتشكل قبل أن تقوى وتباشر عملها، وقرر أن يجعل منها مدينة السياجات والحواجز، والبوابات والمعابر، والحواجز ونقاط التفتيش.
مدينة الخليل لا ينجو أطفالها من القتل، كما لا ينجون أيضاً من الاعتقال، فقد اعتادت سلطات الاحتلال على معاقبة سكان المحافظة التي أوجعتهم بمشاركاتها في الانتفاضة، باعتقال أطفالهم وتوقيف صغارهم، وتقوم بنقلهم إلى المعتقلات والسجون، وتحقق معهم وتعذبهم، وتعرضهم على القضاء والمحاكمة، وتفرض عليهم بالإضافة إلى السجن غراماتٍ مالية عالية، بينما تقتل آخرين من الجنسين لمجرد الاشتباه بهم، أو الاقتراب منهم، ولو كانوا على أبواب مسجدٍ أو في داخل مستشفى، زيارةً لمريضٍ أو مرضى على أسرتها.
مهما تحدثنا عن مدينة الخليل، المدينة والمحافظة، فلن نفيها حقها، ولن نجزيها على ما قدمت وأعطت، ولن نتمكن من تقديرها كما ينبغي، ومكافئتها كما يجب، فقد تجاوزت التوقعات، وتخطت التقديرات، وبات اسمها علماً، ومواطنها على العدو خطراً، ووجوده في أي مكانٍ إشارة على المقاومة، ودلالة على الفعل، يهابون من وجوده إذا حضر، ويتحسبون من غيابه إذا غادر، فهو في وجوده ثائرٌ، وإذا غادر وانتقل فإنه يحمل جذوة الانتفاضة، ويسعر شعلتها حيث يذهب.
ولكن ما أصابها بعد ذلك أكبر من قدرتها على الاحتمال، وأشد مما يتوقعه سكانها ويتخيله أهلها، رغم أنهم ليسوا ساخطين ولا غاضبين، ولا شاكين ولا متبرمين، فهم راضون بقضاء الله ومسلمون له ومتوكلون عليه، ويسألونه سبحانه أن يجزيهم على صبرهم خير الجزاء، وأن يعوضهم عن مصابهم خيراً، إلا أن العدو صب جام غضبه عليها، وتسلط على أهلها وشبابها، فلاحقهم وطاردهم، وقتلهم على الهوية، واستباح دمهم وحريتهم لمجرد أنهم ينتسبون إلى الخليل.
كل التحية للخليل وأبنائها، للمدينة والمحافظة، ولكل بلداتها وقراها ومخيماتها، ليطا والظاهرية والعروب والفوار ودورا وسلفيت، والسموع وحلحول، وصوريف وإذنا وسعير، وبيت عوا وبيت أمر وتفوح والشيوخ، وكل قراها وأحيائها وبلداتها الصغيرة والكبيرة، ولكل من سكنها وأحبها، وأقام فيها وعرف أهلها، وصلى في مسجدها الإبراهيمي وبكى على مآله، وحزن على ما أصابه.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 1/12/2015
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]