لقد رغبت مراراً في تأجيل الكتابة في هذا الأمر نظراً لحساسيته وأملاً في تشكل وعي جديد لدى النخب السياسية في كثير من دول العالم لتغيير منهجية ونمطية التعامل مع الإعلام العربي بصورة غير نمطية ، بصورة تليق بالعقل المعاصر والوعي المعاصر ، حتى ولو في مجال الاختلاف وتباين وجهات النظر .
لن أعود للتاريخ كثيراً في إبراز الشواهد على استهداف الإعلاميين والناشطين في المجتمعات من خلال التصفية الجسدية أو التصفية المعنوية من خلال حملات التشويه والتشهير التي استهدفتهم على مدار العقود السابقة ، لا سيما بعد وجود تيارات تعارض الأنظمة السياسية في العالم العربي ، وهو ما تطلب مواجهة إعلامية بين تيارين على أقل تقدير في كل مجتمع ، مواجهة كان لا بد لها أن تكون بناءة هادفة ، ولكنها بكل أسف أخذت شكل التشهير الأحمق والدفع بالشخصنة لتشكيك الناس بالرموز والقيادات المجتمعية لهذا الطرف أو ذاك .
في أحدث المشاهد الموجودة في زماننا هذا ، وبعد الربيع العربي وتمايز المواقف بين الثورات والثورات المضادة ، وبين جيوش الإعلاميين المنضوين تحت راية هذه الجهة أو تلك ، باتت المجتمعات العربية أمام سيناريو مقيت متكرر لحالة الاستهداف المستمرة للرموز السياسية والإعلامية والمجتمعية والمؤسسية ، ونزلت للمستويات الشخصية بصورة واضحة ومركزة .
لقد كان عامل دخول وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها بصورة كبيرة عنصراً هاماً في معادلة انتشار الأخبار دون التوثق من مصداقيتها ، وإذا أضفنا لذلك عامل القدرات التكنولوجية في مجال الدوبلاج والتركيب الصوتي والحركي ، نكون أمام إمكانيات مفتوحة تكنولوجياً في فضاء بلا رقيب ، وهو خطر استراتيجي قد يظن البعض أنه سلاح بأيديهم ، ولكن الحقيقة أنه سلاح مزدوج وستنعكس آثاره على المجموع بصورة مباشرة وقوية .
دعوني أطرح هنا نموذجين من النماذج للاستدلال فقط .
أولاً : ما حصل مع الزميل الصحفي في قناة الجزيرة أحمد منصور في ألمانيا ، وحالة العداء التي حدت بدولة كاملة أن تنشغل بكل قدراتها الدبلوماسية وعلاقاتها الدولية وقنواتها الفضائية أن تهاجم شخصاً بعينه ناهيك عن المؤسسة التي يعمل بها ، وهي حالة غير مسبوقة بالفعل من حيث الحجم والأثر والدلالة ، وإذا أضفنا لها طبيعة الاتهامات بالتجارة بالمخدرات والاغتصاب وإهانة نظام دولة وارتكاب جرائم متعددة ، فنحن أمام صورة أكثر قتاماً وسوءاً من حيث الحجم الفعلي لحجم الحملة ومن يقف وراءها ، ولولا حجم وثقل المؤسسة التي يعمل بها لتغيرت مجريات كثيرة في الإعلام العربي.
ثانياً : القنوات التي تم افتتاحها في دول العالم الأوروبي وتركيا والعالم العربي بعد تهجير المعارضين من كل الدول العربية التي شهدت الثورات ، فلا تكاد تجد مؤسسة إعلامية واحدة ، أو صحفياً يعمل فيها ، أو حتى عاملاً تقنياً قد سلم من الاتهام والتشهير والتجريح الشخصي والتهديد بالقتل والتهديد باعتقال الأسرة أو التنكيل بالأقارب ، وهي حالة في غاية العدائية والغباء والسذاجة انتهى عهد فاعليتها، ولم تعد تنطلي على أحد سوى العقول السخيفة التي لا جدوى من رأيها في المجتمع .
هنا يبرز دور النقابات الصحفية العالمية بقوة ، ومؤسسات الإعلام التي لديها تعاقدات مع المؤسسات الإعلامية والقانونية العالمية ، لتلعب دوراً أكثر مركزية في مواجهة هذه الظاهرة الآخذة بالتوسع برغم سخافتها ، والبدء بحملات ملاحقة المستخفين بالحقوق الأساسية ، كحق التعبير وحق التظاهر والحق في الوصول للمعلومات والحق في مخالفة الرأي ، والحق الأبرز في الحياة ، وهو ما يعني حماية لمنظومة الإعلام قبل شخوص الإعلاميين ، وقوانين صارمة لحماية اللاهين بالتشهير للسياسيين والرياضيين والشخصيات البارزة في المجتمع وليس للإعلاميين فحسب.
إن استمرار هذه الظاهرة وتوسعها مع الإعلام الجديد يتيح الفرصة أمام الجميع لتدمير كل البناء الاجتماعي ، ونسف العلاقات الداخلية وتشويه الكل السياسي والإعلامي ، فلا يوجد أحد في عصر العولمة ليس لديه ألف منبر إعلامي ، ولو أتيح المجال لكل تافه أن يشوه من يشاء لنسفت كل قواعد المجتمع وعوامل الاستقرار فيه بفعل الجهلة والأدوات اللاهية للأنظمة المستبدة وشياطين الإنس التي تتقن إعلام الفوضى باحتراف
المستشار د. نزار الحرباوي