في مساء ليل الثالث عشر من تشرين الثاني المنصرم، وبعد وجبة لعب دسمة مع صغيري يمان الشقي، و تصفح كالعادة للمواقع الإخبارية، فإذا بها تصدح بتغريدات عن باريس، بوقوع انفجارات وضحايا، لم أصدق ما كتب على حائط الأصدقاء في موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، وخصوصا بعد حالة الانفلات الإعلامي التي يشهدها منذ الهبة الجماهيرية الفلسطينية، لدرجة أنه وفي أحيان كثيرة، تخيلت أن "جيش الاحتلال أصبح باب بيتي واقتحم قريتي واعتقل كل من فيها"، فكان ملجأي الوحيد وكالة فرانس برس وفرانس 24 للتأكد من خبر باريس، قلت لقد طار حلم الوصول إلى فرنسا، وتعقدت أمور رحلة عمل، دعيت عليها من قبل "جمعية بوفمنت – فلسطين" أنا ورفيقاي في جمعية حياة للعمل التنموي والتطوعي.
دخلنا في حيره كبيره أنا وأصدقائي بخصوص السفر إلى باريس ، لم نعرف كيف سنتصرف في تلك الظروف ، فما كان بين يدينا إلا بالدعاء لله عز وجل أن ييسر أمرنا ويبعد عنا الضرر فحزمنا أمتعتنا وأمضينا طريقنا نحو الهدف دون تردد، كنت أخشى أن تكون لتلك التفجيرات الإرهابية أثارها المرتدة على سفرنا، وعلى معاملتنا كعرب ومسلمين، لكن ما خشيته لم يكن إلا مجرد أحلام، فطريق باريس سالكة دون تعقيد، ولم ينغص السفر إلا تعقيدات الاحتلال وإجراءات الجسور التي يكابد فيها المسافر الفلسطيني عناء يضاف إلى عناء سفره، بين تفتيش دقيق وتأخير متعمد، وحزم أمتعة على الجسور.
وصلنا مطار "شارل ديغول" الساعة العاشرة والنصف صباحا بتوقيت باريس ، وقفنا كطلاب مؤدبين في صف طويل، وصلت إلى شباك موظف المطار ناولته جواز سفري الفلسطيني وأوراق الدعوة المرفقة من الجمعية المستضيفة، تحدثت معه بالانجليزية، وبإجراءات روتينية عادية وبعدها ارجع لي جواز سفري مختوما مع ابتسامة لطيفة قائلا "أهلا وسهلا بك في فرنسا" انفرجت الأسارير وزال التعب والهم حينها ، فالبرغم من حالة الطوارئ التي تمر بها البلاد، إلا إن الاستقبال كان لطيفا، فنحن في أم الديمقراطية.
حزمنا أمتعنا وإذا بالصديق دانيال (71) بانتظارنا في المطار ، ليصحبنا وإياه إلى "بوفمنت" مقر إقامة الثلاثي القادم من فلسطين، وفي الطريق من باريس الى بوفمنت تبادلنا الحديث وقدمنا التعازي بضحايا تفجيرات باريس الإرهابية، وتعرفنا أكثر على دانيال فهو مهندس متقاعد أسس ومجموعة من رفاقه في بلدة بوفمنت جمعية اسمها (بوفمبت – فلسطين ) وهي جمعيه بسيطة تأسست عام 2009 ، تهتم بشؤون البلدة ، بعض متطوعيها زار فلسطين وتعرف على أهلها وشارك بالتضامن في بلعين وغيرها من المناطق لدرجة أنهم أصبحوا يعشقوا حتى الأكل الفلسطيني.
بوفمنت إلى الشمال من باريس بلدة هادئة يبلغ عدد سكانها 6 آلاف نسمة اغلبهم من كبار السن، بها ثلاث مدارس، وبلدية تقيم توأمة مع قرية كفر نعمة غرب رام الله، تقع في منطقة خضراء، وبها عدد من المؤسسات.
