مائتان شهيد وأكثر من خمسة عشر الف جريح هم شهداء وضحايا الهبه الجماهيرية في فلسطين وقائمة الشهداء والجرحى في إزدياد لتحقيق الحلم الفلسطيني بالحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فهذه الهبة والتي اخذت تتطور وتتسع وتتواصل على امتداد وطننا بصورة اذهلت الصديق قبل العدو والذي مارس ابشع عدوانه وقسوته وبطشه وقمعه وبربريته ضد شعبنا الفلسطيني الأعزل، فلقد كشفت الهبه الجماهيرية التي يخوضها شعبنا ضد اعنف وأجرم احتلال عرفته البشرية، حقيقة العجز الذي تعانى منه بعض الأنظمة العربية وحكامها وقادتها واستمرارها في صمتها أمام كل أشكال الإجرام والعدوان والتعنت والاستهتار الإسرائيلي ومنها القتل اليومي للأطفال والنساء والشيوخ وحصار وتجويع الشعب الفلسطيني.
إن رئيس الكيان الصهيوني نتانياهو يوظف جميع إمكانياته من أجل منع انتفاضة شعبية ثالثة في فلسطين والخروج بأكبر مكاسب، وتوحي تصريحات نتانياهو الأخيرة بأنه يتجه نحو تهدئة الأمور، ولا يرغب بالتصعيد مع شعبنا على خلفية تصاعد عمليات طعن المستوطنين في القدس والضفة الغربية وانتقالها إلى داخل المدن الإسرائيلية، وفي حقيقة الأمر فإن الايحاء بالتهدئة هو مجرد تغطية لمخطط شامل معقد لمنع أي حراك فلسطيني شعبي شامل في الضفة والقدس وغزة والمناطق ذات الاغلبية العربية في المثلث والنقب، والتركيز على أن إسرائيل، كما كل بلدان الجوار، تواجه موجة ارهاب، وأن من حقه التصدي لها، وأن العالم مطالب بدعمه لمواجهة إرهاب الشعب الفلسطيني.
وما يدلل على ذلك تصريحات نتانياهو التي تعهد فيها بالحزم في مواجهة هذه الهبه، لافتا في الوقت ذاته إلى عدم وجود حل سحري لمحاربتها، وقد صوّر نتانياهو التصعيد الحالي بأن إسرائيل تواجه موجة إرهاب مكونة من هجمات بالسكين والبلطات وقنابل المولوتوف ورشقات الحجارة وإطلاق النيران، عازياً هذه الأعمال التي وصفها بغير المنظمة للتحريض الجامح على الكراهية من قبل القيادة الفلسطينية وعلى وجهه الخصوص الرئيس ابو مازن والفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية وكذلك من الحركة الإسلامية في إسرائيل.
إن صمود شعبنا صلب لا يلين وهو مستمر في هبته الجماهيرية وكفاحه ونضاله وجهاده ومقاومته، شاء الاحتلال أم أبى، فهبتهم الجماهيرية هذه جعلت حكومة الحرب والعدوان الصهيونية تتخبط وتكشف علن أنيابها ونواياها السيئة تجاه شعبنا وقيادتنا علنا، فقتلت الأطفال والشباب والفتيات ورملت النساء ودمرت المقدسات واستباحت الأرضي وعاثت فيها فسادا وتخريبا وتدميرا، وهي ما زالت تمارس التطهير العرقي ضد شعبنا في كل مكان، وتستخدم كل الأساليب البربرية والتي تزداد وتيرتها باستمرار مطرد ضدهم، فاستخدمت كل السلاح الممنوع دوليا وقانونيا، وشعبنا يثبت في كل يوم صلابته وقوته وقوة موقفه، النابع من ثباته على الحق وإيمانه بقضيته العادلة، لا يزعزعه طغيان الآلة العسكرية الجبارة التي يمتلكها عدوهم المتغطرس.
إن اسرائيل تسعى جاهده لتقسيم فلسطين إلى كانتونات صغيرة متناحرة حتى تعم الفوضى تمهيداً لتنفيذ مشروعها الكبير الذي تسعى من خلاله تأمين مصالحها في المنطقة، واليوم تعيش اسرائيل صدمة كبيرة بسبب القرار المفاجئ الذي تم اتخاذه من جانب القيادة الفلسطينية بتوقيع أكثر من عشر اتفاقيات دولية للضغط على إسرائيل للإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى وعوده الحق الفلسطيني لأصحابه، إذ وضع اسرائيل في موقف حرج تصارع خلاله بغية إعادة محادثات السلام إلى مسارها الصحيح، بعد أن انحرفت وبدأت تدخل في مفترق طرق مسدودة، فالمشكلة هي أن إسرائيل تنتهج سياسة التفاوض من أجل التفاوض وكسب الوقت والكل يعرف ذلك، بما في ذلك أمريكا والإتحاد الاوروبي، ومع ذلك فإن الدول الفاعلة ليست مستعدة لتحمل مسئولياتها في وضع حد للغطرسة الإسرائيلية، وتسعى عوضاً عن ذلك لاستجداء مزيداً من التنازلات من القيادات الفلسطينية.
