نحن يا أبناء شعبنا الباسل ويا أبناء أمتنا الكرام ويا إخوتنا في العقيدة والإنسانية، لسنا أرقاما في قائمة الضحايا التي يضاف إليها كل يوم ثلاثة شهداء أو خمسة، فترتفع من رقم الثلاثين إلى السبعين فالمئة وتستمر في التمدد.
نحن لسنا عمالقة ولا جنودا تدربنا على القتل، ولا نعرف شكل البندقية ونكره منظر الدم ونحب الحياة والورد والموسيقى والطبيعة. ولنا أهل وأصدقاء وجيران وزملاء مدرسة وعمل. ونقع في الحب ونبني أحلاما صغيرة ونعيش على أمل تحقيقها. لا نريد أحدا أن يجعل منا أبطالا خرافيين، ولا ضحايا لليأس وانسداد الأفق. نحن ضحايا لهذا الجندي الغريب الذي أطلق النار علينا وتركنا ننزف حتى الموت. هو لا يبدو أنه مثلنا فلونه يختلف عن لون التراب والزيتون والزعتر البلدي وزهر اللوز والرمان والصبار. غريب جاء من بلاد بعيدة يدعي أن ربه أعطاه صكا بملكية هذه الأرض قبل ثلاثة آلاف سنة، وحان الوقت ليستردها ويعتبرنا أغرابا في بلادنا. جاء المهاجر الغريب ليفرغ رصاص الموت في من يحمل مقصا أو عصا أو حجرا، أو كوفية أو ذراعين مفتولين، أو ملامح التحدي أو أغنية وطنية أو علما، تحت حجة تهديد أمن الدولة المسلحة بصواريخ الموت الجماعي والأسلحة الفوسفورية ومخزون الحقد العابر للقرون والقارات. "إن شككت في أمر أحد أو لم يعجبك منظره أو خشيت حقيبة مدرستها أو حجابها إضغط على الزناد"، يقول له قائده المتوحش. "إقتل كي تكون". "أسهل الحلول القتل. أقتل ثم ناقش- اقتل ثم اعترض – اقتل ثم حقق"، هذا هو قانوننا الخارج من فوهة البندقية وأساطير التلموذ، ولا يهمنا رأي أحد فينا فنحن سادة هذا الكون ونحن فوق القانون وفوق البشر ومن لا يعجبه فليشك أمرنا لمجلس الأمن. وهذه بعض من حكاياتنا.
٭٭٭
الشهيدة أشرقت قطناني (16 عاما)
مخيم عسكر ـ نابلس
أنا يا أهلي وأحبتي بنت في السادسة عشرة من عمري. ولدت في 20 ديسمبر وسأحتفل معكم الشهر (المقبل) بعيد ميلادي السابع عشر. ولدت وعشت وكبرت في مخيم عسكر. أهلي هـُجّروا من بلدة يازور الجميلة على مدخل يافا. في 22 ديسمبر 1948 ارتكب إسحق رابين "الشريك في سلام الشجعان والحائز جائزة نوبل للسلام "مذبحة في الساعات الأولى للفجر ضد أجدادي، فهدم البيوت وقتل الناس وهم نيام، وخلف وراءه 15 ضحية، فاضطر الكثيرون من أجدادنا للرحيل. مسلسل المذابح لم يتوقف يوما واحدا وها قد وصلني اليوم. كبرت قبل الأوان وعقلي أكبر من عمري بكثير. أحب الإنشاء وأبدع في الكتابة. في سنتي النهائية في مدرسة قرطبة الثانوية للبنات قرب مخيمنا. كنت مسؤولة عن إذاعة المدرسة فأقف خطيبة كل صباح. جريئة في البيت والمدرسة والشارع. معلمتي قالت عني لوالدي "عندما أتحدث مع أشرقت فكأنني أتحدث مع محامية". معلمتي الأخرى وصفتني بالصحافية القديرة قبل أن أعرف الصحافة لطلاقة في اللسان وقدرة على التعبير. معلمة ثالثة قالت إنني ذراعها اليمنى أملأ الفراغ كلما تقاعست تلميذة في الواجب.
الابتسامة تزين وجهي دائما وقد حباني الله بعينين خضراوين بلون زيتون بلادي. متفائلة أبدا. أثق في الله وفي نفسي وأحب أبي وأمي وأخي وأعمامي، كما أحب فلسطين كل فلسطين من بحرها إلى نهرها ومسكونة بحب القدس، وعلى حائط غرفتي ملصق كبير "القدس عروس عروبتكم" وأحب محمود درويش وأحفظ كثيرا من شعره. قضيت وقتا في عمان في الصيف الفائت أساعد عمي وهو يصلح بيت جدتي وأطرى كثيرا عليّ لوالدي. عنيدة وحنونة ـ طيبة وكريمة النفس.
لا أحب العقلية الذكورية المتسلطة. تخانقت مع أخي ياسين ليلة الاستشهاد. طلب مني أن أحضر له طبقا من البطاطا المقلية فقلت له قم حضره بنفسك. أعدك يا ياسين أن أحضر لك أجمل الأطباق عندما نلتقي في الفردوس الأعلى، ولكن لا تستعجل باللحاق بي أرجوك يا أخي وحبيبي "فلنا في أرضنا ما نعمل. ولنا الماضي ولنا الحاضر والمستقبل" وأما الأغراب فهم "عابرون في كلام عابر".
كنت قرب حاجز حوارة صباح 22 نوفمبر ورآني رئيس رابطة المستوطنين الصهيوني الحاقد جرشون ماسيكا، فصاح بصوت عال إرهابية وأسرع بسيارته ودهسني ومر فوق جسدي ولم يكتف بذلك، بل اشترك مع الجنود في إفراغ زخات من الرصاص في جسدي الذي أصبح بحجم الوطن. توحد الوطن فيّ. وراء جنازتي سار جميع الشرفاء في كل الوطن العربي والعالم الإسلامي وشرفاء الإنسانية. ومدرستي- آه كم بكت معلماتي وزميلاتي عليّ- فصبرا يا أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس فقد قارب ليل فلسطين بالبلج.
٭٭٭
الشهيد عبد الرحمن البرغوثي (27 عاما)
ـ عابود ـ رام الله
أنا يا أهلي في الوطن والشتات إنسان بسيط طيب وسيم أحب بلدي عابود كثيرا. ولمن لا يعرف بلدتي فهي قطعة من جمال الطبيعة وعراقة التاريخ وعشق الحرية والكرامة والشموخ. لا نركع إلا لله. وفي بلدتنا كنيسة للروم الأرثوذوكس منذ القرن الرابع. والتعايش بين مسلمي البلدة ومسيحييها نموذج فذ حيث تتشابك العلاقات والبيوت والعادات والدعوات والسهرات. في هذا الجو ولدت وكبرت وكنت أرى يافا عن بعد فقد كانت بلدتنا قبل الكارثة الكبرى تابعة ليافا. اضطررت أن أقطع دراستي الجامعية لأساعد والديّ، وجيه وكوثر. فعملت مع المجلس البلدي لبلدتي عابود وكنت مسؤولا عن الخدمات المدنية وأتابع شؤون الناس واحتياجاتهم وشكاواهم. وفي يوم جاءت فتاة من بلدة دير غسانة المجاورة لورشة عمل في بلدتنا فدخلت القلب بلا استئذان وشعرت بأن الله قد منّ علي بمثل هذه الغزالة الخجولة. "إسراء – أيتها البرغوثية الرقيقة- سآتي لوالدك من الباب". تقدمت لخطبتها فورا. وبدأت أستعد لحفل الزفاف. عشت قصة حب لا أحلى ولا أجمل- كتبت لإسراء على صفحتها "أنت العمر كله. أنت الحياة بكاملها". كتبت لي "يوم العرس بدي تعزم كل البنات اللي كنت تحكي معهن وعندها غن لي "غيرك ما بختار". وسامتي وحبي للباس الأنيــــق كان يستهوي الفتيات، لكن إسراء ملأت الدنيا عليّ. كنت أنتظر اليوم الذي سيجمع العاشقين في بيت الزوجية. قال لي والدي أصلح شؤون البيــت ووسعه قليلا واسكن عندنا يا عبد الرحمن. وبدأت أصلح البيت مستعجلا ساعة الفرح. اضطر الوالدان أن يسافرا عند أختي في الولايات المتحدة للعلاج فبقيت وحدي وبدأت أتردد على أختي هبة وزوجها رشيد. فقد تعلقت بأطفالهما ولا أدخل البيت إلا وأحمل الهدايا لهم.
يوم الجمعة الرابع من هذا الشهر وقبل الصلاة مررت على هبة زرتها ثم غادرت. أصرت عليّ أن أبقى للغداء قلت سأقضي حاجة سريعة وأعود للغداء. هبة قالت بعد مغادرتي البيت لرشيد "وجه عبد الرحمن منوّر. كأنه استحم سبع مرات. أتذكر يا رشيد عندما قلت لك قبل سبع سنين حلمت بأن عبد الرحمن سيخرج شهيدا من بيتي. يدي على قلبي. من فضلك قل له أن يبقى معنا لنتناول طعام الغداء ونذهب للصلاة معا ونعود". هناك حاجز طيّار في البلدة قرب الطريق الترابي. فيه أربعة جنود أوقفوني بدون سبب. بعد التفتيش والمسبات والكلمات النابية اقترب أحد الحاقدين مني وسبني بطريقة مقذعه فأعدت له المسبة بأكبر منها فصفعني على وجهي، فرددت له الصفعة على وجهه فسقط على الأرض فاستند الجبان إلى سلاحه وأفرغ فيّ ست عشرة طلقة أخذت كثيرا من أعضاء جسمي معها. سمعت أختي أصوات الطلقات صاحت بزوجها رشيد "استشهد عبد الرحمن يا رشيد". "لا ـ توكلي على الله". رن الهاتف وعندما سقطت السماعة من يد رشيد انهارت هبة. أبناء البلدة اقتحموا الموقع وأخذوا جثماني عنوة رغم إطلاق النار الكثيف ودفنت يوم السبت وورائي الوطن بكامله فلا يوحد شعبنا شيء مثل دماء الشهداء.
٭٭٭
الشهيد يحيى يسري طه (20 عاما)
ـ قطنة ـ القدس
عشرون عاما يا رفاقي وأبناء بلدي وأهلي في الوطن العربي، كل رحلتي في هذه الحياة. عشت حياة الشظف ومرارة العيش وخرجت من الصف العاشر لأساعد والدي العليل وإخوتي وأخواتي التسعة. قطنة بلدتي تذكرني بفلسطين السليبة. فمن هذا الجبل العالي تستطيع مشاهدة البحر والطائرات تنزل في مطار اللد. وقريتنا حدودية سلبت معظم أراضيها للجزء المحتل عام 1948. وبسبب قلة الأرض وضيق سبل العيش تشتت أهل القرية في أصقاع الدنيا. لكن عائلتي آثرت أن تبقى مزروعة في البلدة.
أنا إنسان بسيط وخجول ولا أتدخل في شؤون أحد ولا أرفع صوتي عند الكلام ولا أقاطع أحدا يتكلم. ملتزم بواجباتي الدينية. أعمل في محددة لابن عمي قرب مثلث بلدة القبيبة القريبة من بلدتي.
يوم الخميس 26 نوفمبر غادرت أنا وأخواي عبيد ويوسف إلى العمل. اصطدمنا بوحدة عسكرية، ويبدو أن بعض الصبية ألقوا عليهم الحجارة في الوقت نفسه الذي وصلنا فيه. وإذا بالوحدة تقوم بفرض طوق علينا من جميع الجهات بعد أن طلبت مزيدا من الجنود. توقفنا وقررنا أن ننسحب إلى الخلف باتجاه بلدتنا. يبدو أن الوحدة العسكرية جاءت لتنتقم من شيء ما لا نعرفه. ونحن من خبرتنا نعرف أن الجيش عندما يطوق مجموعة من الشباب يطلق النار في كل الاتجاهات ولا بد أن يترك وراءه ضحايا بسبب أو بدون سبب. فبينما كان أخواي منبطحين على الأرض وكان هناك نوع من الهدوء قررت أن أرفع رأسي لمشاهدة ما إذا كانت الوحدة قد انسحبت أم لا، فعاجلتني طلقة من بندقية عنصري حاقد خرقت الرأس بدون أي سبب. إنها عملية إعدام في وضح النهار لأكون الشهيد الخامس في بلدة قطنة خلال هذه الموجة من المواجهات. هذا عدو حاقد بنى دولته على أنقاضنا ولم يمر يوم بدون قتل أو مصادرة لأرض أو هدم لبيت أو اعتقال لشاب أو فتاة.
وصيتنا
آخر كلامنا نحن معشر الشهداء وأهاليهم نناشد قيادات الشعب الفلسطيني ونستحلفهم بحق دمائنا وبحق حسرات قلوب أمهاتنا أن توحدوا كلمتكم وتلتقوا معا على طريق النضال. فهذا العدو الغاصب لا يطرح علينا إلا حلا واحدا الطرد أو الموت. فمتى نستفيق ونشبك أيادينا كأننا بنيان مرصوص لا تخترقه كل أسلحة الدمار الشامل التي تملكها هذه القاعدة المتقدمة لقوى الهيمنة والاستكبار والقهر والظلم. أليست الوحدة الوطنية من شروط الانتصار؟
د.عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز