صحافيو العار في "واحة الديمقراطية"

بقلم: علي الصالح

قبل حوالي الشهر طلعت علينا صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية بخبر رئيسي تحت عنوان عريض يقول، إن أربعة صحافيين عرب كبار، يقيمون ويعملون في أوروبا كانوا في "واحة الديمقراطية" إسرائيل سرا، ما بين 14 و19 من فبراير الماضي بدعوة رسمية من وزارة الخارجية الإسرائيلية، وهي حقيبة يتولاها رئيس حكومة الاحتلال اليميني العنصري المتطرف بنيامين نتنياهو، وتدير شؤونها نائبته الأكثر عنصرية وتطرفا تيسفي حوطبيلي.
واعتبرت الخارجية الاسرائيلية على موقعها الإلكتروني، ذلك إنجازا عظيما.. ووصف المتحدث باسمها عمانوئيل نحاشون الزيارة بأنها من أهم الزيارات التي استضافتها الوزارة.. الغرض منها الإسهام في تحسين صورة إسرائيل والاحتلال أمام الرأي العام العربي. فإذا كان هذا إنجازا، وفقا لمعايير الدبلوماسية الإسرائيلية، فهنيئا لها بهذا الإنجاز العظيم، الذي هو وفقا لأي معايير أخرى، دليل فشل لا دليل نجاح. أليست هي ذات الدبلوماسية التي منيت بهزيمة نكراء في اقناع الغالبية العظمى، أو بالأحرى الساحقة من المثقفين والصحافيين العرب بالتطبيع معها، باستثناء فئة ضالة ضئيلة من ضعاف النفوس، من أمثال هؤلاء الذين يجدون فيها وسيلة للكسب السريع.
ومصر وشعبها الأبي خير دليل.. فبعد حوالي 40 عاما على معاهدة سلام كامب ديفيد المشؤومة، التي كبل بها الرئيس الراحل محمد أنور السادات، مصر الرسمية، فشلت كل المحاولات الاسرائيلية في إقناع الغالبية الساحقة في مصر الشعبية بمثقفيها وإعلامييها وصحافييها ومواطنيها العاديين، بفكرة التطبيع، ولا يزالون رغم كل هذه السنون والضغوط الدولية يعتبرونها عدوا. وهذا الفشل المتأصل يفسر التطبيل والتزمير الإسرائيلي لاستقبال "بهلوان الإعلام المصري.. وبهلوان البرلمان المصري"، توفيق عكاشة للسفير الاسرائيلي في منزله، في مسقط رأسه في قرية ميت الكرماء في محافظة الدقهلية. وهذا الفشل يفسر اعتبار الدبلوماسية، هذه الزيارة اختراقا..
ولم تدم فرحة الدبلوماسية الاسرائيلية طويلا لتأتيها الصفعة الأولى من مجلس الشعب المصري، فطرده شر طرد كما طرده الاعلاميون المصريون من قبل، من مقر التلفزيون "الماسبيرو". أما الصفعة الثانية وهي بالتأكيد الأقوى، فجاءت من أهالي محافظته الدقهلية وبلدته ميت الكرماء، المعروفة بعدد شهدائها خلال حروب مصر الاربع مع الكيان الصهيوني، فقد عبّر الناس الطيبون عن ندمهم لانتخابه، بينما راح أحدهم يضرب نفسه بالحذاء لإعطائه صوته، وسط تعالي أصوات العديد من المواطنين الطيبين، يرددون هتافات ضده وصلت حد وصفه بأقذع الأوصاف والتشكيك في وطنيته. ومن هذا الفشل أيضا يأتي التطبيل والتزمير لزيارة صحافيي العار الأربعة، وهم ثلاثة ذكور وانثى، الذين وصفتهم بالكبار، وهم حقا صغار من ضعاف النفوس غير المأسوف عليهم.. جبناء بمطالبتهم التكتم على اسمائهم، بزعم أنهم قد يتعرضون للمضايقات والتهديد وانقطاع أرزاقهم، رغم أنهم يعملون لدى وسائل إعلام أجنبية شهيرة على حد قولها، وهي قناة "سكاي نيوز" عربية، وقناة "دويتش فيله" الألمانية الناطقة بالعربية، وقناة "بي بي سي" العربية، إضافة بالطبع لصحيفة "الشرق الاوسط" التي يتبنى بعض كتابها الرئيسيين مواقف تلقى قبولا وارتياحاً في الأوساط الإسرائيلية.. فتكتمهم ليس كما يدعون، إنما مصدره هو الخوف من أن يجدوا أنفسهم منبوذين في الوسط الصحافي والاعلامي العربي في اوروبا… وحتى في أوساط قرائهم، هذا إذا افترضنا جدلا أن لهم قاعدة من القراء. ولو كانت تلبيتهم للدعوة الرسمية نابعة عن قناعة وليس المصلحة لما ترددوا للحظة عن الكشف عن وجوههم القميئة. وبإخفائهم لهوياتهم إنما يعترفون بأنهم يسيرون عكس التيار وخارج السرب والإجماع العربي الشعبي.
