إنهم يئدون القطط ! وزارة للسعادة.. وللحزن… ومحمود درويش

بقلم: فايز رشيد

خمسة جنود اسرائيليين يقفون على جوانب حفرة حديثة جهّزها أحدهم، يراها الاسرى الفلسطينيون في السجن المجاور في عسقلان من نوافذ معتقلهم.
تموء القطّة (عزيزة) وجعا وحسرة بين أيديهم، مُقَيدةَ في يديها قدميها بحبل متين. وهي عادة تطبقها إسرائيل على المعتقلين. يتضاحك الجنود بصوت عال محاولين لفت انتباه المساجين كي يروا. عيون الآخيرين تدّر دموعا ساخنة، ألما على عزيزة، وقد خدمتهم طويلا في نقل الرسائل بين المعتقلين في مهاجعهم. يربط المعتقلون الرسائل المكتوبة على ورق السجائر الرقيقة، بخيط يعلقونه على رقبتها بدون التأثير عليها. يصّفرلها المعني بتلقي الرسالة. تقبل عزيزة عليه بوجه ضاحك يمور سعادة انتظار قطعة لحم شهية، يناولها لها، لم يكن بالأمس قد أكلها، وأبقاها خصيصا لعزيزة.يُقبل سجّان عبر مدخل السجن، يحمل في يديه سطلا بلاستيكيا، ملأه من ورشة لبناء المزيد من الزنازين، وقد اكتظت القديمة منها بالسجناء الجدد. يلقي جندي بعزيزة في حفرة الإعدام. يتشاركون جميعهم في إهالة الباطون عليها. يصرخ المعتقلون بأعلى أصواتهم. يضج الجنود والسجان بهستيريا ضاحكة.
ما سبق، ليس مقطعا من مشروع مسرحية كتبتها! بل تحوير لحدث حقيقي جرى حقيقة في سجن عسقلان للقطة عزيزة، أورده الكاتب سمير الزين في مؤلفه بعنوان "سمير القنطار.. قصتي". أستبيح الروائي الامريكي الفذّ هاروس ماكوي، عذرا في استعارة جزء من عنوان روايته الإبداعية "إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك" لعنونة مقالتي هذه. للعلم، أخرج سيدني بولاك فيلما يحمل العنوان ذاته. لعبت دور البطولة فيه، زوجته جين فوندا. أذكر أنني شاهدت الفيلم أواسط السبعينيات في عمان، خلال إجازة دراسية لي من موسكو. الفيلم موضوعا، إخراجا وتمثيلا ومشاهد، ما يزال محفورا في ذاكرتي حتى اللحظة، فهو جدّ مؤثر في تعبيراته عن تلذذ الأشرار بعذابات الفقراء. تطرّق إلى الموضوع ذاته "قتل الجياد" لروائي القرغيزي المبدع جنكيز آيتماتوف في رائعته بعنوان "وداعا يا غوليساري". وكما قال في مقابلة للتلفزيون السوفييتي معه: إن الرواية هي الأحب اليه من بين كل أعماله (رغم أن اشهر رواياته هي بعنوان "جميلة") . بدوري أوضّح: أن حالات قتل الجياد كانت تتم للخيول الهرمة رأفة بها! رغم اعتراضي على المبدأ! لكن اغتيال القطة المسكينة عزيزة وبهذه الطريقة القبيحة البشعة (وأدها!) جاءت عقابا لها على مساعدتها للأسرى الفلسطينيين! أراد القتلة أيضا من اغتيال عزيزة، إفهامهم بأن الكيان لن يتوانى عن إعدامهم أحياء وبالطريقة ذاتها! خاصة أن للصهاينة تجربة إعدام الاسرى المصريين أحياء في صحراء سيناء، كان ذلك خلال حرب يونيو 1967 بعد إجبارهم على حفر قبورهم بأيديهم. نتساءل: هل من الغريب على من امتهن المجازر والإعدامات الميدانية للأطفال الفلسطينيين والعرب، وأد القطط؟
بعد قراءتي للحادثة، استعرضتُ في ذهني كل المعاناة، التي يمر بها المعتقل في السجون الصهيونية. وقبلها حفلة التعذيب لأيام قد تطول اسابيع وشهورا في أقبية المخابرات، وقد جرّبتها في مثل هذه الأيام من عام 1969.. ما اكتشفته من الكتاب: أساليب جديدة مُطوّرة للتعذيب، ابتكرها الكيان بحكم التطور التكنولوجي. الجلادون يهدفون إلى كسر إرادة المعتقل الفلسطيني أو العربي في معتقلاتهم. خسئوا، معتقلونا ورغم وحشية ظروفهم، صامدون في وجه العدو الفاشي. تمكنوا استغلال ظروف القهر البشع لتربية أجيال من المناضلين المجربين.
على صعيد آخر: أعلن نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد، عن منصب جديد في الحكومة، هو "وزير دولة للسعادة". تكون مهمته الأساسية، كما جاء في تغريدة له على موقع تويتر، مواءمة كافة خطط الدولة وبرامجها وسياساتها لتحقيق سعادة المجتمع، وأعلن الشيخ محمد أيضا، عن استحداث منصب وزير دولة للتسامح، لترسيخ هذه السمة كقيمة أساسية في مجتمع الإمارات. جاء الإعلان عن المنصبين الجديدين خلال أعمال القمة العالمية للحكومات، التجمع الأكبر عالميا المتخصص في استشراف حكومات المستقبل .وكان رئيس القمة قد أعلن أن "الإنسان سيبقى باحثا عن السعادة وساعيا إلى تحقيقها، ولابد أن تكون رسالة كافة الحكومات أيضا سعادة الإنسان". للعلم، فنزويلا هي البلد الأول الذي أنشأ وزارة للسعادة عالميا. فكرتا التسامح والسعادة هما من أجمل القِيَم المجتمعية بالمعنى الإنساني، لكن ما هي السعادة؟ هل هي امتلاك المال؟ سؤال نطرحه على سبيل المثال لا الحصر. يربط ديكارت بين مفاهيم السعادة، الرغبة، البهجة والحب، باعتبار كل مفهوم منها مرتبط بالآخر. أما لالاند فيصفها، بأنها حالة رضى تام تستأثر بمجامع الوعي الإنساني. كانط يراها "مثلا أعلى لا للعقل بل للخيال، وهي مؤسسة على مبادئ تجريبية، ينتظر الإنسان منها في غير جدوى للتمكن من تحديد فعل يصل به إلى كلّ شامل ونتائج ملموسة، وهي في حقيقتها مطالب لا متناهية. هذا هو الأقرب إلى الواقع. نعم، ليس المهم الإغراق النظري في تعريف السعادة، وإنما الاهم، التأكيد على أن السعادة هي مفهوم نسبي لكل انسان وفقا لظروفه الآنية، أي اللحظة التي يحتاج فيها إلى تحقيق مطلب سريع، انطلاقا من حاجته. حلم الفقير لحظة الجوع، رغيف خبز، وليس اموالا يكتنزها في بنك! حلم الأسير في لحظته هو التحرر من ظروف السجن، والعودة إلى الحرية في وطن مستقل. حلم الفلسطيني: وطن يعيش فيه بكرامة مثل كل الناس. لذا نقول: الفلسطيني يحتاج إلى تسمية "وزارة للحزن" بفعل معاناة أجياله المتعاقبة من كل موبقات الاحتلالات الكريهة التي واجهها وما يزال. إن أبسط الخيارات غير متاحة للفلسطيني، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا كان الإنسان لا يتدخل في مكان ولادته، فإنه يملك الحق في اختيار مكان دفنه، إلا الفلسطيني في الشتات، فهو محروم من هذا الحق! في العادة وخلال شيخوخته يميل المرء للعودة إلى مهده. لعل الموت بطقوسه الاخيرة والدفن في ثرى الوطن، بالنسبة للإنسان نوع من ممارسة الحنين "النوستالجيا" الإنسانية المشروعة. الفلسطيني يحترف الحزن والانتظار، يلوم نفسه على اقتناص ضحكة إذا مارس طقوسها لبرهة من الوقت. لكن من المهم التأكيد أن الحزن الفلسطيني ليس من النوع الذي يفترش صاحبه ويقعده عن الحركة والنضال في سبيل دحر الاحتلال، واستعادة حقوقه الوطنية وميراث أجداده! إنه الحزن المرتبط بالغضب على الاحتلال، الذي سلبه كل حقوقه الإنسانية المشروعة لمطلق إنسان على ظهر البسيطة.. إلا الفلسطيني، حزن مرتبط بالمقاومة المُشرّعة أيضا. لعل الشاعر الفلسطيني المبدع محمود درويش (مرت ذكرى مولده في 13 مارس الحالي) خير من عبّر في شعره عن ارتباط الحزن الفلسطيني بالغضب المقاوم . إنه فارس الشعر الفلسطيني، رجل المهمات الصعبة أيضا في الشعر العربي والعالمي، ترك الحصان وحيداً، وأصبحت الـ"عصافير بلا أجنحة"! صاحب قلب أضناه عشق فلسطين، وهو المتيم ببرتقالها وزيتونها وورودها، الظامئ دوماً لمياهها وبحرها وشاطئها المتوسطي، المتعب بما يحمله من احلام شعبها، المتجسد دوما في قضيتها ومعاناة أهلها، المتماهي مع سمائها وطيورها وأحاسيسها. ليس من السهولة بمكان اختصار محمود درويش في مقالة صحافية، فهو صاحب موسوعة المغناة الفلسطينية من ألفها إلى يائها. إن شعر محمود درويش هو تأريخ للمراحل الفلسطينية من خلال الشعر، ففي البداية كان التركيز على الهوية الوطنية وعلى الفلسطينية/فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الاحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت/ سجّل انا عربي… وغيرها. وفي مراحل الثورة المختلفة، كان لمحمود درويش قصائد مختلفة متماهية مع تلك المراحل، فحين خفتت المقاومة قال قصيدة فيها: "عندما لا يتحرك الأحياء يتحرك الأموات"، وفي حصار بيروت كانت قصيدة "مديح الظل العالي"، ومع بدء الانقسام الفلسطيني، جاءت قصيدة، "انت منذ الآن غيرك".. الخ، الخ.
الشاعر استلهم الام والحبيبة، والشهيد وأقاربه، والزوجة والابناء، والفدائي في قصائده، وأضفى المزيد من اللمسات الإنسانية على النضال الفلسطيني، وساهم ذلك في انتشار القضية والحقوق على النطاق العالمي. وهو الذي استعرض في قصائده جوانب أخرى إنسانية تلازم النضال الفلسطيني، فالفلسطيني ليس مقاتلا ومكافحا فحسب، بل هو الذي يحب ويعشق ويسمـــــع الموسيقى أيضا، وهو الذي يحن إلى خبز أمه وقهــــوة أمه ولمسة أمه. محمود درويش صاحب "رائحة البن جغرافيا" فالقرى الفلسطينية في الصباحات الباكرة تعبق برائحة البن اثناء غلي القهوة التي يشربها الآباء الفلاحون قبل ذهابهم إلى العمل. وأخيرا فإن محمود درويش هو صاحب الملحمة الشعرية "الجدارية" التي تقتضي الكتابة عنها، مجلدا ضخما، فهي رثاء مسبق للذات، وهي صراع إنساني مع الموت… ومعنى الخلود.

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد