إسرائيل الأكثر ارتياحاً في المنطقة

بقلم: ماجد الشيخ

في ظل التوترات المتزايدة والمجازر المتواصلة في المحيط الإقليمي، وحدها إسرائيل من بين دول المنطقة، تتمتع اليوم بنوع من الراحة والاطمئنان إلى وضعها، لجهة علاقاتها بجيرانها الذين أُطلقت عليهم يوماً تسمية "دول الطوق" أو "دول المواجهة"، حين كان الصراع يشهد حالة من المد، أما الآن وفي حال الجزر والجزر المضاف، فقد تجاوزت إسرائيل الخطورة التي عاشتها طوال سنوات الصراع، ولم يبق على أجندتها سوى ذاك الصراع المحتدم في الداخل الفلسطيني، حيث الإرادة الشعبية ما زالت تشكل عامل الحسم، وعامل استمرار الصراع مع كيان الاستعمار الاستيطاني وحكوماته اليمينية المتطرفة التي أضحت أكثر انحيازاً إلى المستوطنين؛ كـ "رواد طليعيين" لحملة الاستيطان التي تعرض لها الوطن الفلسطيني منذ أواخر القرن الثامن عشر، وصولاً إلى تجسيد الاعتراف بدولة إسرائيل، وتجاهل الدولة الفلسطينية التي نادى بها قرار التقسيم الذي أجاز لإسرائيل أن تقوم كدولة استيطانية، في حين تم تجاهل تطبيق الشق الثاني منه بفعل الرفض الفلسطيني والعربي لمفاعيل ذاك القرار.

وها نحن بعد تلك السنوات، نترقب قيام الدولة الفلسطينية كحق تاريخي ثابت، لا يجوز إخضاعه للمساومات والمناقصات؛ ولعبث "الأقدار" التفاوضية ومماطلاتها وتواطؤاتها الإقليمية والدولية، العاملة والعامدة للانحياز المفضوح إلى جانب الباطل الاستعماري الصهيوني؛ نظراً إلى التطابقات المصلحية وإلى التمثّلات المشتركة وغير المشتركة بين ذاك الكيان والكيانات الإقليمية القائمة في المنطقة، كإيران وتركيا والكيانات الدولتية وغير الدولتية في الإقليم العربي.

في الأوضاع الإقليمية المحيطة، لا تبدو إيران وتركيا ومعهما دول الإقليم العربي، في أحسن أحوالها، في ظل الهزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي قلبت استقرار الدول وأشباه الدول، إلى نوع من التوتُّرات المزمنة، وبالتالي باتت أوضاعها الداخلية كما علاقاتها مع جيرانها ومع الوضع الدولي، أكثر اهتزازاً وتوتراً من ذي قبل، من قبيل ما دخلت إليه تركيا من صراع دموي في الداخل مع المكون الكردي، ومن تفشي صراعاتها مع الخارج الإقليمي المحيط من العراق إلى سورية إلى إيران، ومع دول الإقليم العربي في شكل عام.

فإلى جانب دور النظام التركي في سورية، ودعمه قوى إرهاب إسلاموي، حيث عمل كوكيل للتنظيم الدولي لـ "الإخوان المسلمين" تارة، وتارة أخرى كوكيل لدول الغرب، وفي الحالين لم يكن واضحاً لأيهما عمل منذ البداية. إلى جانب الصراعات التي خاضها النظام ضد المكوّن الكردي في تركيا نفسها، وضد المكوّن الكردي في سورية، لأسباب تتعلق بالخشية من إقامة كيان كردي محاذٍ للأراضي التركية.

فمنذ انتخابات العام الماضي- حزيران (يونيو) وتشرين الثاني (نوفمبر)، كان واضحاً أن النظام الحاكم وحزبه، قد بدآ يميلان إلى تطبيق نموذج استبداد سلطاني محكم، جراءها، ومع نتائجها لا سيما في الدورة الانتخابية الأخيرة، ارتفعت أسهم "البطر السياسي" لدى الرئيس أردوغان وحزبه وقواعده الاجتماعية، ما أدخل تركيا في مرحلة من التأزُّم، بتداخل الصراعات الداخلية مع الخارجية المحيطة، وسط تشابك الاستراتيجيات الدولية ورؤيتها للدور التركي غير المستنفد بعد، لا في رؤيته لذاته، ولا في رؤية دوره الأطلسي في تشابكه مع رهان الولايات المتحدة واستراتيجيتها، ربما كعنصر توازن مناكف مع الدور الإيراني والإسرائيلي (ولم لا الروسي أيضاً) في المنطقة.

ولكي يستقيم وضع النظام التركي، بالعودة إلى الوضع الطبيعي، يتطلب الأمر إقامة حوار مع قوى الداخل من المعارضة، ومع قوى المكوّن الكردي، بدل الاستمرار في تكريس توجّهات العسكرة و "الأسلمة"، واستنزاف الجبهة الداخلية من أجل تمكين النظام من ترسيخ قواعد له أقرب إلى الاستبداد والطغيان الشرقي، وأبعد عن الديموقراطية، وفيما بعد أبعد ربما عن العلمانية، وهي التي كانت سمة النظام التركي طوال عهود السيطرة الأتاتوركية والعسكرية فيما بعد، إلى أن صعد نجم "العدالة والتنمية" والرئيس رجب طيب أردوغان، لتعود تركيا إلى سابق عهدها السلطاني، ولو اعتمرت القبعة الأوروبية، وتتابع دورها الوكيل للغرب، على ما كان دورها أيام الحرب الباردة.

الوضع الإيراني في هذه الأجواء المشحونة بالتوترات، ليس أفضل من التركي، بل هو أكثر تماساً وتورطاً ودعماً لمجموعات ميليشيوية متعددة الجنسية في سورية وفي غيرها، ليس هذا فحسب، بل في ما يتجاوز دول الإقليم العربي في المشرق، وما يعنيه هذا "الوضع التدخُّلي" من إثارة نزاعات وصراعات لا حصر لها، وكل ذلك من أجل إثبات قدرة هذا النظام على تقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة وتحالفاتها الأطلسية في المنطقة، وأن طموحاته هي الأنجع في فرض ما يريد كدولة إمبراطورية سابقة، يراد لها أن تواصل نهجها، وإن بطموحات قوموية مطعمة أو متوسلة طموحات مذهبية، أخذت في الآونة الأخيرة أبعاداً قصوى، ما بعد الاتفاق النووي وتجميد أو رفع العقوبات الغربية، وها هو نظام ما بعد الثورة، يواصل عرض قوته، وحتى بسمات "كهنوتية"، أبعد ما تكون عن مراعاة الوضع الدولي الجديد الناشئ، ولا حتى مراعاة الجيرة التي من المفترض أن تربطه مع دول الإقليم العربي.

وها هو النظام يواصل وبنوع من الاستعلاء والعنجهية، تدخُّلاته العسكرية وتبنّيه "قضايا دينية" منحازاً لتمذهبه هو، وتعصُّبه الأكثر تعنصراً ومغامرة، ليقامر باستقرار جيرانه الأقربين، فيما هو يطلب ودّ الأبعدين ومن "حلف الشياطين" الصغار والكبار على حد سواء، ما يؤكد أن اتجاه النظام الإيراني في المستقبل، لا ينحو إلى تغيير بناه السياسية حتى تتلاءم مع ما تتطلبه العودة إلى الوضع الطبيعي للنظام في الداخل من جهة، وفي علاقاته مع المجتمع الدولي من جهة ثانية، بل هو يحاول وفي نوع من التذاكي المكشوف، أن يُظهر غير ما يُبطن إزاء استراتيجيته القائمة على "التقية" كـ "نظام كهنوتي". الأولوية لديه للتمذهب الديني والسياسوي، وهذا ما لا يستقيم بالمطلق مع بنى دولة مدنية حديثة، كانتها إيران يوماً، ولو في ظل نظام تابع للإمبريالية في العهود الشاهنشاهية، الذي سبقت الإطاحة به، بفعل ثورة الشعب الإيراني.

هكذا يستمر الوضع الإقليمي في جلب المزيد من وسائل الراحة لإسرائيل، عبر مزيد من توجهات أطرافه واتجاهاتها نحو استنزاف الدواخل العربية والاقليمية، وإغراقها في العديد من أدوات ووسائل الدمار والتخريب والتفتيت والفتن المذهبية، التي لا ترعوي عن الدفع نحو أشكال الصراعات والحروب الداخلية والأهلية، وحتى الدفع في إمكانية أن تتناسل مستقبلاً، حتى تبلغ من الذرى أعلاها، كصراعات وحروب بينية، إسرائيل مستثناة منها موضوعياً وذاتياً.

ماجد الشّيخ

* كاتب فلسطيني