لا تهمني معرفة اسماء هؤلاء الأربعة، ويكفي أنهم غير قادرين على مواجهة انفسهم أولا، ناهيك عن الناس.. وهم في قرارة أنفسهم يعرفون أنهم باعوا أنفسهم بثمن بخس.. تذاكر سفر وإقامة.. وربما دولارات مصروف جيب وشهرة وإن كانت سلبية. ولو كانت المعرفة والوقوف على الحقيقة، مقصدهم لما ربطوا أنفسهم ببرنامج رسمي وبرفقة المقدم في جيش الاحتلال حسن كعبية، الذي سبق ان نقل عنه تأييده قرار وزير الخارجية السابق العنصري المتطرف، أفيغدور ليبرمان، القاضي بعدم تعيين أي شخص غير يهودي في وزارة الخــارجية لم يؤد الخدمة العسكرية.
خلال وجودهم في دولة الاحتلال زار "الأربعة وهم من مصر وسوريا والعراق" مؤسسة "الكارثة والبطولة"، التي تخلد ذكرى ضحايا النازية والكنيست، وشملت الزيارة لقاءات مع ساسة وصحافيين إسرائيليين من اليمين المتطرف. والمضحك في الأمر، تلك الانطباعات التي عاد بها الأربعة عن زيارتهم.. ومن أقوالهم "المأثورة":
إن الزيارة هيأت لنا فهما عميقا بإسرائيل.
أدركنا البنية الاجتماعية والثقافية والإثنية والدينية لإسرائيل… (فهل زيارة مقر الكنيسة والمحكمة العليا ومتحف ضحايا النازية، أوقفتكم على البنية الاجتماعية والثقافية لاسرائيل؟).
هذا سيمكننا بالطبع من نقل صورة أخرى لإسرائيل إلى قرائنا العرب.. (أي صورة ستنقلون لقرائكم العرب.. إن اسرائــــيل بلد محــــب للسلام خال من الحواجز العسكرية ومن الفلســـطينيين.. فأكيد انكم لم تشاهـــدوا أي فلسطيني هناك.. بالمناسبة هل مررتم بأي من النواب العرب، خلال زيارتكم لمقر الكنيست.. أم انكم تجنبتم اللقاء معهم للابقاء على هوياتكم مجهولة كما انتم صحافيون مجهولون).
وقال أحدهم وهو عراقي مقيم في ألمانيا، أشارت إلى اسمه بـ "ج.م": "لقد مثلت زيارة إسرائيل بالنسبة لي تجربة مثيرة، خاصة أنه من دواعي الأسف أن العالم العربي يستند في موقفه إزاء إسرائيل إلى كراهية عمياء ومواقف مسبقة… (الحقيقة انها بالفعل كراهية عمياء.. ليست نابعة من احتلال وتشريد شعب باكمله وعنصرية وفاشستية وقتل وتدمير).
صحافية شاركت في الزيارة قولها: " اطلاعنا على الأوضاع في إسرائيل خطوة مباركة، من المحظور أن نقع ضحايا المواقف المسبقة، لقد غيرت هذه الزيارة انطباعاتي عن إسرائيل.. (لا بارك الله بك ولا بامثالك وما يواسينا انكم قلائل وتتحركون بالظلام كالخفافيش).
