لا يختلف الباحثون في العلوم السياسية والقانونية، على إعتبار أن القضاء في أي دولة يمثل الصورة الأبرز، للتعبير عن سيادة الدولة وسيادة القانون بين أفرادها، وبين الدولة ومؤسساتها من جهة وأفرادها من جهة أخرى، ولذا حرصت كافة الدساتير والقوانين والأنظمة على التأكيد على مبدأ سيادة القانون، والمتلازم مع مبدأ إستقلال القضاء في الدولة عن سلطتيها التشريعية والتنفيذية إستقلالاً تاماً، لضمان نزاهة القضاء والأحكام الصادرة عنه، وتحقيق مبدأ العدالة بين الجميع، حكاماً ومحكومين على أسس قانونية واضحة، ولذا تجد القضاء في دولة القانون والمؤسسات، يبنى على أساس التدرج في التقاضي، وكفالة حق الجميع من أفراد ومؤسسات، من حكام ومحكومين، في التقاضي واللجوء إلى القضاء لفض النزاعات، وحماية الحقوق، وتوفير الأمن والأمان، وضمان السلم الأهلي والمجتمعي وحفظ الأمن والنظام العام داخل حدود تلك الدول حيث تمتد سلطة القضاء على كامل رقعة أو إقليم الدولة، وبالتالي ليس من حق أي دولة التدخل في قضاء وأحكام الدول الأخرى، المتفقة والقواعد القانونية المعتمدة فيها، والتي يجر التقاضي على أساسها، وفق الأصول والإجراءات والمساطر المرعية في هذا الشأن.
إن تشريعات وقوانين الدول تتطور وفق تطورات الدول وبما يلبي حاجتها وحاجات مواطنيها والمقيمين على أرضها على إختلاف جنسياتهم وألوانهم دون تمييز بين فئة وأخرى، أو طائفة وأخرى، فالجميع سواسية أمام القانون بإستثناء تلك النظم العنصرية التي إعتمدت التمييز بين لون وآخر أو دين وآخر كما كان الأمر في دولة الأبارتهايد (الفصل العنصري) في دولة جنوب إفريقيا، وكذلك كافة الدول الإستعمارية التي كانت تمارس التمييز العنصري تجاه الشعوب المستعمرة في مستعمراتها دون إستثناء فقد كانت كافة النظم الإستعمارية نظم عنصرية، لا تساوي بين محكوميها من مواطنيها ومواطني مستعمراتها في إفريقيا وآسيا، وكما حاصل اليوم في فلسطين المحتلة من قبل الكيان الصهيوني الذي يمارس أبشع صور التمييز العنصري بين مستوطنيه الصهاينة (اليهود) والفلسطينيين السكان الأصليين سواء في فلسطين المحتلة عام 1948م أو في المناطق المحتلة عام 1967م، وفق منظومة إجراءات وتشريعات يجري تسمينها يوماً بعد يوم، ليكشف عن الوجه الحقيقي والقبيح له، وكذلك نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي يميز بين طائفة وأخرى وبين جنس وآخر، والذي أقام نظامه على أسس من التمييز الطائفي والعرقي.
من أجل أن تتحقق العدالة لا يكفي الأخذ بمبدأ إستقلال القضاء، بقدر ما يجب الذهاب إلى فحص القواعد القانونية ومنظومتها التشريعية والإجرائية التي تقيد وتحكم القضاء والمحاكم المنبثقة عنه، ومدى ملائمتها وتحقيق غاية العدل والقضاء والإنصاف والمساواة بين المتقاضين، وتحقيق الأمن وحفظ النظام العام والسلم الأهلي.
هذا ما يدفعنا للتوقف عند الضجة المفتعلة، التي أثارتها وتثيرها دولة إيران وبعض الفئات التي تدور في فلكها، بشأن الأحكام القضائية التي صدرت مؤخراً عن المحاكم السعودية، والقاضية بإعدام سبعة وأربعين رجلاً ممن أدينوا بممارسة أعمال إرهابية، سواء بالمشاركة المباشرة، أو غير المباشرة، والتي إستهدفت إزهاق أرواح مواطنين ومقيمين ومستأمنين، وأموال ومؤسسات عامة وخاصة، كما إستهدفت إغتيال الأمن والنظام العام، وتهديد السلم الأهلي، والسعي إلى تقويض أركان الدولة السعودية والتحريض على ذلك قولاً وعملاً، والتغرير بالغير ودفعه لذلك، علماً أن كافة المتابعين لهذه الأحكام يشهدون ويقرون أنه قد توفرت المحاكمة العادلة أمام المحاكم السعودية التي نظرت هذه القضايا، وقد صدرت تلك الأحكام وفق التشريعات والقواعد القانونية والإجراءات التنظيمية العامة والقائمة على أساس المساواة والبعيدة عن كل أشكال التخصيص أو التمييز سواء على مستوى الدين أو الطائفة أو الجنسية أو اللون، فهي قواعد قانونية عامة ومتجردة، وقد أقر المحكومون بما نسب إليهم من تهم، وهم يدركون كامل الإدراك، أن تلك الأفعال التي أقدموا عليها تعتبر جرائم وجنايات، من القتل وإزهاق الأرواح وإغتيال الأمن وزعزعة الإستقرار وتهديد المصالح الخاصة والعامة، والتي يعاقب عليها الشرع والقانون في المملكة بعقوبة الإعدام ...، إذن ليس من حق إيران أو غيرها الإعتراض على مثل هذه الأحكام، والذي يمثل ويعدُ تدخلاً سافراً في شؤون الغير، وتأييداً لعناصر إجرامية وإرهابية تمارس عملها الإجرامي والإرهابي علانية، وبالتالي فإن إيران بهذا الإعتراض تكون مساندة ومؤيدة لمثل هذه الأعمال الإرهابية، والغريب والملفت للنظر أن موقف إيران هذا، لم ينتقد جميع تلك الأحكام، فقد توقفت عند شخص واحد من المحكومين بسبب طائفته، وليس بسبب فعله ودوره في ما نسب إليه، مما يمثل هذا الموقف بحد ذاته، موقفاً يقوم على أساس التمييز بين لون وآخر وطائفة وأخرى، لأنها أسست نظامها على أساس طائفي يميز بين طائفة وأخرى، وتسعى لزعزعة أمن وإستقرار دول الجوار، وتوظف الطائفية السياسية كأداة لتحقيق ذلك، ضاربة بعرض الحائط مبدأ سيادة الدول على أراضيها وعلى مواطنيها والمقيمين فيها بعرض الحائط، في سبيل تحقيق مصالحها وأطماعها وغاياتها في الهيمنة والنفوذ، ومعرضة الوحدة الوطنية للدول والمجتمعات المجاورة والعربية والإسلامية للخطر، إنه منطق التمييز العنصري والتوسع والهيمنة، وما أقدمت عليه من إعتداء على البعثة الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد يضع إيران وضع الدولة المارقة.
على إيران أن تدرك أن المملكة العربية السعودية ومعها كافة دول العالم ترفض مثل هذه المواقف والسياسات التي تنتهجها دون خجل أو وجل، وسوف تتصدى لها المملكة العربية السعودية وكافة دول المنطقة العربية في سبيل حماية أمنها الداخلي والحفاظ على الأمن والسلم الأهلي وعلى وحداتها الوطنية، ولقد بات مكشوفاً، ما يخطط للعالم العربي من تقسيم وشرذمة وتدمير لدوله ووحداتها الوطنية والمجتمعية، في سياق خطط عدائية تلعب فيها إيران دوراً بارزاً والأمثلة واضحة للعيان في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتحاول أن تكمل هذه السياسات والمواقف في الدول العربية الأخرى.
المملكة العربية السعودية تتصدى بحزم وعزم لهذه السياسات الطائفية والجهنمية، ومن حقها أن تسعى لحماية أمنها وإستقرارها ومساعدة الأشقاء في الدول العربية الأخرى لإستعادة الأمن والإستقرار المفقود فيها وإستعادة وحدة مجتمعاتها ودولها، على أساس المواطنة والمساواة بين مواطنيها، كما تسعى لتثبيت حسن الجوار بين دول المنطقة كمبدأ تلتزمه في علاقاتها الدولية بصفة عامة.
بقلم/ د. عبد الرحيم محمود جاموس