يقولونها هم: لا نخافهم… وشهادة عن قلقيلية

بقلم: فايز رشيد

المتتبع للصحف الإسرائيلية (وليست العبرية مثلما تسمى درايفر، كلوفاني بيتيناتو وغيرهم، إضافة إلى الاكتشافات الأثرية في مغايرْ ممكنة (إبلا) السامية كل ذلك يؤكد، أن العبرية كلمة كنعانية قديمة كانت تطلق على قبائل وأقوام كثيرة ولا علاقة لليهود بها لا من قريب أو بعيد) يلاحظ وبلا أدنى شك: تزايد استغراب ساكني الكيان من عدم خوف شعبنا منهم، ولا من أسلحتهم أو صواريخهم.
أذكر مرة عندما ناقشوا رابين في الكنيست عن عجز حكومته أمام الحد من موجة الاستشهاديين الفلسطينيين (شبابا وفتيات) أنه أجاب بغضب: وماذا أفعل أمام أناس لا يخافون الموت؟ سكت السائل ووجم. يتكرر المشهد الآن بشكلٍ أكثر دراماتيكية، كما ينعكس في صحافتهم.
يعقوب عميدور يقول في مقالته في "اسرائيل اليوم" 13 ديسمبر 2015: "في خضم موجة السكاكين المتواصلة، يُطرح السؤال حول ما يتوجب فعله ضد "المخربين" الذين ينفذون العمليات؟ في الإجابة يتبين للجميع: أن هناك حقا وواجبا لإحباط كل من يحاول القتل حينما تلوح يده بالسكين، أو حينما يدهس مجموعة من الناس. من الصحيح في حينه إطلاق النار عليه أو العمل على إحباطه، حتى لو كان الثمن حياته. عندما يكون هذا هو الوضع، فإن الخطوة الصحيحة واضحة، ومن السهل تبريرها. إذن ما هو الافضل من ناحية الفائدة المستقبلية؟ القتل أم إصابة حامل السكين؟ اعتقدتُ لفترة طويلة أنه كلما كان عدد "المخربين" القتلى أكثر، كان هذا أفضل، لأن هذا من شأنه أن يردع "المخرب" التالي. بعد تفكير معمق أكثر توصلت إلى استنتاج، أنه ليس من السيئ أن يخرج "المخربون" مصابون من هذه العمليات، لأنه توجد ظروف يكون فيها "المخرب" المعاق، أفضل من "المخرب" الميت، وسبب ذلك هو "ثقافة الموت" عند الطرف الآخر".
أيضا وإبان العدوان الصهيوني على القطاع 2014 نشرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل " تقريرا عن الصواريخ التي تطلقها إسرائيل على أهل غزة، الذين لا يفزعون منها، على عكس الإسرائيليين من المدنيين والشرطة والجيش، الذين يفزعون وينبطحون بمجرد سماع صفارات الإنذار للصواريخ المقبلة من قطاع غزة، يدوية الصنع. يقول التقرير: "في البلدة القديمة بالقدس، انطلقت صفارات الإنذار مساء أمس السبت بينما كانت عزّة علان- ربة منزل 26 سنة- وعائلتها، يستعدون للإفطار في رمضان، تقول علان: "وضعت بناتي الخمس في البيت، لم نخرج، لا توجد لدينا ملاجئ في البلدة القديمة، لدينا الله ليحمينا". ويضيف التقرير: "يبدو أن الصواريخ فوق القدس لا تجعل الفلسطينيين فيها ا أكثر تحديا فقط، ولكنها تجعلهم أكثر غضبا تجاه إسرائيل. يظل سكان البلدة القديمة مرتابين من الإعلام الإسرائيلي، ويرفضون أخذ صورا لهم أو حتى استخدام أسمائهم. ويقول بائع أحذية فلسطيني: إن أطفال القدس يخرجون إلى الشوارع عندما تنطلق صفارات الإنذار تضامنا مع أطفال غزة، وأن الأطفال يحبونها كأنها لعب أطفال، "نقول لهم أدخلوا إلى البيت، يردون: لا نريد الدخول، نريد الموت مثل أولئك الموجودين في غزة"، ويخاطب البائع، الجمهور الإسرائيلي قائلا: "إن كنتم بهذه القوة، ادخلوا غزة عن طريق البر وسنرى، لا يجرؤ جنودكم على الدخول سنتيمترا واحدا فيها". من زاوية ثانية، قال ضابط إسرائيلي كبير في لقاء له ("معاريف"، 12 ديسمبر الحالي 2015): "ترعرع جيل فلسطيني لا يخاف منا، وكان المراسل العسكري للصحيفة، نوعام أمير، انضم ليلة الأربعاء (ليلة نشر المقال) إلى كتيبة "إفرايم"، التي يقودها الكولونيل روعي شطريت، أثناء وجود قوات الاحتلال في مدينة قلقيلية، يقول شطريت: "أبحث عن الهدوء، وفي الواقع نحن نواجه 600 من المخلين بالنظام، وإطلاق نار على الشوارع ومحاولات التسلل إلى المستوطنات". وكشف شطريت النقاب عن أنه "في كل ليلة نجلس، ضباط الجيش والشاباك وحرس الحدود مع مسؤولين أمنيين حول الطاولة ونعيش الواقع من أجل إحباط العمليات.
هذه الليلة ليست ككل الليالي. فاليوم يتم إحياء الذكرى السنوية لإقامة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وعلى طاولة قائد اللواء وُضع تقويم للوضع يقول: إن الفرع المحلي للمنظمة في قلقيلية، يعد ببضع مفاجآت للواء أفرايم. إحداها هي كمية كبيرة من مواد التحريض، التي ستخرج إلى الشوارع في ساعات الصباح لإشعال المنطقة. وبالتالي فإن الهدف المقبل هو مقر الجبهة في المدينة. في الطريق نلتقي بشبان يحملون الحجارة، الزجاجات الحارقة وعبوات ناسفة من صنع محلي، ولكن القوة لا تصطدم بهم، بل تتوجه إلى زقاق التفافي. في الطريق تتباهى قلقيلية بـ"أفضل ابنائها". بوسترات تمجد الشهداء معلقة على الدكاكين المفتوحة حتى في الليل، وفيها الشباب أساسا. في داخل قلقيلية، لاحظ بعض الشبان قافلة الجيش الإسرائيلي، فامتشقوا هواتفهم النقالة. تصل القافلة إلى شارع يوجد فيه مقر الجبهة. ويستعد مقاتلو حرس الحدود الذين يعرفون كل زقاق، كما مقاتلي كتيبة نمر في سلاح المدفعية للدخول إلى الهدف. كل واحد يعرف بالضبط مكانه. الدخول إلى المقر سلس، والمكان يصبح في لحظة هدفا محصنا، أصوات المطرقة الثقيلة التي تكسر القفل تسمع من بعيد. والآن بات الجميع يعرف أن الجيش هنا. الباب ينهار. على الحائط صور الشهداء المعروضين كأبطال مع تاريخ ولادة وموت ووصف للعملية التي صفوا فيها. وفي الخزانات مناشير تدعو إلى الانتفاضة في يوم الغضب. صور زعماء الجبهة وأعلام فلسطين، أقلام وعليها شعار الجبهة، قمصان مطبوعة وأعلام حمراء. يمشط المقاتلون المكان ويجمعون مواد التحريض والعداء. ويشرح شطريت ويقول "هذا التحريض تنتجه أجواء الشارع فتراه في الميدان. في شدة الإخلال بالنظام أيضا يوجد تصعيد واضح، فعندما يمجدون الشهداء بالمناشير، وتعلق على المحلات صور "المخربين" الموتى، فإن هذا يخلق "أجواء التحريض وهذا يجب إيقافه"، ويقول قائد اللواء "تربى هنا جيل لا يتذكر السور الواقي ولا يخاف". على صعيد آخر يحرص الشباب الفلسطينيون على استمرار نشر صورة لجنود الاحتلال وهم يفرون من أمام منفذ عملية إطلاق النار في "بئر السبع".

بصراحة، لا نستغرب تصوراتهم الخيالية الواهمة دوما صحيح أنهم اختاروا فلسطين من بين 13 خيارا لمشروعهم الصهيوني، ربما درسوا كل ظروفها، تصوروا اهلها ليسوا أكثر من بضعة آلاف من البدو الرحل، كما أطلق عليهم نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس"، هذا رغم أن مدينتي حيفا ويافا مثّلتا عاصمتي المتوسط في العالم، لم يدرسوا تاريخ مقاومة الفلسطينيين لكل الغزاة، لم يدرسوا مقاومة الجزار ولا ما تعنيه أسوار عكا… أو تجاهلوا كل ذلك، باعتبارهم السوبرمانيين الجدد. هم يفكرون بعلقية الغاصب، المابعدفاشي والسوبر عنصري لا يدركون: أن سوء حظهم أنهم قرروا احتلال أرض الفلسطينيين، الذين لم يسبق أن كسر أحد شوكتهم، لا صليبيا، ولا عثمانيا ولا بريطانيا، وبالتأكيد لا صهيونيا.
قلقيلية، التي تحدث عنها الصحافي نوعام أمير، وعاش فيها ساعات مع قائد كتيبة "أفرايم" الاحتلالية روعي شطريت، هي مدينتي وأنا محروم من دخولها مثل الآلاف من أبنائها منذ بداية عام 1969 (بداية اعتقالي لسنتين ثم إبعادي خارجها إلى الأردن نهاية عام 1970) وحتى اللحظة قلقيلية ذاقت من الاحتلال الصهيوني عام 1948 كل الويلات، كل بضع سنوات تعاني من هجوم عسكري صهيوني عليها، إنها النقطة الأقرب إلى حدود فلسطين المحتلة عام 48. كانت تقاوم طيلة سنوات الاحتلال. في بداية النكبة بالطبع، وكما حدثتني المرحومة والدتي: فقد أهلها مصدر رزقهم المعتمد على إنتاج بياراتهم من البرتقال، وقد اغتصبها الصهاينة. كان أخي الأكبر يشير لي، من بيارتنا على الحدود الشمالية لقلقيلية إلى بيارتنا المحتلة وراء سكة الحديد القريبة، كان ذلك أواسط الخمسينيات في محاولة لسد رمق أهلها، فقدت قلقيلية عشرات الشهداء من الذين فقط أرادوا إطعام عائلاتهم اقتاتوا لسنوات على التمر المقدّم إليهم من العراق. كثيرون من أرباب عائلاتها حرّموا على أنفسهم أكل البرتقال بعد احتلال بياراتهم ومنهم والدي.
ليلة 10 أكتوبر 1956 هجم الإسرائيليون على قلقيلية بالدبابات والطائرات واجتاحوها دمروا الكثير من الأهداف فيها دافع عنها أبناؤها وقطعات قليلة من الجيش الأردني. كان أبناؤها يشترون البواريد الإنكليزية بعد بيع ذهب نسائهم. فقدت قلقيلية تلك الليلة 83 شهيدا من أبنائها. ونتيجة لحقد صهيوني قديم ومتأصل عليها، طرد الكيان أهلها جميعا من بيوتهم وهجّرهم خارجها وبدأ بهدم بيوتها . ثارت ضجة دولية وكان قرار مجلس الأمن بإعادة سكانها إليها. كانت إسرائيل قد هدمت حوالي 900 بيت ( ومنها بيت أهل كاتب هذه السطور). قلقيلية ليست حالة فلسطينية متفردة، كل منطقة في وطننا الخالد في قلوبنا، لها قصة بطولة وتضحيات ويستغرب الصهاينة.. أن شعبنا لا يخافهم؟

٭ كاتب فلسطيني
د. فايز رشيد