أمريكا مجرمة حتى لو ثبتت براءتها… ولن تثبت

بقلم: علي الصالح

أمريكا "مذنبة حتى تثبت براءتها".. نعم ظالمة ومجرمة بحق الفلسطينيين والعرب حتى لو ثبتت براءتها " ولن تثبت.
هذه قناعة راسخة لن يغيرها حتى ما جرى تسريبه في صحيفة "وول ستريت جورنال"، حول خطة كاملة للبيت الأبيض، لاستئناف عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين قبل نهاية ولاية الرئيس باراك أوباما بعشرة أشهر. ورجحت مصادر أمريكية أن يكون سبب إلغاء زيارة بنيامين نتنياهو الى واشنطن ناتجا عن هذه الخطة، التي قد تشمل السماح بتدخل مجلس الأمن الدولي لفرض حل على الطرفين. صحيح أن من الخطأ إصدار الأحكام المسبقة واتخاذ المواقف المقولبة بشأن أشياء معينة وسياسات بحد ذاتها، ولكن الولايات المتحدة تظل حالة استثنائية بسبب تاريخها الأسود وقراراتها الظالمة في ما يتعلق بالشعب الفلسطيني وقضيته، وأي قضايا عربية اخرى عادلة على مدى قرون طويلة.
قد يتهمني البعض بالتهور في زمن المداهنة للقوة الكبرى الوحيدة في العالم.. فنحن نعيش في العصر الامريكي الذهبي، ولكنني لا أبالي.. كما أن هذا الموقف لا علاقة له بقرار وزارة الداخلية الامريكية منعي من الســــفر الى أراضيها في نوفمبر 2012.. لا بل منعي حتى من ركـــوب الطائرة من مطار هيثرو في لندن إلى نيويورك.. رغم أنني كنت مدعوا من الرئاسة الفلسطينية لمرافقة أبو مازن كصحافي وليس عضوا في الوفد… وارجو الا يقفز البعض لاستنتاجات غير دقيقة.. فانا لم أكن يوما من رجالات الرئيس أي رئيس ولن أكون بعد هذا العمر الطويل. وحتى اللحظة لا اعرف سبب منعي من السفر، رغم انني رافقت أبو مازن في رحلة سابقة الى نيويورك في سبتمبر 2011.
وبسبب هذه المواقف والسياسات الأمريكية المعادية، أعاني من حساسية مفرطة ازاء كل ما يصدر عن البيت الأبيض، أو وزارة الخارجية، أو أي طرف في الادارة، يتعلق بقضايانا.. فنظرية المؤامرة تلازمني دوما.
لست مبالغا في القول إن الإدارة الامريكية الحالية كانت الأسوأ في سياساتها ازاء الفلسطينيين، رغم أننا توسمنا خيرا بعد تولي باراك اوباما دفة الحكم على الاقل في ولايته الأولى، ولم يكن السبب لونه او دين أبيه، بل ما قاله في اول خطاب مهم له بعد خطاب الاتحاد. إذ وعد في الشهر السادس من وصوله الى البيت الابيض وتحديدا في 4 يونيو 2009 ومن على منبر جامعة القاهرة، ألا مفاوضات مع الاستيطان إلى آخر ما جاء في الخطاب من وعود بتحقيق السلام. وهذا لا يعني أن سياسة الإدارات السابقة كانت افضل.. والأسباب عديدة لا تحصى، إذ لم يحصل أن وقفت واشنطن يوما الى جانب قضية عربية او دولة عربية، حتى إن كانت المملكة العربية السعودية حليفتها الرئيسية في المنطقة، أو هكذا يفترض.. فتاريخها الاسود شاهد على ذلك، وحتى في حالة الاستقطاب الطائفي والسياسي الذي تشهده المنطقة. ففي نهاية المطاف تقف واشنطن دوما الى جانب "اعداء" الأمة.. فقد وقفت إلى جانب إيران في موضوع الاتفاق النووي، رغم معارضة الحليف السعودي المضمون "في الجيب"، خصوصا الذي اعتبر توقيع البيت الأبيض على الاتفاق النووي مع ايران، طعنة في ظهره واخلاء به، وتركه في العراء يلف حول نفسه ويلعق جراحه المثخنة. وحتى في الملف السوري، فقد لوت واشنطن ذراع حليفها السعودي وأرغمته على تغيير موقفه 180 درجة، وأجبرته على لحس كل ما كانت يتشدق به عن اسقاط نظام بشار الاسد، وعلى القبول بتسوية سياسية تبقي عليه ولو الى حين، رغم مسؤولية هذا النظام المباشرة عن جرائم، خلفت اكثر من ربع مليون سوري. ولا نبرئ العديد ممن تطلق على نفسها قوى المعارضة، من دم هؤلاء السوريين. وراح الحليف السعودي يردد ما تقوله واشنطن حول مواجهة ومحاربة تنظيم الدولة "داعش".
باختصار فإن واشنطن وقفت مع خصوم حلفائها حتى المضمونين منهم مئة بالمئة. ولا تمارس واشنطن ذلك الا مع مثل هذه الدولة العربية، التي لا تقوى على قول "اللا" لواشنطن.. "إلا في تشهدها لولا التشهد لكانت لاؤها نعم"، مع فارق التشبيه والاعتذار للامام علي بن الحسين حفيد ابنة النبي وللشاعر الفرزدق. وقد تضطر هذه الدول أو بعضها يوما ما، مع ازدياد الاوضاع سوءا في المنطقة وهو متوقع، أن تسقط "لا" التشهد.
فإذا كانت هذه هي الطريقة التي تتعامل فيها واشنطن مع حلفائها، فكيف يمكن الثقة بها عندما يتعلق الأمر بالصراع العربي الاسرائيلي والقضية الفلسطينية، التي استخدمت ضدها واشنطن حق النقض "الفيتو" اكثر من 60 مرة.
وبناء على ذلك أقول قولي هذا، ومن هذه الزاوية انظر الى التسريبات الأخيرة حول مبادرة البيت الابيض.. وإلا كيف يمكن تفسير الانقلاب المفاجئ في موقف الإدارة التي اعلنت مرارا رفضها للمبادرة الفرنسية لتسوية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. هذا التغيير الذي يأتي مناقضا لتصريحات كبار أركانها، مفاده أن قضية الشرق الاوسط دخلت مرحلة البيات الشتوي في عام الانتخابات الامريكية، ولن تقدم ادارة الرئيس باراك اوباما في أشهرها الأخيرة، على اي خطوات لانعاش عملية السلام.
وتقود هذه التسريبات الى استنتاجات ثلاث:
الأول أن ضمير اوباما استيقظ اخيرا وأراد ان يكون مختلفا عن سابقيه من الرؤساء الذين لا تستيقظ ضمائرهم ولا يرون حقا في الحقوق الفلسطينية الا بعد خروجهم من البيت الابيض، وبعضهم يبقى على غيه.. أشك في ذلك. الثاني ربما يكون أوباما قد قرر ان ينتقم لكبريائه الجريحة في خطوة لن تؤتي أكلها فترتد إلى نحره.. من رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي مرغ بكبريائه الطين بتحديه في عقر داره وتجاهله له والتحريض عليه حتى في اوساط حزبه الديمقراطي، في مسألة الاتفاق النووي.
والثالث أن الخطة الجديدة برمتها مؤامرة جديدة يختتم بها اوباما تسع سنوات عجاف من إدارته.. أسوأ تسع سنوات تعيشها المنطقة العربية في تاريخها… تسع سنوات تضاعف فيها الاستيطان.. تسع سنوات تشرذم خلالها العراق وكذلك سوريا وليبيا واليمن الى معازل إثنية وعرقية وطائفية متناحرة متقاتلة.. تسع سنوات أوقدت فيها نار الفتن بجميع اشكالها.. تسع سنوات من القتل والدمار مخلفة وراءها مئات الالاف، إن لم يكن اكثر من مليون قتيل عربي والحبل جرار.
أرجح الاستنتاج الاخير آخذا بالمثل القائل إن "ذيل الكلب لا يمكن أن يستقيم" وسيبقى معوجا. فوراء هذا التحرك المفاجئ لا بد أن تكون مؤامرة هدفها تغيير مراجع ما يسمى بعملية السلام بفرض قرارات دولية جديدة… بدون ان يكون هناك حل أصلا.
وهذا ليس هذيانا.. اولا لأن واشنطن لا يمكن ان تعمل ضد مصالح اسرائيل ولا يمكن أن تفرض حلا عليها، ولو أرادت لفعلت ذلك وهي في أوج نفوذها وليس في عشرة الأشهر الأواخر.. وأن ما تقوم به الان هو لانقاذ اسرائيل من سياسات حكومتها اليمينية المتطرفة. وثانيا أن ما سرب من معلومات لا يبشر بخير، وليس لصالح الفلسطينيين، وعليه فإن اضطروا للتعامل معه ان يتعاملوا بحذر شديد. فالمعلومات المسربة لـ"وول ستريت جورنال" حول الخطة التي يجري بلورتها مرعبة لأنها لا تتحدث عن حل وفق قرارات الشرعية الدولية، بل تربط قيام دولة فلسطينية بشرطين اثنين مرفوضين فلسطينيا، الأول الاعتراف بيهودية دولة اسرائيل وما لذلك من انعكاسات على فلسطينيي 1948. والثاني التخلي عن حق العودة للاجئين. مقابل ان تضغط واشنطن على اسرائيل لوقف الاستيطان والاعتراف بالقدس الشرقية (بدون توضيح لحدود القدس) عاصمة لدولة فلسطينية على حدود 4 حزيران 1967، مع تبادل اراضي المستوطنات بأراض تعادلها بالكم والكيف الى آخر الديباجة.
وتتضمن الخطة التي يمكن ان تطرح في خطاب رئاسي امريكي بالتزامن مع بيان مشترك مع اللجنة الرباعية الدولية جدولا زمنيا لإنهاء العملية السياسية والمفاوضات. وحال انتهاء هذه المدة فإنه سيتم تحويل الملف إلى مجلس الأمن لفرض حل دولي على الطرفين. ويتزامن ذلك مع دراسة لمعهد الأبحاث الأمريكي "فيو" شملت 5600 شخص تبيّن أن الغالبية العظمى من اليهود تؤيد وصف اسرائيل بدولة يهودية. وقال 91٪ منهم إن "دولة يهودية" ضرورية لبقاء الشعب اليهودي على الأمد البعيد… تبين الدراسة أن 47٪ منهم يؤيد طرد المواطنين العرب. وهذا ما تدعو اليه الاحزاب اليمينية وفي مقدمتها حزب "اسرائيل بيتنا" بزعامة افيغدور ليبرمان الذي أبدى استعدادا للتنازل عن منطقة المثلث ذات الأغلبية العربية، التي تنازل عنها المفاوضون العرب لاسرائيل خلال مفاوضات الهدنة في جزيرة رودس عام 1949.
واخيرا فان الفلسطينيين وأقصد الجانب الرسمي غير مضطر الآن لإعلان اي موقف سواء بالقبول او الرفض وعليه الانتظار الى ان تنجلي الصورة.. او كما يقول المثل "بكرا يذوب الثلج ويبان المرج".

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح