خلال حرب حزيران 2006 التي شنتها قوات الإحتلال على لبنان , كنا نقف مدافعين عن حزب الله في كافة المنابر الإعلامية والشعبية , ونحشد التأييد له سياسياً وإعلامياً في معركته مع الإحتلال, والتي كانت بالنسبة لنا معركة كل فلسطيني , وتربع الحزب وزعيمه على قمة العرش البطولي في ساحة المعركة مع المشروع الصهيوني , ورُفعت صور السيد نصر الله في المدن الفلسطينية والعواصم العربية , ولم يكن يومها قد إنكشف بوضوح البعد الطائفي الصدامي للحزب مع المخالفين كما ظهر هذه الأيام , رغم تحذير الكثير من اللبنانيين وتخوفهم من أهداف مشروع حزب الله , التي إعتبروها تضرب السلم الأهلي والمجتمعي في لبنان , وقد ألبسنا جزء من هذه التحذيرات عباءة التنافس السياسي بين فريقي التنازع على السلطة في لبنان , ولم نكترث كثيراً لهذه الصرخات المكتومة وخاصة بعد أحداث أيار 2007م , حينما إستباح الحزب ومليشيات حركة أمل العاصمة بيروت وعاث فيها فساداً وتخريباً , وكان التبرير بأن الحزب يواجه فريق التطبيع وأعداء المقاومة , ويجب أن يضرب بيد من حديد كل من يهدد المقاومة ووجودها , علماً بأن الحزب لم يدخل في مواجهة مع الإحتلال الصهيوني لمدة عشر سنوات متواصلة , وأعلن الندم على عملية الوعد الصادق بسبب ردة الفعل الصهيوني العنيفة عليها , والتي تسببت بالحرب الشاملة الواسعة على لبنان , قتل خلالها الآلاف من اللبنانيين وإصابات آلاف آخرين, وهُدمت المباني والجسور والمؤسسات في طول وعرض لبنان , وهُجرت آلاف العوائل اللبنانية الذين إحتضنهم الشعب السوري بكل ترحاب , واليوم يرد له الجميل بنار المقاومة وصواريخها بالإضافة إلى الإزدراء بهم ومعاملتهم معاملة سيئة , بعد أن فروا من بطش النظام السوري وقمعه إلى لبنان , هؤلاء هم من هتفوا للمقاومة ودعموا صمودها , كظهير شعبي مساند وداعم لمعركة الأمة ضد المشروع الصهيوني بعيداً عن أي توجيهات من الجهات الرسمية .
ومع إندلاع ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا , سارع حزب الله بدعم الثورات إعلامياً وسياسياً وربما بالأموال , وربما يكون هذا المسلك طبيعياً في حينه حيث أن الحزب يعرض نفسه كثورة شعبية ضد الإحتلال والقمع والديكتاتورية , وهي المبادئ التي نشأ عليها الحزب تيمناً بالثورة الإيرانية بزعامة الخميني , ولكن سرعان ما إرتد الحزب عن دعم الثورات العربية وشن عليها الهجوم الإعلامي عبر مؤسساتها المختلفة , بل وصل الحد إلى دعم وتمويل الثورة المضادة في كافة الدول التي نجحت فيها الثورات الشعبية , فلا يوجد تفسير لدعم الثورة على الرئيس المصري حسني مبارك في 25 يناير , ومساندة الثورة المضادة التي قادتها دولة مبارك العميقة بعد ذلك والتي أعادت من جديد نظام كامب ديفيد , ولا يستساغ دعم الثوار في حربهم ضد القذافي , وإمداد اللواء حفتر وقواته بالمال والسلاح , وهو أحد أزلام نظام القذافي الذي قتل وأعدم الأمام موسى الصدر ورفيقيه, والنظر من قبل الحزب بعين طائفية ترى الثورة الشعبية العارمة في سوريا مخطط كوني لإستهداف محور المقاومة والدولة السورية , وتقزم ثورة الأحرار في اليمن وتدعم في المقابل بقايا نظام على عبد الله صالح , في مفارقات عجيبة لا يمكن تصدر عن أصحاب الأيدلوجيات والمبادئ أو المقاتلين من أجل الحرية والإنعتاق من أنظمة الجور والظلم والتخلف والتبعية .
قد نتقبل الموقف السياسي والإعلامي لأي مكون سياسي عربي إتجاه الأحداث في الدول العربية وخاصة سوريا , فالرأي في الأحداث والنوازل حق لكل صاحب رؤية وتوجه عام , ومن هذا المنطلق إعتبرت أن موقف حزب الله من الأزمة السورية لا يتجاوز الدعوة إلى وقف القتال وإيجاد المبادرات السياسية لحفظ الدماء السورية , ومطالبة الأطراف السورية بالحوار , هذا هو الموقف المعلن للحزب أنداك , في الخفاء كانت تدار المعارك بقيادة ومشاركة عناصر حزب الله , وكان الإنكار سيد الموقف وقلنا لعل الأمر خارج عن سيطرة قيادة الحزب , ولا يوجد توجه عام للمشاركة في القتال إلى جانب النظام السوري , حتى إنكشفت المشاركة الفعلية عبر فيديوهات توثق ذلك وترصد بعض التجاوزات والمجازر التي إرتكبها عناصر الحزب , فأعلن الحزب رسمياً مشاركته في القتال تحت حجة تأمين ظهر المقاومة في لبنان , فأقدم الحزب على إجتياح بلدة القصير وإرتكاب المجازر ضد المدنيين السوريين , ولعل بعض المشاهد كانت تبث بشكل مباشر على الفضائيات التابعة للحزب , وأمام هذا التصرف الذي شكل صدمة لكثير من أنصار الحزب في الوطن العربي , تم تجنيد المبررين والمدافعين عن هذا العمل والتعليل أن الطبيعة الجغرافية والوظيفة الإستراتيجية للمنطقة , تحتم على الحزب التدخل فيها والسيطرة عليها , حفاظاً على خطوط الإمداد للمقاومة , وهنا السؤال ماذا لو مارست المقاومة الفلسطينية نفس هذا المنطق ضد الدول المجاورة ؟! ستجد التنديد والإستنكار ممن يبرر الآن للحزب فعلته , وبكل تأكيد فأن المقاومة الفلسطينية الواعية والمدركة لحجم المؤامرة , لا ولن تقدم على مثل هذه الخطوة رغم ممارسة الحصار والتضييق الشديد عليها .
ولم يتوقف الأمر عند إجتياح بلدة القصير , بل واصلت عناصر الحزب ومليشياته حربها في القلمون ودمشق وحلب والشمال السوري ,وكانت الحجة حماية المقامات الدينية الشيعية , فهدمت جحافل المليشيات الطائفية ضريح الصحابي خالد بن الوليد في مدينة حمص ! , وبعد توالي الفضائح لم يعد مجالاً لتبرير هذا التورط في الجحيم السوري , ومع بدأ عودة التوابيت وزيادة عدد قتلى الحزب في سوريا , خرجت أصوات كثيرة من داخل الطائفية الشيعية في لبنان , تندد بهذا التدخل الذي لا يخدم استقرار لبنان , ولقد نتج عن تدخل حزب الله في سوريا بروز ظاهرة تفجير السيارات المفخخة في مناطق الشيعية في لبنان وخصوصاً الضاحية الجنوبية , علماً بأن تلك التفجيرات لم تكن موجودة قبل الإعلان الرسمي للحزب بأن مليشياته تحارب إلى جانب قوات النظام السوري , وبذلك يكون الحزب قد إخترق مبدأ النائ بالنفس الذي دافع عنه في الحوارات اللبنانية الداخلية , أو أنه كان ينادي بتطبيق هذا المبدأ على الآخرين , أما هو فأنه جزء من الصراع والتركيبة الطائفية الداعمة للنظام السوري ! , ولا يمكن له أن ينفك عنها بتعليمات خارجة عن الحدود الجغرافية والسياسية للبنان .
ومع إشتداد الأزمة السورية برزت مليشيا حزب الله , كقوات طليعية في محاربة الثورة السورية , وتواردت الأنباء عن فظائع يرتكبها عناصر الحزب , وإنتشرت مقاطع الفيديو وجد بعضها مع قتلى أو أسرى للحزب في سوريا , كشفت عن حجم التحريض المذهبي ضد السوريين , وتزامن ذلك مع تصعيد اللهجة العدائية ضد الدول العربية والإسلامية , وهو خطاب غير معهود في أدبيات الحزب سابقاً , وكأنه ضمن خطة مبرمجة سلفاً تولى مهمة تنفيذها زعيم الحزب السيد نصر الله , للإستفادة مما تبقى له من رصيد في ذاكرة الأجيال من صورة الرجل المقاوم , ومن الممكن أن يجني خطابه بعض التفهم والموافقة لحشد التأييد للنظام السوري وحلفائه , تحت رهبة وتأثير شعارات ومقولات المقاومة وقتال الصهاينة , الا أن حجم وكم مصطلحات الخطاب الطائفي والتبرير الخارج عن الإستيعاب سقطت هذه الورقة , وأصبح ينُظر لزعيم حزب الله على أنه رجل طائفي قاتل , وتبددت صورة البطل المقاوم , وهنا يمكن أن نقول لقد ربح الكيان الصهيوني من غير جهد , أو يقول البعض لقد إنكشف الرجل وتوقف عن التمثيل وظهرت حقيقته ؟! .
إلى أن وصلنا لقرار وزراء الداخلية العرب وكذلك قرار مجلس التعاون الخليجي , والذي إعتبر الحزب "إرهابياً " لممارسته العسكرية في سوريا واليمن وبعض الدول العربية وخاصة الخليجية , من المهم التوضيح بأن هكذا قرار ما كانت تلك الدول مجتمعة أن تصدره في السابق , وفي أوجه صراع الحزب ضد الكيان الصهيوني , وعلى مدار خمسة وثلاثون عاماً مارس حزب الله نشاطه المقاوم في داخل لبنان وخارجه بإستهداف السفارات الصهيونية والمراكز اليهودية , الا أن أفعال الحزب الغبية وتدخلاته الدامية في الصراع بسوريا , كأنه يطلب هذا الوصف في مسابقة للقتل الطائفي , ليس دفاعاً عن القرار ولكن الحزب هو من قاد نفسه إلى هذا المربع بعد أن هدم صورته الناصعة في الأذهان كتنظيم مقاوم , ومحاولة إستخدام الماضي المقاوم للرد على هذا الوصف والتنديد به لا يجدي نفعاً , لأن هذا الوصف قد إلتصق بالحزب منذ دخوله في الحرب ضد الشعب السوري ومشاركته في قمع المطالبين بالحرية.
فالموقف العربي الرسمي لا يملك القدرة على إطلاق وصف "الإرهاب" على جماعة أو حزب بسبب مقاومة للإحتلال الصهيوني , ويعزز هذا القول الصراع الذي دار بين الدول العربية وكيان الإحتلال وخلفه الإدارة الامريكية في أروقة المؤسسات الدولية حول تعريف "الإرهاب" , وتأكيدهم بأن مقاومة الإحتلال على تدخل في تعريف "الإرهاب" , ولعل الحقيقة التاريخية التي يفهما اللبنانيين أن السعودية هي من شرعنة سلاح حزب الله , عبر إتفاق الطائف المشهور والذي جمع الأطراف المتخاصمة في لبنان , وأُلزمت الأطراف اللبنانية عبر الإتفاق على جمع السلاح من المليشيات بإسثتناء سلاح حزب الله , على إعتبار أنه سلاح لمقاومة الإحتلال ! ولو إستمر الحزب في سياسة النأي بالنفس عن الأحداث الجارية في الدول العربية وخاصة سوريا واليمن , فلن يستطيع أحد أن يجرمه أو يصف بالإرهاب , طالما أن نشاطه موجه للإحتلال الصهيوني, ولعل ذلك ليس لإيمان الأنظمة الرسمية العربية بالمقاومة كخيار لمواجهة الإحتلال الصهيوني ,فهي لديها من الإستعداد للتطبيع والمهادنة والسلام مع الكيان الصهيوني , وجميعها بلا استثناء بما فيها النظام السوري لازالت تتمسك بالمبادرة السعودية والتي عرفت لاحقاً بمصطلح المبادرة العربية , والتي أعلن عنها في القمة العربية من العاصمة اللبنانية بيروت عام 2002م .
ولكن يعود لثوابت تاريخية بأن المساس القضية الفلسطينية ورمزيتها والأطراف المشاركة في المواجهة المباشرة مع العدو الصهيوني خط أحمر بحراسة جماهير الأمة , وهذا ما تخشاه الأنظمة الرسمية , لذا لا تستطيع الإقدام على تجريم العمل المقاوم ضد المشروع الصهيوني حتى في أوج مراحلة الضعف والتراجع أمام مشروع التسوية والتطبيع .
ونحن الفلسطينيين أحزاب وفصائل , لا يجب أن نضع أنفسنا في فوهة مدفع غيرنا , فلدينا قضيتنا الوطنية والتي تحتاج إلى كل الجهود العربية والإسلامية , فالدعم لقضيتنا ليس حكراً على طائفة أو حزب أو دولة , فالدعم والرصيد الشعبيين وإستنهاض حالة الوعي الجماهيري للامة نحو قضيتنا , أفضل وسيلة في ظل الإصدام الداخلي الحاصل في الأوطان والبلدان العربية , وإن محاولة الإصطفاف في المحاور يزيد بكل تأكيد من خسارتنا الوطنية , ومن يريد أن يدعم فلسطين لعدالة قضيتها لا يحق له أن يسرق منا المواقف لصالح مشاريعه الخاصة ومعاركه الجانبية , فقضيتنا الفلسطينية بعدالتها تسمو على كافة الخلافات , وتجمع ببعدها الإسلامي والقومي كل الطوائف والمكونات في جسد الأمة الواحدة , فلا تبطلوا قضيتنا فعلها الموحد , أو تنالوا من رصيدها المتربع على قلب الأمة عبر الزج بها في ميدان الصراعات والخلافات .
ويقع على حزب الله أن يراجع حساباته , وأن يعود إلى حضن المقاومة الحقة , التي توجه رصاصها وصواريخها لعدو الأمة المركزي الممثل بكيان الإحتلال , وأن يترك الحزب الشعوب العربية تتحرك وتتفاعل بثوراتها لإسترداد حريتها , من قبضة أنظمة القمع والديكتاتورية في المنطقة العربية , وليكن معلوم أن تدخله بهذه الصورة المقيتة في الشأن السوري هو من يجلب التطرف والنزاعات الطائفية للمنطقة , وزاد هذا التدخل من الهوة بين المذاهب ولعله قضى على ما تبقى من فرصة للتقارب والتعايش , لعلها أمنية صعبة التحقيق أن يعمل حزب الله كرجل الإطفاء ليطفئ النيران التي ساهم في إشعالها , ويتخلى عن دعم الطغاة وينحاز للشعوب , قد يكون التراجع عن الخطأ أفضل من التمادي فيه , ومن يكسب جولة في الحرب ضد الشعوب سيخسر النهاية بالتأكيد , لأن الشعوب هي صاحبة الحق في رسم النهايات في مسيرة التاريخ , وستنتصر على كل أدوات ورموز القمع, فالحرية قيمة تتزاحم حولها الأرواح وإن غلت التكاليف وبهظت الأثمان .
لقد بدأت ثورات الشعب السوري مطلبية تنادي بالعيش الكريمة والحرية , وإصراركم على حكم العائلة في سوريا , زاد الأمر تعقيداً وسمح لكل الطامعين والمعادين للأمة بالتدخل من أجل مصالحهم وخدمة لإهدافهم في تقسيم سوريا , وما هو الخطر على محور المقاومة بإزاحة رئيس وإجراء إنتخابات عامة ؟!
سيختار فيها الشعب السوري ممثليه وحكامه , ويجدد العمل ضمن مشروع وطني عربي إسلامي لمواجهة المشروع الصهيوني , ويسعى من أجل إسترداد أرضه المحتلة في هضبة الجولان والتي يستوطن بها الصهاينة كنتاج طبيعي لهدنة النظام السوري مع الإحتلال والتي تستمر منذ أربعين عاماً .
بقلم/ جبريل عوده