تدمير المعالم الأثرية في خدمة يهودية الدولة

بقلم: عبد الحميد صيام

قبل نحو ثلاث سنوات كتبت مقالا في هذه الصحيفة تحت عنوان "تهشيم تمثال أبي العلاء المعري صفارة إنذار لما هو آت" قلت فيه، إذا ما تمكنت هذه الجماعات الظلامية التكفيرية من السلطة في أي مكان من هذا الوطن العربي، كما فعلت في أفغانستان ومالي والصومال، فإنها سترتكب من الأفعال الشنيعة والخطيرة ما يعجز عن التصديق، ولن يسلم من ساطورها تمثال أو كتاب أو شريط موسيقى أو فيلم أو لوحة أو مزار.
سيعملون على هدم تراث أكثر من سبعة آلاف سنة من الحضارات المتعاقبة التي أخذ حديثها من قديمها فأضاف إليه أشياء وسلمه لمن بعده ليوسع ويثري ويراكم، إلى أن جاء الإسلام فلم يهدم معبدا ولم يدمر تمثالا وأضاف إليها طبعته الخاصة من الإنجازات الثقافية والعمرانية، والزخارف والقصور والمقامات والمساجد والتكايا والمزارات، فأصبحت بلاد العرب أغنى مناطق الدنيا تراثا وأكثرها تنوعا وأجملها معالم وأكثر ما صنف تراثا إنسانيا لدى منظمة اليونسكو.
تعاقبت على المنطقة بعد الإسلام دول وامبراطوريات وإمارات وخلافات فلم تتعرض لأي منها بأذى، ولم يكتشف أحد من القادة والعلماء المسلمين مخالفتها للدين الإسلامي، إلى أن وصل إلى السلطة أو القيادة قيادات هذا الزمن الرديء من أمثال الملا عمر وأبو بكر البغدداي وأبو محمد الجولاني وجون البريطاني وأبو عمر الزرقاوي ومحمد يوسف النيجيري وعمر العولقي اليمني ومختار علي الزبير الصومالي وحكيم الله محسود الباكستاني، فاكتشــــــفوا أن هـــــذه المعالم تخالف الدين الإسلامي، وأنها تفتن الناس عن الدين الحنيف وتذكر بالوثنية، فلا بد مـــن تدميرها مرضاة لله تعالى ولضمان قصور واسعة في الجنة بسبب تدمير تمثال بوذا في باميان 2001 وسرير بنت الملك في بصرى عام 2012 وكنيسة مار إيليا في الموصل قبل أيام، والمسلسل مستمر وربما في حلقاته الأولى ونتمنى ألا يكون على طريقة المسلسلات التركية.
إن عملية التطهير الثقافي والتراثي لا يمكن إلا أن تخدم في المحصلة النهائية فكرة يهودية الدولية، التي تفتقت عنها عقلية غلاة الصهاينة في العقد الأول من هذا القرن أمثال، شارون وإيهود باراك ثم تمسك بها نتنياهو تحت حجة أن المسلم لا يؤتمن جانبه، وأن الإسلام يرفض الآخر ولا يقبل التعددية الثقافية، فلماذ إذن نلوم إسرائيل إذا طالبت بتمشيط سكانها من غير اليهود. أليس ما يقوم به المسلمون هو تطهير عرقي وثقافي وديني لمن ليس من ملتهم؟

بين جز الرؤوس وتدمير التراث

إن حرمة الدم في الإسلام أهم من حرمة الكعبة، فمن يقتل النفس البريئة بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا. لكن من لا يتبع هذه القاعدة لا يجد حرجا في قتل الأبرياء واستباحة أعراض النساء وبيعهن على المزاد وجز الرؤوس بالسيف أمام الكاميرات وحرق الأسرى في أقفاص مغلقة أو رميهم من الطوابق العليا وهم مكتوفو الأيدي، ورجم فتيات قاصرات بحجة الزنى وذبح الأقباط والإريتريين بسبب دينهم، وتدمير المجتمع الأيزيدي في سنجار وتلعفر بتهمة الكفر والإلحاد، وذبح أبناء العشائر والأكراد وكل من يخالفهم الرأي أو لا يتطوع معهم. ومن يرتكب كل هذه الجرائم بحق البشر فهل سيتردد في تدمير الحجر؟ لقد نشروا ثقافة الموت والتدمير وحرق الأخضر واليابس مستندين إلى عقليات غيبية ومغيبة تتلقى الأوامر وتنفذها بدون نقاش بعد أن يفتي لهم أمير الجماعة الجاهل على طريقة جماعة الحشاشين، الذين نظمهم الحسن بن صباح في قلعة "الموت" في إيران اليوم، حيث كانوا يتسابقون إلى الموت للعودة إلى الجنة التي ذاقوا طعمها فدخلوها أياما معدودة تحت تأثير نبتة الحشيش من كابل والمدسوسة في الشراب.

عينة من المعالم المدمرة

زادت المعالم التراثية الكبرى التي دمرتها هذه الجماعات الهمجية في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومالي عن المئة، من الكنوز التراثية التي لا تقدر بثمن. من بينها مزارات وقبور ومكتبات ومقامات وقطع أثرية وتماثيل. وسأذكر بعض تلك المعالم التراثيــــة التي قد تفقدها الإنسانية إلى الأبد.
مدينة الموصل ـ تعرضت الموصل منذ احتلالها من قبل تنظيم "الدولة" المعروف باسم "داعش" في نهاية يونيو 2014 لعملية تدمير ممنهج ومتواصل شمل الكثير من معالم المدينة وضواحيها. وتحت حجة أن هذه المعالم غير إسلامية يتم تحطيمها وسرقة الأجزاء الثمينة لبيعها في السوق السوداء، التي ازدهرت في العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003. ومن بين أهم المعالم التي فقدتها المدينة تحت ساطور تنظيم "الدولة" نذكر ما يلي:
مدينة نمرود- بتاريخ 11 أبريل 2015 نشر تنظيم "الدولة" شريطا مصورا لعملية تدمير مدينة نمرود الأشورية بمطارقهم، ثم يحدث انفجار ضخم يليه عدد من الانفجارات ثم يقومون بتجريفها بآليات ثقيلة تاركا الآثار التاريخية من الحقبة الأشورية التي تعود للقرن الثالث عشر قبل الميلاد كومة دمار. ونمرود هي العاصمة الثانية للآشوريين. فليس للاسلام والغيرة على الإسلام نصيب في هذا التدمير، بل للاتجار بالآثار وبيعها في السوق السوداء.
- مرقد النبي يونس وقد تم تدميره بتاريخ 24 يوليو 2014 بعد احتلال الموصل، ويعتبر من أهم معالم المدينة، حيث يتوافد إليه يوميا مئات وألوف من الناس للتقرب إلى الله وربط أوراق تحمل أمنياتهم بعد لفها بخرق قماش صغيرة. وقد أتيحت لي فرصة مشاهدة المقام أثناء عملي بالعراق فذهلت لهذه الجموع التي تنتظر ساعات لدخول المرقد للتبرك به.
- وقد دمر التنظيم في الموصل تمثال أبي تمام في شارع الكورنيش بحي الطوب في أوائل يوليو، بعد أيام من احتلال الموصل. وكان حبيب بن أوس الطائي قد حل بالموصل وأقام فيها بعضا من الوقت فأكرمه العراقيون بإقامة تمثال ضخم له. وللعلم فقد فجر إخوة "داعش" وأعداؤهم من جبهة "النصرة" تمثال أبي تمام نفسه في مدينة درعا السورية قبل سنة من تدمير تمثاله في الموصل. هكذا يكون التنافس وكله باسم الإسلام.
- ومن ضحايا تنظيم "الدولة" مكتبة الموصل، حيث تم حرق آلاف الكتب والمخطوطات النفيسة والنادرة في فبراير 2015. وقد وصفت اليونسكو عملية الحرق بأنها "مرحلة جديدة من التطهير الثقافي". أليس هذا العمل إعادة التاريخ بطريقة فجة عـندما نتذكر أن المغول قاموا بحرق الكتب وقذفها في نهر دجلة عند احتلال بغداد عام 1258 ـ ما أشبه اليوم بالبارحة.
- أضف إلى القائمة مدينة الحضر وعمرها 2000 سنة والكنيسة الخضراء في تكريت وعمرها 1300 سنة وأخيرا تم هدم كنيسة مار إيليا في الموصل وهي أقدم كنائس العراق وعمرها 1300.

تدمير آثار سورية

بدأ تنظيم "الدولة بتدمير التراث عقابا للشعب السوري لأنه تغاضي عن وجودها كل هذه القرون. وكان تدمير "معبد شمين" بتاريخ 23 أغسطس 2015 في مدينة تدمر المصنفة ضمن التراث العالمي. والمعبد مكرس لتقديـــس الإله "بعل شمين" إله الخصب وسيد السموات والأرض والمطر، وقد حافظ المعبد على شكله الأصلي منذ بنائه في القرن الأول الميلادي.
وللتذكير فقد قام تنظيم "الدولة" بذبح عالم الآثار السوري خالد الأسعد وتعليق جثته على عامود في ميدان عام بمدينة تدمر وكأنه عبرة لمن يريد أن يعصي أوامرهم، حيث رفض أن يكشف عن بعض الكنوز الأثرية حتى يقوموا بسرقتها وبيعها.
هذا غيض من فيض ولو أردنا أن نعدد كل المواقع والمتاحف والأديرة التي تعرضت للخراب أو القصف أو التدمير أو النهب لاحتجنا إلى العديد من الصفحات.

متابعة للتوقعات في حالة ما تمكنوا

وأود أن أؤكد مرة أخرى ومتابعة لمقالي عن تهشيم تمثال أبي العلاء في معرة النعمان، أن هذه التنظيمات في ما لو تمكنت ستستمر في التدمير والنهب والسلب وستأخذنا معها إلى الهاوية. قد يصل المعول إلى الأهرام وتماثيل الفراعنة ومومياءاتهم ومعابدهم ومقابرهم. وسيتخلصون من كل الآثار اليونانية والرومانية والنبطية والفينيقية والسومرية والبابلية والأشورية والكنعانية. وسيهدمون القلاع والمعابد والمسلات والمدرجات والأعمدة والحصون والأبراج والتماثيل، ثم ينثنون على تماثيل الزعماء السياسيين أو التاريخيين والمبدعين فيدمرون تمثال سعد زغلول في القاهرة وأبي القاسم الشابي في توزر بتونس وبدر شاكر السياب في جيكور. وربما يوسعون نشاطاتهم الجهادية ليصلوا لتمثال أحمد شوقي في روما وتمثال ابن رشد في قرطبة وجبران خليل جبران في واشنطن العاصمة فيفخخوا هذه التماثيل ويدمروها إن تمكنوا.
وستصل مقصاتهم ومعاولهم إلى أصوات وكتب تربينا عليها مثل، أغاني أم كلثوم وفيروز وشادية وجوليا بطرس ونجاة الصغيرة ووردة، لأن صوت المرأة عورة ثم ينثون على أغاني عبد الحليم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وناظم الغزالي وصباح فخري وقد يسمحون فقط للمدائح والتراتيل والإنشاد، ويتركون الأمة بلا أغان فالأغاني كلها رجس من عمل الشيطان وعلى الناس أن يتجنبوها. سيغلقون دور السينما والمسارح والملاهي والنوادي والمحطات الفضائية غير الدينية من وجهة نظرهم. وسيحرمون الرياضة باعتبارها لهوا لا ضرورة له. وسينثنون بعد ذلك إلى الكتب قديمها وحديثها فيقررون على الفور منع تداول كتاب "ألف ليلة وليلة" وكتب عبد الله بن المقفع وقصائد بشار وعمر بن أبي ربيعة والأخطل وابن زيدون ويلغون المعلقات السبع لأنها تعود إلى عصر الجاهلية ويحرمون تداول قصائد قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وكثير عزة. ولن ينجو منهم ابن حزم الأندلسي، حيث سيمنعون كتابه "طوق الحمامة في الألفة والألاف" لأن الكتاب دراسة مستوفية في الحب وأنواعه ومراتبه، ولن ينجو منهم كتاب "
الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني بمجلداته الأربعة والعشرين، أما الكتب المعاصرة فحدث ولا حرج فقد لا تجد في رفوف المكتبات إلا بعض كتب الفتاوى والتفسير والتداوي بالأعشاب وسيرة الملا عمر وأبو بكر البغدادي. وقد يصبح اقتناء رواية لنجيب محفوظ جريمة يعاقب عليها القانون، أما دواوين محمود درويش وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الشرقاوي ومظفر النواب ونزار قباني فقد تودي بمقتنيها إلى المقصلة.
ما كنا تخيلناه قبل سنوات ثلاث أصبح الآن واقعا، وما نتخيله الآن سيتحقق إذا لم يتم اجتثاث هذه الجماعات الهجينة عن المنطقة وتراثها وحضارتها وأديانها.
والأهـــــم من ذلك اجتثاث هذا الفكر المتطرف الظلامي التكفيري الذي ظل يطبخ على نار هادئة منذ عقود فانفجـــر بعد أن تهيأت له الظروف وألحق الأذى بكل الناس بمن فيهم من أنشأوه وغذوه وسهروا عليه وصدروه للخارج.

٭ محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز
د. عبد الحميد صيام
القدس العربي