إثارة موضوع البعد الديني للانتفاضة اليوم من خلال محاولة بعض القوى السياسية الفلسطينية طبع الانتفاضة بطابع ديني، وهو نفس الأمر الذي تحاوله حكومة إسرائيل ، وكلٌ من منطلقات وأهداف مغايرة ، يُحيل لمسألة البعد الديني للقضية الفلسطينية وللصراع في فلسطين بشكل عام. ويُثير جدلا حول علاقة البعد الديني بالأبعاد الأخرى وخصوصا البعد الوطني ، ويجدد جدلا سابقا شغل الفكر السياسي الفلسطيني طوال العقود الثلاثة الأولى لظهور الثورة الفلسطينية المعاصرة ،وكان جدلا حول العلاقة بين البعد الوطني والبعد القومي للقضية الفلسطينية .
اليوم يثور الجدل حول العلاقة بين الوطني والديني ، وما إن كانت العلاقة بينهما علاقة تناقض وإحلال يستحيل معها التعايش بين البعدين ؟أم علاقة تكاملية ؟ وإن كانت علاقة تكاملية تُطرح مسالة أيهما له الأولوية على الآخر : البعد الديني أم البعد الوطني ؟ . والسؤال السابق لكل ذلك هل من المُفيد إثارة هذا الخلاف في هذا الوقت حيث تحتل إسرائيل ليس فقط القدس والمسجد الأقصى بل الأماكن المقدسة المسيحية أيضا ككنيسة القيامة وكل فلسطين، وتعمل على نفي وجودنا وتاريخنا الإسلامي والقومي والوطني معا ؟ وفي الوقت الذي تسعى إسرائيل لتحويل الصراع إلى صراع ديني ؟ وفي الوقت الذي تتحالف فيه دول العالم لمواجهة جماعات تمارس العنف باسم الإسلام .
مسألة العلاقة بين فلسطين ومحيطها الإقليمي والإنساني العالمي ليس بالأمر الجديد ،فمنذ نشأتها ونظرا لطبيعة الحركة الصهيونية وعلاقتها بالاستعمار والامبريالية العالمية ، وطبيعة القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني من الاستعمار ، وبسبب المكانة المقدسة لمدينة القدس ، وبسبب عدالة القضية الفلسطينية في مواجهة عدوانية وإرهاب الكيان الصهيوني،لكل ذلك كانت القضية الفلسطينية قضايا في قضية : قضية وطنية وقضية قومية عربية وقضية إسلامية وقضية إنسانية عالمية ، والعلاقة بين هذه الأبعاد علاقة تكاملية وليس علاقة تصادم أو إحلال.
لا شك أن القضية الفلسطينية قضية وطنية بالأساس من منطلق أن الخطر والأطماع والإرهاب الصهيوني يستهدف الشعب الفلسطيني مباشرة وما زال يستهدف الأرض الفلسطينية ،ولكن عدالة الحق الفلسطيني وهمجية الإرهاب الصهيوني دفع كل شعوب الأرض إلى دعم ومباركة الشعب الفلسطيني وثورته لدرجة تخصيص الأمم المتحدة في عام 1977 يوما للتضامن مع الشعب الفلسطيني .
إن تزامن ذكرى التضامن العالمي ممثلا بهيئة الأمم المتحدة مع الشعب الفلسطيني مع تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام 24/11/2015 بأغلبية 171 من الأصوات على تأكيد حق الشعب الفلسطيني بممارسة مصيره الوطني ،مع تزايد مقاطعة إسرائيل من طرف جمعيات وجامعات ومثقفين أوروبيين وأمريكيين وتزايد التنديدات الموجهة لإسرائيل حتى من برلمانات أوروبية .. كل ذلك يؤكد عدالة الحق الفلسطيني ، ومعناه أيضا أن القضية الفلسطينية تجاوزت بُعدها الوطني دون أن تلغيه ،وأصبحت قضية محل اهتمام كل دول العالم .
