تقول إحدى الفرضيات النافذة في العلوم السياسية إن دولة تعتمد نظاماً اقتصادياً ليبرالياً لا بدّ من أن تكون ديموقراطية على نحو ما. إلا أن الفرضيات/ الموديلات التي أنشأها علم السياسة قد تبقى "صحيحة" في النظرية وغير صحيحة في الواقع، وهو ما تشهد عليه أحوال دول عدة بينها إسرائيل،
حيث يقف على رأس الحكومة الحالية منخرطان تماماً في النيوليبرالية المتوحّشة بينما يهدمان بإدراك تام الآليات الديموقراطية التي قامت عليها السياسة في إسرائيل. ولا يحصل هذا في إطار الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني أو الإسرائيلي- العربي فحسب، بل ضمن سيرورة أوسع تواصل فيها دول ومجتمعات مسيرتها ضمن اقتصاد السوق المفتوحة والتشريع المتسارع، للحدّ من الفاعلية الديموقراطية إلى حدّ تعطيلها (روسيا مثلاً).
فاليمين مندفع نحو الحدّ من فاعلية الآليات الديموقراطية (استقلالية الجهاز القضائي، حريات المجتمع المدني، استقلالية الأكاديميا والإعلام والإبداع الثقافي، حرية الانتظام والتعبير) جزءاً من سعيه إلى الهيمنة. ويستفيد من حيوية الاقتصاد وريعه من الضرائب لتكريس امتيازات المجموعات المحسوبة عليه، لا سيما الفئات المسحوقة من أصول عربية أو سكان المستوطنات الاحتلالية. وهو يُدرك أن العملية السياسية قد لا تضمن له السؤدد والهيمنة، لأن انتقال نحو 200 ألف مصوت من خانته إلى خانة المعسكر الخصم ستُفقده دفة الحُكم. ومن هنا نراه ماضياً في تغيير قواعد اللعبة بحيث يصعّب على المعسكر الخصم فعل ذلك في جولة انتخابات مقبلة.
ومن الأمور التي يراهن عليها اليمين مثلاً، إخراج الفلسطينيين من مواطني إسرائيل خارج اللعبة السياسية تماماً، وكانت قواعد هذه اللعبة إلى سنين خلت تقضي بشدّ هؤلاء إلى اللعبة وتعزيز شرعية إسرائيل ونظامها باعتبار أن جزءاً من الشعب الفلسطيني يُشارك الدولة اليهودية انتخاباتها التسريعية ويزكّي نظامها. والآن، يبدو أن اليمين يُريد أن يستبعد الفلسطينيين من اللعبة بوصفهم إحدى الكُتل الانتخابية التي تصوّت عادة ضد اليمين وعكس اتجاهاته.
تنتقل إسرائيل اليوم بخطى واثقة إلى ما يُسمى اليوم في العلوم السياسية نظام "الأوتوقراطية الرأسمالية"، وهو نظام ما بعد ديموقراطي يقول علماء السياسة إنه أحد إفرازات العولمة ومفاعيلها، فهو يقبل حُكم العولمة في ما يتصل بانحسار أنظمة الحماية الوطنية إلى الحدّ الأدنى مقابل السوق العالمية وقواها المندفعة. وفي المقابل، يُبادر إلى تشريعات مناهضة للديموقراطية وآلياتها، خصوصاً في ما يتعلّق بنقد اقتصاد السوق وفرض قيود عليه وإخضاع الحكومة لمساءلات واستجوابات لكبح انحيازها للرأسمال الذي عادة ما يتركّز في أيدي قلة قليلة، ما يجعل عائلات في إسرائيل تسيطر على نحو 80 بالمئة من العملية الاقتصادية.
السيرورة ذاتها تحصل في تركيا تحت قيادة أردوغان وفي روسيا تحت قيادة بوتين، وكلاهما ينقضّ على الإعلام المعارض أو منظمات المجتمع المدني ويوجّه التعبئة نحو أعداء مُفترضين.
إن إخضاع سوق العمل في العالم لمرونة هدفها تحكم المنتجين في الأجور، وإخضاع خطوط الإنتاج لسيولة وحركة تنقّل بين الدول تبعاً لرخص الأيدي العاملة، يقودان في نهاية المطاف إلى إخضاع "اللعبة الديموقراطية" ذاتها للقانون ذاته، فالديموقراطية مُكلفة تماماً وتستدعي التمويل وتوزيع الخير العام على نحو عادل. وهي في شقها الثاني كمنظومات كبح ورقابة على الحكومات، قد "تُعرقل" أو تؤخّر عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية. وهذا تحديداً يُعيق، من وجهة نظر الأنظمة الأوتوقراطية الرأسمالية، انخراطها أكثر في السوق العالمية حيث المنافسة هائلة على الأرباح.
وفي إسرائيل الآن، نقاش حاد حول ريع الغاز الطبيعي الذي تم اكتشافه قُبالة الساحل الإسرائيلي. وقد لوت الحكومة عُنق الديموقراطية لتمنح امتيازات خاصة لشركات أميركية وغيرها لاستخراج الغاز والتصرّف به كأنه لها، من خلال تحويلها احتكاراً لعقود. وهو مثال واضح على ما ذهبنا إليه، فإسرائيل تتغيّر كدولة ونظام أمام أعيننا، ولا شك في أن لذلك إسقاطاته على الصراع التاريخي مع المُحيط العربي، لا سيما مع الفلسطينيين. وهو تطور لا يصبّ الآن في صالح القضية الفلسطينية. فالأولوية معطاة للعمليات الاقتصادية التي يُراد لها أن تبتلع القضية الفلسطينية وتشطبها من جدول أعمال المجتمع الإسرائيلي الذي انتقل من إثنوقراطية النظام (يهوديته) وحصرها في يمينية صقرية تستهدف التضييق على كل مَن يُعارضها ومنعه من الفوز في أي انتخابات مستقبلية.