الإسرائيليون لا يريدون الانتفاضة ولا يحبونها، ويحلمون في اليوم الذي فيه تنتهي وتتوقف فعالياتها، ويتبدد الكابوس الذي باغتهم وجثم على صدورهم، وأخافهم وأقلقهم، وهدد مصالحهم وعرض حياتهم للخطر، وأن يعود الفلسطينيون إلى بيوتهم وبلداتهم، وينسوا شهداءهم وجرحاهم، ويكفوا عن أعمال الطعن والدهس والقنص، وأن يعودوا إلى حياتهم العادية، التي كانوا عليها قبل الانتفاضة التي كوتهم بنارها، وألهبت ظهورهم بأسواطها، وأجبرتهم على تغيير طباعهم وتبديل عاداتهم، والتفكير في السلامة قبل كل شئ، وعدم المغامرة بالخروج أياً كانت الأسباب.
لكن على قاعدة مصائب قومٍ عن قومٍ فوائدُ، فإن جماعاتٍ إسرائيلية أخرى استفادت من الأوضاع، وانتفعت من الظروف، وهي تريد من الانتفاضة أن تستمر، ولهذه الأجواء الأمنية المحتقنة أن تتواصل، ولحالة الرعب أن تبقى، وربما لا يحزنها القتلى الإسرائيليون، ولا الذين يصابون بجراحٍ جراء عمليات الطعن، ويحبون أن تشيع أجواء الخوف والرعب، أولئك هم تجار السلاح الفردي في الأسواق الإسرائيلية، أصحاب المحلات الصغيرة والموزعون الكبار، فهم فرحون بالانتفاضة سعداء بها، ويتمنون أن تستمر، وأن تطول فترتها وتشمل فعالياتها كل المدن والبلدات، فلا تخلو منها مدينة، ولا يأمن منها مستوطن.
ليس في هذا مبالغة، ولا محاولة لتصوير مشهدٍ على غير حقيقته، أو تشويه صورة المجتمع الإسرائيلي المشوه أصلاً، بل هذه هي حال تجار الأسلحة الإسرائيلية، المهمومين بأرباحهم، والمشغولين في حساباتهم، والراقصين على جراح بعضهم، حيث تشهد متاجر الأسلحة الفردية نشاطاً ملحوظاً في مختلف المدن الإسرائيلية، فقد ذكرت تقارير صحفية إسرائيلية أن طوابير طويلة من المستوطنين تقف يومياً أمامها، كما تتلقى المتاجر طلباتٍ يومية بأسلحة ذات مواصفاتٍ معينةٍ، بالإضافة إلى طلبات الشركات الأمنية الخاصة ووكلائهم، الذين لا يتوقفون عن الترويج لأسلحتهم والإعلان عنها لبيع أكثر وتحقيق المزيد من الأرباح.
وذكرت التقارير أن لوازم الدفاع عن النفس المختلفة، هي الأكثر مبيعاً في أسواق الأسلحة الفردية المشروعة والمرخصة في الكيان الصهيوني، لكن المسدسات على أنواعها وتعدد الشركات المنتجة لها، هي أكثر ما يطلبه المستوطنون الإسرائيليون، حيث يقبل على شرائه الرجال والنساء على السواء، رغم أن غالبية المشترين هم من المستوطنين الرجال والشبان، وأكثرهم من طلبة المدارس الدينية، علماً أن محال بيع الأسلحة لا تطلب من المشترين إبراز تراخيص السلاح كشرطٍ مسبقٍ لبيعهم.
وكان مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي المصغر "الكابينت" قد أصدر تعليماته إلى الجهات المختصة بتسهيل إجراءات ترخيص الأسلحة الفردية، وتسهيل حصول المواطنين على الرخص الشرعية وفق القوانين الجديدة، التي تيسر الإجراءات على من يرغب في حمل السلاح بغية الدفاع عن نفسه، وكان ذلك منذ الأيام الأولى للانتفاضة، وقد ارتفع منسوبهم بعد ذلك، ولكن هذا لا يعني أن الإسرائيليين كانوا لا يحملون أسلحةً فردية قبل اندلاع الانتفاضة، بل كانوا يملكون الكثير منها، ويقومون باستخدامها دون أي عقباتٍ تذكر يفرضها عليهم القانون الإسرائيلي، ولم يرد أن الشرطة الإسرائيلية قد حاسبت مستوطناً من الذين استخدموا مسدساتهم غير المرخصة في إطلاق النار على مواطنين فلسطينيين وتسببوا في قتلهم، بل إنها على العكس من ذلك فهي تحرضهم على استخدام أسلحتهم للدفاع عن أنفسهم.
وكان نائب وزير حرب العدو الإسرائيلي الحاخام بن دهان قد دعا كل من يملك سلاحاً من المستوطنين الإسرائيليين إلى وجوب حمل سلاحهم الشخصي عند خروجهم من منازلهم، وألا يتوانوا أو يترددوا في استخدامها حال تعرضهم إلى أي خطر، كما دعا من لا يملكون سلاحاً فردياً إلى أن يعجلوا في اقتنائه، لكنه دعا جميع المواطنين الذين يملكون أسلحة أو ينوون امتلاكها إلى ضرورة ترخيصها بموجب القوانين الإسرائيلية، التي يسرت كثيراً من شروطها في ظل الأحداث التي تشهدها المناطق.
وإثر تصريحات نائب وزير الحرب الإسرائيلي التي نقلتها إذاعة العدو، قام العديد من قادة شرطة المدن والبلدات الإسرائيلية، بدعوة مواطنيهم ممن يحملون تصاريح سلاح فردي إلى حمل أسلحتهم عند خروجهم من بيوتهم مخافة تعرضهم إلى حوادث أمنية، وذلك في ظل التردي العام في الحالة الأمنية، وعجز الجيش والمخابرات عن حماية المستوطنين، الذين رفعوا أصواتهم ضد حكومتهم قائلين، لسناً أبقاراً في مزرعة يدخلها الفلسطينيون بسكاكينهم فيذبحون بها من شاؤوا منا، ثم يعودون ويذبحون آخرين، ولا يخافون من فعلتهم، كما لا يترددون في تنفيذها، ولا يردعهم عن تكرارها أحد.
وفي خطوةٍ رمزيةٍ قصد بها تشجيع المستوطنين على حمل السلاح الفردي معهم خلال تجوالهم، فقد قام رئيس بلدية القدس المتطرف نير بركات بالتجول في شوارع القدس وهو يحمل سلاحاً رشاشاً، ويتعمد إبرازه وتصويره ليراه المستوطنون ويقتدون به، علماً أنه وغيره كثير من رؤساء البلديات الإسرائيلية، خاصة تلك التي نشهد اشتباكاتٍ مع الفلسطينيين، أو سكان المستوطنات القريبة من قطاع غزة، والمستوطنون في مدينة الخليل، فإنهم اعتادوا جميعاً على التجوال بأسلحتهم، وتسجل عدسات وسائل الإعلام المختلفة صورهم وهم يحملون الأسلحة، ويتبجحون بها.
يعتقد الإسرائيليون أنهم بهذه الطريقة يخيفون الفلسطينيين ويرعبونهم، ويجبرونهم على التفكير طويلاً قبل الإقدام على أي عمل، أو أن هؤلاء المستوطنين وغيرهم من حملة السلاح يستطيعون أن يطفئوا لهيب الانتفاضة وأن يضعوا حداً لها، وأنهم سيتمكنون من جلب الأمن لأنفسهم، وصد الاعتداءات عنهم، ونسوا أن دولةً عجز جيشها ومؤسساته الأمنية وكل قدراته العسكرية عن ضمان الأمن لهم، وحمايتهم من عمليات المقاومة، فلن تتمكن شرذمةٌ قليلةٌ وإن حملت سلاحاً، أن تحقق ما عجز عنه الجيش، وأن تصد الفلسطينيين وتمنعهم، أو تهزمهم وتقهرهم.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 12/2/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]