أعادت الهبة الشعبية، وحرب السكاكين في الأراضي الفلسطينية، القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد أن انشغل العالم بقضايا دولية أخرى، وفي طليعتها الإرهاب وداعش، فالكيان الإسرائيلي يعيش في مأزق، الواحد تلو الآخر، مع انتشار حالة الرعب بين الجماهير منذ هبة السكاكين قبل بضعة أشهر، فالتعنت الإسرائيلي، وتراكم واستفحال القضايا أخذت تعصف وتحرج القيادة الإسرائيلية، ناهيك عن التحول في الرأي العام الأوروبي الذي أدى إلى مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، بل وحتى في المجتمعات الغربية، والمؤسسات الأكاديمية والعلمية، التي طالت بعض الجامعات الأميركية، فانتقل الصراع إلى الساحة الأميركية، فمركز "سبان" الصهيوني-اليهودي الذي يعتني بالحوار الإسرائيلي-الأميركي، الذي يعقد حوارات سنوية، بمشاركة إسرائيليين وأميركان وغير أميركان، يدلون بدلوهم من خلال هذا المركز، فالتحذير الذي أطلقه وزير الخارجية الأميركية "جون كيري"، في خطابه "السبت 5-12-2015" أمام الحضور من اللوبي الصهيوني، بدا فيه الكثير من الغضب والتشدد، في أعقاب مرور سنة من فشل مبادرة السلام التي حملها لإسرائيل والفلسطينيين، محذراً أن انهيار السلطة الفلسطينية، سيشكل كارثة على إسرائيل، لكن هذا التحذير، لم يلق آذاناً صاغية من قبل الحكومة الإسرائيلية، المستمرة في سياستها الاستيطانية والتوسعية، وقال "كيري" في خطابه، أنه حين ألتقى الرئيس "محمود عباس"، وجده يائساً أكثر من أي وقت مضى، وهذا اليأس يخيم على الشارع الفلسطيني، في غياب الثقة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، الذي لم يكن يوماً بهذا العمق، مستشهداً بدور قوات الأمن الفلسطينية في حماية الأمن، ودونها سيضطر الجيش الإسرائيلي لنشر عشرات آلاف الجنود في الضفة الغربية، وتساءل: هل أن الإسرائيليين مستعدون لتحمل العواقب؟ منتقداً الاستمرار في بناء المستوطنات، في مناطق مخصصة للفلسطينيين كجزء من دولتهم العتيدة، وأن من يريد دولة واحدة، سيحصل على الحرب، وأن إسرائيل تسير في هذا الطريق، ليصبح العرب أكثر من اليهود بين النهر والبحر، تقود لقيام دولة واحدة بدلاً من دولتين، موضحاً أن على "نتنياهو" أن يتبين على أرض الواقع، وأن تصريحاته بشأن حل الدولتين، مجرد شعارات فارغة من المحتوى، وأن مستقبل حل الدولتين أصبح يائساً، مما حذا لتحذير إسرائيل من عواقب سياستها المدمرة، لكن "نتنياهو" يستند على اتفاق "اوسلو" بإقامة حكم ذاتي للفلسطينيين مرجعيته إسرائيل للتخلص من حل الدولة الواحدة.
لقد اخترت تزيين رأس مقالي بخطاب "كيري" الجريء والهام، الذي لا ينسجم مع الدعم الأميركي لإسرائيل على كافة الصعد، الذي يمكّنها من الاستمرار في سياستها التوسعية، المدعومة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من الولايات المتحدة، حتى أن الرئيس الأميركي "باراك أوباما" أعلن أثناء استقباله الرئيس الإسرائيلي "روبي ريفلين" قبل أيام، أن أمن إسرائيل وتسليحها ودعمها سياسياً ومادياً، من أولوية أسس السياسة الأميركية، فإذا كانت هذه هي السياسة الأميركية الواضحة والمتجسدة على الأرض، دون الاشتراط لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، فلماذا تستجيب إسرائيل لمبادرات السلام الأميركية؟ ولما جاء في خطاب "كيري" في مركز "سبان"، وتتراجع عن فكرها الصهيوني، ومواقفها التوسعية، التي تعتبر حقها بأرض فلسطين الكاملة من البحر إلى النهر، إن لم يكن أكثر، وإذا كانت الولايات المتحدة صادقة بتحقيق السلام، وحل ما يسمى بالدولتين، فكيف تسمح للمنظمات اليهودية، ورجال أعمال أميركيين القيام خلال السنوات الخمسة الماضية بجمع الأموال، وتحويل مئات ملايين الدولارات لتمويل إقامة المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، عن طريق جمعيات غير ربحية أميركية، معفاة من الضرائب –حسب جريدة "هآرتس 8-12-2015"- أي أن الولايات المتحدة التي تطالب إسرائيل بوقف البناء الاستيطاني، تمول وتدعم بناء وتطوير المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، رغم أن جميع رؤساء الولايات المتحدة منذ عام 1967 يعارضون هذا الاستيطان رسمياً وعلنياً ويعتبرونه غير قانوني.
لا بد لنا هنا من تسليط الأضواء على مركز "سبان"، الذي بدأ نشاطه منذ عام "2004" في واشنطن، أقامه الإسرائيلي-الأميركي "حاييم سبان"، وهو من مواليد الإسكندرية في مصر عام 1944، رجل أعمال، تقدر ثروته بنحو 2.8 مليار دولار، وضعته مجلة "فوربس" عام "2006" في الترتيب رقم (98) في قائمة أغنى (400) شخص في أميركا، غادر المذكور مصر إلى إسرائيل عام (1956) ثم هاجر إلى أميركا، ومركز "سبان" يشكل إطاراً سنوياً للحوار بين الزعماء الأميركيين والإسرائيليين، في العديد من المجالات السياسية، وهدفه المعلن أن يكون إطاراً لتسوية القضايا السياسية والاجتماعية المتعلقة بالشرق الأوسط، من زاوية المصالح الأميركية-الإسرائيلية المشتركة، ومركز "سبان" لسياسات الشرق الأوسط، تابع لمعهد "بروكينجز" في واشنطن، وقد استضاف هذا المركز الكثير من الشخصيات من البلدين، إضافة لباحثين وصحفيين ورجال أعمال، لتبادل الآراء والتفكير للعثور على حلول للمشاكل المعقدة في الشرق الأوسط، وتعقد جلساته سنوياً بصورة تبادلية في واشنطن والقدس.
هناك مجموعة من الأسئلة، أفرزها النقاش الذي جرى في مركز "سبان"، ومن هذه الأسئلة: كيف ستستطيع إسرائيل الحفاظ على مزاعمها بأنها دولة يهودية وديمقراطية، بينما لن يكون فيها أغلبية يهودية مستقبلاً من البحر إلى النهر؟ وهل أن الاستيطان في الأراضي الفلسطينية لا يثير الشكوك حول مدى جدية ونوايا إسرائيل في السلام؟ وهل يدرك الإسرائيليون مغزى انهيار السلطة الفلسطينية ونتائج هذا الانهيار عليها؟ غير أن إسرائيل لا تذعن إلى التحذيرات التي طرحها "كيري" وغيره، خاصة بشأن انهيار السلطة الفلسطينية، بنفس المعايير التي طرحها "كيري"، فـ "نتنياهو" في كلمة مسجلة أمام مؤتمر "سبان"، وصف الإرهاب في كاليفورنيا وباريس وإسرائيل، في سلة واحدة، بأن الإرهاب يهاجم قيمنا التي نؤمن بها، من حرية وصبر وهذه القيم، هي الأساس للعلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة، متهماً الفلسطينيين بأنهم يتحدثون عن الرغبة بالسلام، لكنهم غير مؤهلين للتفكير بترك إسرائيل مكانها، فإن حلمهم إقامة الدولة الفلسطينية بدلاً من إسرائيل، ولذلك يرفضون الاعتراف في إطار اتفاقية سلام نهائية، الاعتراف بيهودية الدولة المرفوضة فلسطينياً جملة وتفصيلاً، وادعاءات "نتنياهو" هذه افتراءات وكذب فلديه القدرة على الكذب، ثم يصدق ما يكذبه، وربما يحاول جعل الآخرين يصدقونها، فقد كان يحاول أن يجعل التحريض محور القضية، ليقول للعالم أن التحريض الفلسطيني، هو المسؤول عن موجة العنف الأخيرة، متجاهلاً الصلة بين الغضب الفلسطيني على الاحتلال وممارساته وبناء المستوطنات، وهو يركز على التحريض، وخطاب الكراهية، ما يريد لشعبه وللعالم تصديقه، حتى ادعائه بأن الحاج "أمين الحسيني" مفتي القدس، كان وراء المحرقة النازية، وبعد اعتراض سياسيين ووسائل إعلام إسرائيلية على هذه الاتهامات للمفتي تراجع، وفي رده على "كيري": الحل ليس دولة واحدة، وإنما دولة فلسطينية منزوعة السلاح، والاعتراف بيهودية الدولة، أما نواب كنيست من اليمين الإسرائيلي، فإنهم يبشرونه أن "كيري" سيتغير قريباً، فهو ليس واقعياً بكل ما يتعلق بالشرق الأوسط.
خلال جلسة مجلس الوزراء الإسرائيلي الأسبوعي "6-12-2015"، تطرق "نتنياهو" لخطاب "كيري" في مؤتمر "سبان" وقال: أرى أن أوضح أن إسرائيل لن تكون دولة ثنائية القومية، ومن أجل إحلال السلام، يجب أن يكون الطرف الآخر-أي الفلسطيني- قرر أنه يريد السلام، وهذا لأسفي ما لم نره، فالتحريض الفلسطيني حسب "نتنياهو" ما زال متواصلاً، و"صائب عريقات" يذهب لتعزية عائلات "المخربين" الذين طعنوا يهوداً، فهو ليس فقط لا يشجب الإرهاب، بل يذهب لتعزيتهم، مما يعني أنه يدعم الإرهاب.
التحذيرات لإسرائيل، لم تأت من "كيري" فقط، فوزيرة الخارجية الأميركية السابقة "هيلاري كلينتون" والمرشحة من قبل الحزب الديمقراطي لرئاسة أميركا في الانتخابات القادمة، قالت في مركز "سبان" أن البديل للرئيس "عباس" الشريك المهم لعملية السلام، قد تكون "الأعلام السوداء لداعش"، وأن "عباس" أفضل شريك للسلام، وأكدت أن جميع الإدارات الأميركية، من ديمقراطية وجمهورية، عارضت الاستيطان واعتبرته غير قانوني، وحسب الصحفي "براك ربيد"، فإن إسرائيل تريد دولة ونصف، ولا تكتفي بالدولة داخل الخط الأخضر، أما "زهافا غلؤون" رئيسة حزب ميرتس اليساري، فرفضت تصريحات "نتنياهو" المكررة المرة تلو الأخرى، وادعاءها بأن الحكومة تبذل قصارى جهودها من أجل السلام، فالجميع يعرفون أن تصريحاته كاذبة، والحقيقة أنه يبذل كل جهده من أجل ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، ومن الجائز أن حكومته تحلم وتنتظر أن يأتي المسيح المنتظر، ليطرد من هنا أربعة ملايين فلسطيني، بينما شن وزير الجيش "موشيه يعالون" في مركز "سبان" هجوماً غير دبلوماسي وغير منطقي وغير عادي، على الإدارة الأميركية، بانعدام القيادة الأميركية، في حربها ضد الإسلام المتطرف.
إن حقيقة موقف الحكومة الإسرائيلية، بأن إسرائيل لم تعد محتلة للضفة الغربية، بل أن الضفة جزء من دولة إسرائيل، وسوف تبقى كذلك، يعارضون بشدة إقامة دولة فلسطينية، ويزعمون أنها ستعرض ملايين اليهود للخطر، حتى وإن كانت منزوعة السلاح، فالمساحة بين البحر والنهر سبعون كيلومتراً، وأن حديث "كيري" عن البحر والنهر، -حسب ادعاءات إسرائيل- أي عن أرض إسرائيل الكاملة كما يدعون، ولسنا بحاجة إلى التحذيرات التي يطلقها بشأن التهديد الديمغرافي، فـ "نتنياهو" يقول: لا للدولة الفلسطينية، ولا لحل الدولتين، وإنما دولة يهودية من البحر إلى النهر، دولة أبرتهايد عنصرية استيطانية مع تطهير عرقي، حتى أن بعضهم ما زالوا يتحدثون عن مقولة بالية، من النيل حتى الفرات، وهذه السياسات تشكل التهديد لاستمرار وجود إسرائيل.
بقلم: غازي السعدي