لم يستقبلنا الرفاق الفرنسيون للمبيت في فندق، بل وزعنا على بيوت أعضاء جمعية بوفمنت – فلسطين، بيوت بسيطة أنيقة مرتبه هادئة، يحيط بها الخضار من كل حدب وصوب، إنها الأناقة الفرنسية، لم أشعر طيلة الثمانية أيام أنني غريب، كانت الضيافة حاضرة، وكان الحب للقادمين من فلسطين له رونق خاص، كان التنظيم للوقت للبرنامج للطعام ولزيارة المؤسسات دقيقا مرتبا، خاليا من أي دقيقة أو ثانية عبثية، وكانت فرصة ثمينة للتخفيف من عبء التدخين حيث أنه ممنوع عليك التدخين داخل المنزل أو أثناء التنقل بالسيارة، التزمنا بالثقافة الفرنسية ،وحاولنا جاهدين التعرف والتعلم من هذه الثقافة.
وضعنا الامتعه من اليوم الأول في منزلنا، وتعرفنا على من يستضيفنا، فجمعنا اللقاء الأول في بيت السيدة كاثرين رئيسة الجمعية التي استقبلتنا بغداء عربي هو "العدس" بالطريقة الفرنسية، فكانت فلسطين حاضرة .
أثناء العودة مساء يوم الثلاثاء وهو اليوم الأول لي في فرنسا ، اخبرني دانيال بقصة زادت من محبتي لهذا الشعب الصديق لفلسطين، الذي يتحلى بإنسانية تفوق التصور، قال "أثناء عودته من باريس وجد شخصا في محطة القطار إيراني اسمه "أرينا"، لا يوجد بحوزته أية أوراق ثبوتيه ولا يوجد معه مال ويشعر بالتعب والجوع، اصطحبه إلى منزله قدم له المأوى والشراب والطعام، وأعطاه غرفة ووفر له الاتصال، وبعد ذلك سعى جاهدا من خلال الدوائر الفرنسية الرسمية لتسهيل إقامته في فرنسا .
"نداجا" مدرسة تخصص لغة انجليزية متقاعدة تبلغ من العمر 62 عاما، زوجها السيد "دانيال" مهندس صوت، في بيتها الصغير المرتب بطريقة فنية، استضافت رئيس جمعية حياة، ترتب وقتها بدقة متناهية فليس هناك ساعة زمنية بلا عمل، مابين عملها متطوعة في جمعية "بوفمنت – فلسطين" إلى وقت الذهاب للمكتبة للقراءة و ترتيب حديقة المنزل ومن ثم زراعة بعض الثمار والورود حول منزلها .
بينما السيدة كاثرين كانت مع السيدة جويل والسيدة آني وهن في سن السبعين عاما وفي درجة حرارة وصلت إلى الصفر يلصقن بوسترات ويجهزن لحفل فني تضامني لصالح فلسطين.
في تمام التاسعة صباحا أتت السيدة نداجا إلى البيت لتوقظني للذهاب إلى البازار الأسبوعي الذي تقيمه البلدة كل يوم سبت، حيث يأتي أهلها لشراء حاجياتهم، فالجمعية تستغل هذه المناسبة للترويج للحفل أو أي عمل خيري آخر.
وفي الخامسة والنصف مساء كانت القاعة المعدة لذلك جاهزة مرتبة كل واحدة منهن حافظة مكانها دورها وعملها، أعدت كل متطوعات الجمعية الأكل والحلويات والشراب في بيوتهن، وكان دانيال قد وضع كل أجهزة الصوت في القاعة، وارتدت كاثرين وآني الأثواب الفلسطينية، وبدأ أهل البلدة بالقدوم للحفل، وعلى أهازيج فرقة القدس للفنون الشعبية التي لبت النداء بقيادة الفنانة الفلسطينية عبير حماد وفرقتها الموسيقية كان حفلا فلسطيناً بامتياز، وبعد انتهاء الحفل وفي اقل من ساعة كانت القاعة جاهزة للتسليم.
أنا الشاب الفلسطيني ابن الثلاثين عاما لم أصمد أمام برد بوفمنت وشعرت بالعجز والشيخوخة أمام حركتهن المتناسقة وعملهن الدؤوب، إنهن يؤمن بقضية وأخذن على عاتقهن إنجاح هذا الحفل، تلك النساء التي اقلهن عمراً 60 عاما، قسمن الأدوار فيما بينهن في نظافة القاعة وغسل الأواني وترتيب الكراسي، حقا إنها ثقافة وتربية، بناء المجتمعات لن يكون بخطب رنانة وشعارات فارغة.
حطت بنا الرحال لزيارة عدة مؤسسات فرنسية غير حكومية تعمل بتمويل ذاتي وتطوعي ، سر نجاحها هو العمل ضمن فريق واحد، وتقدير لقيمة الوقت والجهد، فكان لقاؤنا الاول مع جمعية "ستي سيفايز" وهي من اكبر وأهم الجمعيات الأهلية الفرنسية التي تعمل في مجال الخدمة المدنية، قوامها مجموعه من الشباب المتطوعين في برامج مختلفة لدعم ومساعدة المناطق النائية وكذلك كبار السن.
فإحدى خدماتهم تسمى بالاتصال ، فتخصص الجمعية مجموعة من المتطوعين للرد على اتصالات تأتيها من كبار السن، تتلقى تلك الاتصالات وتقوم بإرسال فريق من متطوعيها لمساعدتهم مثل إصلاح لامبه كهرباء، تنظيف حديقة ...الخ من الأعمال المشابهة، كذلك لديهم برامج تتعلق بالمدارس والعديد العديد من المؤسسات الاجتماعية، تقوم بخدمات تطوعية في المجال الاجتماعي والإنساني.
أما "معهد ليبولي للتمكين الاقتصادي" فهو مختص بالتدريب التكنولوجي لشريحة الشباب الذين لم يحالفهم الحظ في إكمال دراستهم الثانوية حتى ينخرطوا في سوق العمل وإيجاد فرصة عمل مناسبة، حيث أن المعهد لديه مختبرات حاسوب، ويعمل دورات على مراحل عدة لمدة 9 شهور تؤهل الطالب الذي ينتسب اليه لأن يكتسب مهارات عمل الفوتوشوب والجرافيك والديزاين ...الخ وهذه الدورات مجانية، وبعد ذلك وطبقا لدراسات يجريها حول حاجيات السوق يقوم بتوظيف الطلبة الخريجين ومتابعتهم بعد استلام العمل لمدة ثلاث أشهر.
وأثناء عودتنا من باريس كنا نتحدث العربية بعد نزولنا من القطار ، فإذا بفتاة توقفنا قائلة انتم الوفد القادم لبوفمنت من فلسطين ، قلنا نعم ، ابتسمت وظهر عليها الفرح ، في البدء تخيلت أنها فلسطينية ، فبعد السلام والكلام تعرفنا عليها فهي فتاه جزائريه اسمها صالحة تسكن بوفمنت الفرنسية ، والتي تعرف وتتابع كل صغيرة وكبيرة عن فلسطين وعن الهبة الجماهيرية وعن الشهداء والقتل والاحتلال ، وأيضا عن مدينة الخليل وما يحدث بها ، ودعتنا بفرح قائلة مع فلسطين ضالمة او مظلومة ، وسارعت خطواتها تحت زخات المطر لتجهز نفسها لتحلق بنا إلى مبني بلدية بوفمنت حيث كان لنا لقاء مع رئيسها وأعضائها ، دخلت صالحة بالحديث عن فلسطين واهلها في لقاء البلدية ، وبنهاية اللقاء طالبت جمعية بوفمنت –فلسطين أن تضع على برنامجها يوم عشاء للوفد الفلسطيني في منزل أختها وبوجودها .
فالعرب في فرنسا وتحديدا الأخوة الجزائريين يعطوا لفلسطين من قلوبهم ، زميلي رئيس العلاقات الخارجية بالجمعية استضافه السيد شوقي الجزائري ، وهو عضو بجمعية بوفمنت فلسطين ، شوقي الذي يعمل مهندس كمبيوتر واتى لفرنسا ابن السادسة عشر وهو شاب في مطلع الثلاثين من عمره ، شاب مثابر وطموح ونشيط يزداد نشاطه عشره أضعاف عندما يسمع أن العمل لفلسطين ، يسأل عن الوطن المسلوب عن القضية عن شبابها شيخوها عن قراها مدنها ، عن ذلك الغريب الذي يحاربه أيضا في فرنسا ذلك الاحتلال الذي يبطش ويقتل ، كان بيته بيتنا ، مما زاد من فرحنا أيضا لقاء أب زوجته العم لطفي الذي كان عمنا في غربتنا وكان خفيف الظل يمازحنا يتكلم والابتسامة لا تفارق شفتيه .
احمد ممرض عمل مع طبيب فلسطيني في الجزائر ، شاء القدر ان يأتي لفرنسا ، وزوجته السيدة خيرا شقيقة صالحة نائب مدير مدرسة زرناها والتقينا بطلابها، كان إصرارهم على ضرب برنامج بوفمنت –فلسطين وسرقتنا بليلة عشاء جزائرية في بيتهم ومع أطفالهم وبوجود الأخوات خيرا وصالحة وصابرينا وصحرا ، ربما كانت أجمل وجبة عشاء فهي تطهو بشكل ماهر ، رغم تعبها وداومها المتأخر ومشاغلها وأطفالها إلا أن تلك العائلة الجزائرية أصرت أن تودعنا ، فكانت ليلة سهر ممتعه لم تخلو من الحديث عن فلسطين والروابط القوية بين الجزائر وفلسطين ، لم أرى دفئا وحبا وإيمانا بقضيتنا كما رأيت عندهم .
في الغربة أنت سفير لوطنك وإن كان كحالنا في فلسطين فالواجب اكبر ، تتفاجأ كثيرا عندما تجد أن العالم الذي تتوهم أنه يعرف عن قضيتك وبانتظار دعمها وتأييدها، ورغم أن العالم تحول لقرية صغيرة لا يعرف إلا القليل ، تسأل أين دور إعلامنا مؤسساتنا سفاراتنا ودورنا كنشطاء مجتمعيين ، لم نغادر فرنسا قبل أن يرتب لنا لقاء مع مدرسة "كولي فيتكور " التي فتحت أبوابها لاستقبالنا وعقد لقاء مع مجموعتين من الطلاب ، كان محور حديثنا فلسطين والطفولة وطلبة المدارس ، هناك لم تصلهم بعد القضية يسألون عن فلسطين ، وضحنا لهم ودعمنا ما تحدثنا به بصور كنت قد احتفظت بها على جهاز هاتفي المحمول حول اعتداءات الاحتلال على طلبة المدارس وكذلك عن معاناة السكان في الوصول لبيوتهم لمزارعهم خلف الجدار ، استمعنا منهم لأسئلة متعددة وقدمنا شرحا حول كل معا تعانيه الطفولة ، ودعونا بسلام وبدعوات تحمل الحب والأمل لأطفال فلسطين .
في اليوم الأخير من رحلتنا كانت الاستضافة من الصديقة جولي من جمعية بوفمنت –فلسطين اتفقنا على مواصلة اللقاءات ، ووجهنا دعوة لهم بزيارة فلسطين ، ليكونوا على قرب من الأحداث ليعيشوا تجربة الشعب وفي بيوت أعضاء جمعية حياة للعمل التنموي والتطوعي ، فتلك فرصة نادرة لن يستطيع أي شخص مهما حاول جاهدا الكتابة والعمل من أجل قضية أن يوصل رسالته للآخرين إن لم تكن تجربته من أرض الواقع ، ربما من خلال تجربة بسيطة نستطيع أن نفتح جدارا مؤثرا وقويا في الرأي العام الفرنسي ، فالتجربة ما زالت في البداية ومع العمل والجهد نكون قد وصلنا لمشوار الألف ميل الذي يبدأ بخطوة واحدة .
بقلم :حسني شيلو