وفي سياق متصل إن طلبات الانضمام لأكثر من خمسة عشر ميثاقاً واتفاقا دولياً التي قدمتها القيادة الفلسطينية مؤخراً للمبعوث الخاص للأمم المتحدة في الشرق الاوسط، ولمندوبي سويسرا وهولندا لدى السلطة الوطنية، تتعلق جميعها بحقوق الإنسان وقضايا إجتماعية، وهي خطوة قد لا تتأثر إسرائيل كثيراً بنتائجها، ولكن الانضمام لبقية المنظمات الدولية من شأنه ان يثير قلق إسرائيل وفزع جنرالاتها ممن تلوثت أياديهم بدماء شعبنا، فلم يكن من المستغرب وصول المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الى طريق مسدود، فبعد عام من اللقاءات وأكثر من خمسه وعشرين زيارة لوزير الخارجية الامريكي جون كيري الى المنطقة، لم يتم الكشف خلالها عن التوصل لأي اتفاق على اي بند، على العكس من ذلك إستغل نتنياهو هذه المفاوضات ليضع بنوداً تعجيزية جديدة على غرار إلغاء حق العودة للاجئين، والطلب من القيادة الفلسطينية الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وليفرض أمراً واقعاً على الأرض بتوسيع الإستيطان، وتسريع خطوات تهويد مدينة القدس المحتلة.
إن الحقيقة التي يجب أن ندركها بيقين أن القضية تكمن في أن هذه المفاوضات لم تحقق أي تقدم تجاه السلام وأن الوضع الحالي لها أثبت أن هناك أزمة حقيقية مع الجانب الأمريكي الذي فشل في أن يلعب دور الوسيط النزيه ولذلك فإن المراجعة التي يتحدث عنها الوزير كيري لن تكون ذات جدوى ما لم تغير واشنطن إستراتيجيتها بشكل جذري وتمارس المزيد من الضغوط على إسرائيل.
وفي إطار ذلك يمكنني القول إن شعبنا وقيادتنا والذين تحملوا الكثير من الخداع والكذب والتضليل الإسرائيلي فإنهم يتوجهون اليوم نحو المجتمع الدولي لنزع فتيل الأزمة بدلاً من الاستمرار في تجاهل مطالبهم المحقة والعادلة، وهي ليست مطالب فلسطينية فحسب بل عربية وإسلامية، فالمدينة المقدسة تخص كل العرب وكل المسلمين وسياسة فرض الأمر الواقع في المدينة المقدسة لن تكون مقبولة، ولابد من الوقوف بوجه سياسة قضم الأرض المقدسة وتهويدها بشكل حازم.
على هذا الأساس فليس أمام شعبنا وقيادتنا وفصائلنا إلا أن يستجمعون كل عناصر القوة فلسطينيا وعربيا ودوليا وإقليميا لمواجهة تحديات المرحلة القادمة وإستحقاقاتها على أساس الثابت وهو إقامة دولتهم المستقلة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف وحق عودة لاجئيهم، ضمن الثوابت لهذه المرحلة التاريخية العالمية وهي الثوابت المتعلقة بالأرض والإستيطان والقدس وعودة النازحين واللاجئين الى ديارهم وحقوقهم في مواردهم الطبيعية وخاصة المياه والغاز والحرية والإستقلال المتكافئ.
إن الدولة الفلسطينية ليست هبه أو منه او منحه من أحد، وإنما هي حق لشعبنا معترف بها عالميا ودوليا وعربيا، فلقد اختار شعبنا طريق السلام في ظل إختلال موازين القوى، ولكن هذا لا يعنى إنهم في موقع ضعف وتستطيع الحكومة الصهيونية أن تملي عليهم شروطها أو تفرض عليهم التخلى عن حقوقهم وثوابتهم، لأنهم عندما خاضوا معركة السلام، كانوا يفهمون جيدا ماذا تعني وعلى ماذا ترتكز وإنها ليست عنوان مجرد، وإنما هي حالة إنسانية وجوديه وحياتية، لأنها تقوم على مرتكزات في الفكر والذات والواقع والوجدان، فالمطلوب في هذه الأوقات تحرك دولي وعربي وإسلامي وإقليمي فاعل وبدعم وجهد أوروبي وروسي وأمريكي وسويسري وياباني وصيني وفرنسي لإيقاف هذه المجازر وهذا العدوان القائم في الوطن الفلسطيني بواسطة آله الحرب الصهيونية وبدعم من المستوطنين النازيين الجدد.
*آخر الكلام:
يرونها بعيدة ونراها قريبة وإنها لصادقون
بقلم / رامي الغف*
إعلامي وباحث سياسي