كلام يضحكون فيه على أنفسهم وهم في قرارة انفسهم يدركون جيدا أنه لا يقنع احدا حتى هم ومستضيفوهم.. فهل زودتهم اسرائيل بدلائل وقرائن جعلتهم يكتشفون حقيقة انها ليست دولة الاحتلال، كما يدعي الفلسطينيون والعرب وبقية دول العالم حتى الولايات المتحدة؟ وهل وقفوا على حقيقة أن في الامر التباسا وأن الفلسطينيين هم قوة الاحتلال وهم الإرهابيون الذين يحاولون زعزعة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط.. وهذه تصورات سبقهم اليها "العلامة الإعلامي الكاتب الكويتي عبدالله الهدلق".. فهو القائل "يجب على (الرئيس الفلسطيني)، وقف التحريض على الكراهية، كما يجب عليه إدانة الهجمات التي تستهدف إسرائيليين.. فقد أضحى من حق إسرائيل المشروع الدفاع عن النفس وقتل الإرهابيين (الفلسطينيين!) مهما كانت أعمارهم أطفالاً وشباباً ذكوراً وإناثاً". وتابع القول: "إن مما يُحيِّرُ العقول أن يصمت المجتمع الدولي صمت الأموات عن جرائم (الفلسطينيين!)، وينكر ذلك المجتمع الدولي حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها وعن شعبها ومواطنيها". واختتم "دولة إسرائيل ستبقى قائمة لا يُرهبها إرهاب السكاكين، بينما شتات مخيمات اللاجئين زائل لا محالة، لأنه باطل. أما حقٌّ إسرائيل واضح وجلي رغم تخاذل المجتمع الدولي عن مناصرة إسرائيل في دفاعها عن نفسها وعن شعبها وجنودها.. وهكذا ينتصر الحق الإسرائيلي على الرغم من قلَّةِ مُناصريه ويُهزمُ الباطلُ (الفلسطيني!) على الرغم من كثرة المصفقين له".
إن هؤلاء وأمثالهم وهم قلائل كمن يناطح منطق وحركة التاريخ.. انهم يحاولون التطبيع مع دولة احتلالية عنصرية فاشية محاصرة مهما "تفرعنت الان" وطغت، في وقت تكتسب فيه حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على اسرائيل، زخما جديدا، آخره دعوة اكاديميين يهود الى مقاطعة مؤسسات أكاديمية في المستوطنات. إنهم يلتفون حول اسرائيل بينما الناس تنفض من حولها. وينطبق عليهم المثل الفلسطيني "مثل مصيفة الغور.. رايحة والناس راجعة".. ومنطقة الغور التي تقع فيها مدينة اريحا، هي اخفض منطقة في العالم عن سطح البحر وهي مشتى بامتياز ويتجنبها الناس قدر الإمكان، بل يغادرها المقتدر من ابنائها في فصل الصيف هربا من شمسها الحارقة.
أعرف ان موضوع هؤلاء المارقين على الصحافة العربية ليس بالجديد، ولم أكن أفكر فيه إلا كمدخل للموضوع الذي كنت افكر في كتابته لهذا الاسبوع وهو موضوع عن الشخصيات العالمية التي تقودها اخلاقياتها وقناعاتها المبدأية، ورفضها للظلم والعنصرية والاحتلال لأن تضحي بالوقوف الى جانب فلسطين وشعب فلسطين وتقود حملات لمقاطعة دولة الاحتلال وعزلها.. ولكني امتنعت في اللحظة الاخيرة لانه لا يجوز وليس من الانصاف اخلاقيا الربط بين صاحب الاخلاق والفاقد لها.. لا نامت اعين الجبناء.
ويشار إلى أن الجيش الإسرائيلي أغلق عدداً من المحطات الإذاعية وقنوات التلفزة الفلسطينية، في أرجاء الضفة الغربية، في إطار حملته على ما أسماه "التحريض الفلسطيني". في الوقت ذاته تشن إسرائيل حملة قمع غير مسبوقة ضد الشباب الفلسطيني، الذي يستخدم وسائل الإعلام الجديد. ففي غضون أقل من عام قدمت إسرائيل لوائح اتهام ضد عشرات الفلسطينيين بحجة توظيف مواقع التواصل الاجتماعي في التحريض على إسرائيل، في حين يتم غض الطرف عن اليهود، الذين يقومون بالتحريض على العنف ضد الفلسطينيين.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح