الصهيونيّة ونداء بوتين

بقلم: محمد خالد الأزعر

في تموز (يوليو) 2010، دعت الصحافية الأميركية هيلين توماس، اليهود إلى مغادرة إسرائيل، والعودة إلى أوطانهم الأصلية التي أتوا منها مثل بولندا وألمانيا، تاركين فلسطين لأصحابها الفلسطينيين. وقتذاك، كانت توماس، التي رحلت عام 2013، تلقَّب بعميدة الصحافيين الأميركيين نظراً الى تاريخها المهني الممتد لسبعين عاماً، نالت خلالها شرف توجيه السؤال الأول، في أي مؤتمر صحافي رئاسي تحضره، الى عشرة من رؤساء الولايات المتحدة.

لكن تلك المكانة الرمزية الرفيعة لم تشفع لتوماس عند الدوائر الصهيونية، التي راحت تشهر بها، واصفة إياها باللاسامية والانحياز إلى أصولها العربية اللبنانية على حساب المصالح الأميركية. وقد بلغت تلك الهوجة بعض مراداتها حين اضطرت هذه المرأة الجريئة للاستقالة من العمل الصحافي، وقيل إنها أُكرهت على الاعتذار عن رأيها في حق إسرائيل. عملية الاغتيال المعنوي لتوماس ليست نموذجاً متفرداً.

كل من دفعتهم ضمائرهم الحية إلى البوح بمواقف منصفة تجاه الظلامة الفلسطينية، واجهوا المحاولة ذاتها. وفي هذا السياق، أثبت الصهاينة جاهزية عالية للتنكيل بمعارضيهم من "الأغيار" واليهود على حد سواء. فالأغيار يوسمون باللاسامية، بينما يرمي اليهود بالنقص وكراهية الذات. نستحضر هذه الوقائع والتعميمات لمناسبة الدعوة التي أطلقها أخيراً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وطالب فيها اليهود الذين هاجروا من الاتحاد السوفياتي السابق بالعودة إلى روسيا، وأبدى ترحيب بلاده بقدوم "اليهود الذين لا يشعرون بالأمان في أي بلد أوروبي، بسبب ازدياد مشاعر اللاسامية". دعوة كهذه تصدر عن مقام بحجم "القيصر" بوتين، لا بد أن تثير السؤال عن ردود الأفعال الصهيونية بعامة والإسرائيلية بخاصة. هذا علاوة على أسئلة أخرى تتعلق بتوقيتها ومغازيها الظاهرة والباطنة، وتداعياتها على سيرورة المشروع الصهيوني في الحال والاستقبال. أحد الفروق بين هيلين توماس وبوتين، أن الأولى لم تستسغ مفهوم اللاسامية، وجاهرت من دون مواربة بعدم أحقية اليهود في اتخاذ فلسطين وطناً لهم. هي دعت اليهود إلى مغادرة فلسطين بالتحديد نحو أوطانهم الأصلية. غير أن بوتين، الديبلوماسي ورجل الاستخبارات والدولة المحنك، اتبع طريقاً التفافياً في مقاربته القضية، على نحو يثير التكهنات عما إن كانت دعوته تستهدف حصرياً اليهود السوفيات الذين هاجروا إلى إسرائيل بالذات. إن كان بوتين يضمر هذا الهدف، فمعنى ذلك أنه يخاطب زهاء مليون يهودي، وأن الاستجابة له تعني تفريغ إسرائيل من نحو سُدس سكانها من اليهود.

إلى ذلك، تنطوي هذه الدعوة على فتح المجال الروسي الفسيح أمام استقبال يهود أوروبا بالكامل. وهذا متغير يثير الهواجس في شأن ما إن كان الرجل يضمر إيجاد "ملاذ" بديل لليهود عموماً من الملاذ الإسرائيلي بالكامل، على غرار الدولة التي اقترح الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين إقامتها في مقاطعة بيروبيدجان الروسية عام 1928. المتصوّر في كل حال، أن القادة الصهاينة يستشعرون الراحة لإقرار بوتين بوجود لا سامية أوروبية ضد اليهود. لكن هذا الشعور قابل للتبدد والتحول إلى كابوس مقلق، لأن هذا الإقرار اقترن بتحفيز اليهود على الهجرة إلى الربوع الروسية عوضاً عن إسرائيل. وبشيء من التأمل، ربما فهم دهاة الصهاينة أن نداء بوتين يخصم في التحليل النهائي من الشق السكاني لمشروعهم الكياني ولا يضيف إليه. كيف لا وهو ينوي إيجاد منافس لإسرائيل، هناك في روسيا؟. كما أنه يشكك في صلاحية الملاذ الإسرائيلي وحده لتوفير الأمن والطمأنينة لليهود من الاضطهاد الذي يزعم الرجل أنه "آخذ بالازدياد في أوروبا"، وقد يؤدي إلى تثبيط الجهود الصهيونية الرامية إلى تهجير مزيد من يهود أوروبا، المضطهدين جدلاً، إلى إسرائيل دون غيرها، بل وتشجيع الهجرة المضادة منها تحت تأثير العدوى. لن تجرؤ الأوساط الصهيونية على مهاجمة بوتين كما فعلت مع هيلين توماس وغيرها من قبل. هذا ليس فقط لعدم التساوي في المكانات، وإنما أيضاً وأساساً لأن دعوة رجل روسيا القوى تبدو حمَّالة أوجه وقابلة للتأويلات. وإلى حين ظهور إيضاحات حول جدية هذا النداء وآفاقه، ربما تعيَّن علينا التريث في الحكم له أو عليه.

محمد خالد الأزعر

* كاتب فلسطيني