إن من يعمل أو يفكر بفصل القضية الفلسطينية عن أبعادها القومية العربية والدينية الإسلامية والعالمية الإنسانية بذريعة أو تحت شعار البُعد الوطني يرتكب جريمة بحق فلسطين لا تقل عن جريمة إلغاء البُعد الوطني من خلال تذويبه أو إلحاقه بالبُعد الإسلامي كما تعمل حركة حماس وجماعات إسلاموية اليوم ، كما عملت بعض الحركات والأنظمة القومية العربية سابقا عندما حاولت إلحاق القضية الفلسطينية بها تحت شعار البعد القومي العربي ، أو تمييع البُعد الوطني كما يفكر البعض اليوم من خلال ترويج فهم خاطئ لتدويل القضية .
الانتفاضة الراهنة مشهد مُشرف من مشاهد نضال فلسطيني متعدد الأوجه ضد الاحتلال، نضال ممتد منذ مائة عام تقريبا، ولأنه نضال مشروع فقد حظيت القضية الفلسطينية بمكانة واهتمام عالمي منقطع النظير. عدالة القضية الفلسطينية جعلها الوحيدة التي لها بُعد وطني وبُعد قومي وبُعد إسلامي وبُعد أممي ، هذا التعدد والانتشار يؤكد على أن القضية الفلسطينية ليست قضية عادلة بالنسبة للفلسطينيين فقط بل تتوفر على عدالة مطلقة تفرض على الآخرين وضعها في الحسبان ودعم شعبها .
البعد الديني للنضال الفلسطيني لم يكن غائبا عن مؤسسي المشروع الوطني ولا عن الميثاق الوطني وقرارات المجالس الوطني، إلا أن هذا البعد كان منضويا وجزءا من المشروع الوطني. ظهر البعد الديني بشكل أكبر خلال الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) من خلال الحضور القوى لحركتي حماس والجهاد الإسلامي ، وحتى حركة فتح تأثرت بالمد الديني فأسمت جناحها العسكري بـ (كتاب شهداء الأقصى ) وفي نفس الوقت قال الراحل أبو عمار وهو مُحاصر في المقاطعة كلماته المشهورة (على القدس رايحين شهداء بالملايين) .
بعد الانتخابات التشريعية 2006 ثم سيطرة حماس على قطاع غزة 2007 وحماس تحاول فرض وتغليب البُعد الديني للقضية الفلسطينية على بُعدها الوطني ،وإلحاق القضية الفلسطينية بالمشروع السياسي الديني للإخوان المسلمين ،الأمر الذي خلق انشقاقا حادا في الساحة الفلسطينية وأثر سلبا على القضية الفلسطينية خارجيا .
أثارت الانتفاضة الراهنة مسألة البعد الديني لأنها انطلقت من القدس بداية وردا على الانتهاكات اليهودية للمسجد الأقصى ومحاولة إسرائيل تغيير الوضع التاريخي للقدس والمقدسات كأماكن إسلامية وكجزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ما أثار مسألة الدين في الانتفاضة أن إسرائيل ،وخصوصا نتنياهو، تحاول إضفاء طابع ديني على الانتفاضة وعلى الصراع بشكل عام حتى تخلط الأوراق ، وهدف إسرائيل من ذلك ربط ما يجري في فلسطين من مقاومة للاحتلال بما يجري من صراعات وأعمال عنف ذات بُعد إسلامي في دول من حولنا، كما جرى سابقا من الربط ما بين أحداث 11 سبتمبر 2001 في أمريكا والانتفاضة الثانية ، وحديثا من خلال الربط ما بين تفجيرات باريس في نوفمبر 2015 والانتفاضة الراهنة .
دون تجاهل حقيقة وجود بعد ديني للصراع مع إسرائيل ولأسباب الانتفاضة ، وبالرغم من أهمية ومركزية القدس والمسجد الأقصى في القضية الفلسطينية وفي صراعنا مع الاحتلال ،الذي يزعم تاريخانية يهودية القدس وأنها عاصمة أبدية لدولة إسرائيل ،إلا أن إضفاء طابع ديني خالص على الانتفاضة وعلى الصراع مع إسرائيل بشكل عام واختزال صراعنا مع الاحتلال بالبعد الديني ، واختزال الانتفاضة بأنها دفاع عن المسجد الأقصى فقط ، كل ذلك يتطلب الحذر لأنه قد يؤدي لمنزلقات سياسية خطيرة .
إن الخطورة في التركيز على البعد الديني للانتفاضة وللصراع مع الاحتلال بشكل عام ،واختزاله في الخلاف حول القدس والمسجد الأقصى ،سيدفع للبحث عن حل لمسالة القدس والمقدسات بمعزل عن القضية الوطنية بشكل عام ، ومحاولة وقف الانتفاضة من خلال إيجاد حل للأماكن المقدسة كما جرى مع تفاهمات كيري مع الأردن وإسرائيل ، أو أي تفاهمات مستقبلية ، وقد يؤثر أيضا على تأييد شعوب ودول العالم لعدالة قضيتنا الوطني ،وخصوصا أن العالم مُستنفر ومُستَفَز ضد ما يسمونه في الغرب الإرهاب الإسلامي ، بالإضافة إلى أنه سيمد إسرائيل بمبرر إضافي لمطالبها بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.
كان من الممكن التركيز على البعد الديني للانتفاضة وللصراع مع الاحتلال بشكل عام لو كان في ذلك جدوى أو مكتسبات عملية، إلا أنه من الملاحظ أن كل الدول والشعوب الإسلامية منشغلة بقضاياها الخاصة ، والجماعات الإسلاموية الجهادية تقاتل في كل مكان في العالم إلا في فلسطين ، ولم نسمع منذ ظهور هذه الجماعات قبل أربعين عاما عن عملية جهادية واحدة داخل فلسطين وضد الاحتلال ؟ . كما أن مواقف وسياسات كثير من الدول الإسلامية أقل تأييدا ودعما للحق الفلسطيني من دول أجنبية وأوروبية ، أيضا فإن التركيز على البعد الديني وإن كان مفيدا ومهما كجزء من العمل والمشروع الوطني وكجزء من واجب ديني على الفلسطيني، إلا أنه قد يوظَف بطريقة خاطئة من طرف جماعات دينية تمارس العنف أو ما تسميه الجهاد خارج فلسطين باسم القدس والمقدسات .
المشكلة ليس في الوطنية أو الدين أو القومية بل في أدلجة هذه الانتماءات والهويات وإعادة تعريفها وتركيبها حسب المصالح والرؤى الحزبية .خصوصية الحالة الفلسطينية تستدعي توطين الأيديولوجيات الدينية لتصبح جزءا من الحالة الوطنية ،وتجنب إلحاق القضية الوطنية بأي محاور أو مشاريع إقليمية وخارجية باسم البعد الديني للقضية الفلسطينية ،كما هو حاصل مع حركة حماس التي ما فتئت تؤكد أنها جزء من جماعة الإخوان المسلمين العالمية ، ولا ندري لماذا حماس وحدها من دون جميع فروع الإخوان المسلمين تريد إلغاء البعد الوطني والمشروع الوطني لصالح مشروع ديني أممي غامض ومُغامر .
كم نتمنى على حركة حماس أن تجد في تجربة تركيا وإيران وماليزيا والمغرب وغيرها ،ما يمكن استلهامه حيث يتم في هذه الدول إخضاع البعد الديني أو الأيديولوجيا الإسلامية للدولة الوطنية أو القومية المدنية الديمقراطية ،أيضا استلهام تجربة حركات التحرر العالمية حيث كان النضال الوطني يُقاد تحت راية جبهة وحركة تحرر تجمع كل المكونات السياسية والطائفية والمذهبية للشعب.
وأخيرا فإن ما نخشاه ونحذر منه أن يكون تركيز بعض القوى على البعد الديني للانتفاضة والصراع إنما محاولة منها لإخفاء عدائها للبعد الوطني ومحاولة توظيف الانتفاضة لنشر أيديولوجيتها ومناكفة القوى الوطنية والسلطة الفلسطينية، دون أن تكون معنية بإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية . كما نخشى أن الانجرار وراء البعد الديني قد يخفي عجزا عن التوصل لإستراتيجية وطنية لقيادة الانتفاضة ومواجهة الاحتلال . خصوصية القضية الوطنية وكون إسرائيل تهدد الشعب الفلسطيني تحديدا ،هوية وثقافة وأرضا، يؤكد على البعد الوطني وعلى أهمية وضرورة التمسك بالوطنية ورفع رايتها وتوظيف كل الأيديولوجيات والأبعاد الأخرى لخدمة البُعد والمشروع الوطني التحرري ، وهذا المشروع ليس مشروع حركة فتح أو منظمة التحرير أو مشروع أي حزب أو حركة بل مشروع التوافق الوطني .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش