يحمل كفنه .. يدور في شوارع غزة، لعل الحظ يسعفه في أن يجد مخرجا لماساته، فهو المريض بالقلب والسجين السابق لسنوات في سجون الاحتلال المجرم، وضابط في الأمن الوطني الفلسطيني، وقد سُدت في وجهه كل المنافذ، فلم يجد مسلكا مفتوحا للسفر إلى الخارج لإجراء عمليته الجراحية في الأردن .. انه ماساته كشأن ماسي عشرات الألف من أبناء شعبنا المعذبين والمقهورين في قطاع غزة .. لخص معاناة أهلنا وكثفها هنا أمام كاميرا التلفزيون التي اقتحم أمامها المشهد ليوصل معاناته .. هي صرخة لعلها توقظ ما تبقى من الضمائر الحية إن بقيت، ليقول.. هنا شعب يموت، بل نحن أموات لكننا أحياء نمشى على الأرض، نحمل أكفاننا على أيدينا لأننا فعلا صرنا ميتين في كافة تفاصيل حياتنا، ولا ننتظر إلا لحظة الدفن، بعد أن دفن الكثير ضمائرهم وإحساسهم، واثروا مصالحهم الفئوية الضيقة على مصالح الشعب ومستقبله، وحتى على صموده في وجه المحتل وقسوة الحياة .
عدنان بربخ " ابو وصفي " الميت الحي، والشاهد بمعاناته على جريمة العصر ... تعرفت عليه خلال الانتفاضة الأولى، وقد جمعني به سجن النقب الصحراوي في قسم "ج" إحدى الأقسام التي تنقلت بها ما بين سجن غزة المركزي، ومعتقلات أنصار بغزة و "كيلي شيفع" وأنصار بالنقب، كان رفيقا، يمتاز بوطنية عالية ومحبا للجميع، حيوي الحركة، ضحوك دائما، ويضفى على أي لقاء بهجة وفرح غير عادي بسبب روحه المرحة ونقاء سلوكه .. كان عفويا بطبيعته فكان قريب للقلب تحب مجالسته وحديثه دائما .. عشنا معا تفاصيل حياة الاعتقال .. وتقاسمنا لحظات الفرح والألم .. التحدي والإصرار فكان نعم الرفيق والأخ والصديق .
كان يحب والدته كثيرا، يحدثني دوما عنها، وكان يرسم لمستقبله لوحة متواضعة كان عنوانها، زوجة وأطفال ووظيفة وحياة هادئة .. لم يكن طماعا كثيرا، أنها أبجديات أي حياة إنسانية كريمة، هو حلم بذلك واستطاع بعد أن أفرج عنه من المعتقل، أن يتزوج وينجب أطفال، ويحصل على وظيفة حكومية، وكان أمله كما كل شباب شعبنا، أن تُزهر الأيام سعادة وفرح وراحة بال، لم يكن يعلم أن القدر يخبئ المأساة تلو المأساة لأهلنا في قطاع غزة.. لم يكن يعلم انه سيأتي يوم لا يستطيع تحقيق ابسط مطالبه، ولا أن يمارس أدنى حقوقه الإنسانية، في أن يتعالج من مرضه ليتعافى ويواصل الحياة في أحضان أسرته .
اجل لقد طفح كيلك كما كيل أبناء شعبنا يا "ابو وصفي".. لكنك كنت الأشجع.. خرجت متمردا على هذا الذل والاستهتار بمصير الشعب وقضاياه .. خرجت شاهرا سيفك الإنساني في وجه من فقدوا إنسانيتهم، وصاروا يتعاملون مع الشعب كأرقام وكأشياء .. اجل عزيزي .. عندما يصبح الإنسان رقما ووسيلة، فان كل القيم تتكسر، وكل المبادئ لا يصبح لها وزنا ولا قيمة، حينها فلتول أنت، ولأقول أنا، وليقول كل أحرار بلادي .. خسئتم ما عاد لنا صبر، وما عدتم تمثلون إلا نفسياتكم المريضة التي لم تعد ترى سوى ذاتها، وذاتها فقط .
طوبى لك أيها المناضل الإنسان .. وطوبى لكل أبناء شعبنا المعذبين القابضين على جمر آلامهم .
بقلم/ نافذ غنيم