بعد مبادرة الرئيس والحكومة الفلسطينيين التي استجابت لبعض مطالب المعلمين، قرّر المعلمون الفلسطينيون تعليق الإضراب المستمر منذ أكثر من شهر. كان الإضراب علامة بارزة في النضال المطلبي، من حيث قدرته على حشد معظم المعلمين رغمًا عن اتحادهم الذي تخلّى عنهم منذ البداية، ولجهة تعنت السلطة وإصرارها على رفض مطالبهم، وسقوط معظم الفصائل في الامتحان، خصوصًا "فتح"، برغم أنّ معظم المضربين وقياداتهم من أعضائها وأنصارها، وأخيرًا لقدرة الإضراب على حشد تأييد مجتمعي متزايد، إذ شارك في التظاهرة الحاشدة الأسبوع الماضي عدد كبير من الطلبة وأولياء الأمور ومن قطاعات شعبية مختلفة.
في ضوء ما سبق، ما هي أهم دروس الإضراب:
الدرس الأول، أنّ الحقوق تنتزع ولا توهب ولا تقدَّم مكرمة من حكومة أو ملك أو رئيس. وحتى تتحقق المطالب، لا بد من الإيمان أولًا بأنّ "جسمك لا يحكّه إلا ظفرك"، وهذا يتطلب التسلّح بالتمثيل المتجسد بعشرات آلاف المعلمين، ومن ثم الاستعانة بالمجتمع. فأي قطاع وحده يمكن كسره، والاستعداد لتحمل الضغوط والتهديدات والاتهامات، بما في ذلك اللجوء إلى الحل الأمني والاعتقالات واستخدام المحافظين وقطاعات مجتمعية وأفراد الأجهزة الأمنية وأعضاء في "فتح" ووسائل الإعلام وبعض الكتّاب، للتحريض على الإضراب والمضربين، واعتبار ما يقومون به "مؤامرة" و "انقلابًا" لصالح "حماس" أو إسرائيل أو محمد دحلان، أو لحرف الأنظار عن الاحتلال وعن الموجة الانتفاضيّة المندلعة للشهر السادس على التوالي.
ويتمثل الدرس الثاني بأن إضراب المعلمين، مثله مثل الموجة الانتفاضية وحركة المقاطعة (BDS) والمقاومة الشعبية، تحركات شعبية من دون قيادة، فالفصائل تشارك فيها ولكنها لا تقودها، أما منظمة التحرير فهي مشلولة ومغيبة لصالح السلطة، والسلطة مقيدة بالالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية ولا تملك الإرادة والجرأة للتخلص منها، برغم أنها تهدد بفعل ذلك منذ وقت طويل، وبرغم أنها تمردت على هذه الالتزامات سابقًا إبان الانتفاضة الثانية.
أما الفصائل فهي إما ضد الإضراب، أو أنها لا تكترث له، أو تحاول توظيفه ضد المنافس الداخلي، أو لا تملك القوة الكافية للتأثير على مجرياته بشكل حقيقي. لذلك رأينا تحوّل المجتمع المدني والكتل البرلمانية وعدد من الكتاب والأسرى وغيرهم بقدرة قادر إلى وسطاء بين فريقين تمامًا، مثلما تحول الصراع بيننا وبين الاحتلال بفضل "اتفاق أوسلو" إلى نزاع بين طرفين يملكان الحق نفسه.
أما الدرس الثالث الذي يمكن الخروج به من إضراب المعلمين فهو أن بقاء حال السلطة محال. فمن المستحيل أن تبقى كما شكلت، على أساس الوهم القائل بأن الدولة على مرمى حجر بعد مرور الفترة الانتقالية، أو بعد مجيء رئيس أميركي جديد، أو حكومة إسرائيلية تؤمن بالسلام. فهي إما أن تصبح أداة في خدمة الاحتلال كليًا، أو لا بد من تغيير شكلها ووظائفها والتزاماتها، وإن لم يكن ذلك ممكناً فورًا ومرة واحدة، فيجب أن يتم بالتدريج، ولكن وفق خطة معلنة وواضحة ومعروف منذ البداية أين وكيف ستنتهي، على أن يكون الالتزام بتطبيقها كاملًا.
أما الدرس الرابع، وهو قديم جديد يقوم على استحالة الفصل بين النضال الوطني والنضال الديموقراطي الاجتماعي الاقتصادي، فلا يمكن أن يناضل الشعب الفلسطيني بأفضل وأنجع طريقة وهو يخوض كفاحًا طويلًا لن ينتهي بسرعة، وفي ظل مقاومة ووجود سلطة في الوقت نفسه، وهو يعاني من ضغوط الحياة من دون أن تتوزع موارده بعدل على أساس إعطاء كل ذي حق حقه، وعلى أساس مؤسسات نزيهة منتخَبة وتحت الرقابة والمحاسبة.
المطلوب سلطة جديدة تستجيب لمصالح الناس وتخدم البرنامج الوطني وتكون أداة من أدوات "منظمة التحرير" التي تحتاج إلى إعادة بناء مؤسساتها على أسس وطنية وديموقراطية توافقية وشراكة حقيقية. وإذا كانت مثل هذه السلطة صعب أو مستحيل قيامها، فلتذهب السلطة القائمة إلى الجحيم، وليتحمل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن احتلاله، على أن يتم الشروع فورًا في بناء البديل، حتى لا يؤدي حل السلطة إلى الفوضى والفلتان الأمني وتعدد السلطات، التي لن تكون في هذه الحالة مجرد سلطتين فقط كما هو الحال الآن، بل سيكون هناك سلطة في كل معزل من المعازل التي أقامتها إسرائيل منذ احتلالها العام 1967 حتى الآن.
هاني المصري