الولايات المتحدة الأمريكية ليست "ولايات"!

بقلم: عماد شقور

لا تذكر المراجع المتوفرة لدي، اسم ذلك المترجم العربي، او ربما الاجنبي، الذي طبع تسمية "الولايات المتحدة الأمريكية" للتعريف بتلك "الامبراطورية" الكبيرة. واذا كان التسليم بكلمتي "المتحدة" و"الأمريكية" امرا مفهوما ومفروغا منه، باعتبارهما تدلان على حقيقتين ثابتتين، حيث تشير اولاهما إلى طبيعة العلاقة بين مكونات ذلك الجسم السياسي بانها "متحدة"، وتشير ثانيتهما إلى موقع جغرافي في قارة أمريكا الشمالية؛ فان التسليم باعتبار مكونات تلك "الامبراطورية" مجرد "ولايات"، هو خطأ، لأنه منافٍ للواقع؛ ولكنه يصبح خطأً كبيراً، إذا تمعّنا في ما يتضمنه من ايحاء بان صاحبة ذلك الاسم هي مجرد دولة عادية فقط، مع يلحق بذلك من احتمالات كبيرة للوقوع في وهم التعامل معها بتلك الصفة. ويكفي للدلالة على الوقوع في ذلك الوهم، ملاحظة "احتفال" الإعلام الفلسطيني، والعربي عموما، في كل مرة يتم فيها "سحق" اسرائيل في الجمعية العامة للامم المتحدة، باحراز فلسطين اكثر من مئة صوت في الامم المتحدة، في حين ان المعترضين "مجرد" بضع "دول" منها مقرونيزيا مثلا، التي يبلغ عدد سكانها بضعة آلاف فقط، ومنها "دولة الولايات المتحدة الأمريكية"، متناسين ان تلك "الولايات" ليست مجرد ولايات، وانما هي دول تفوق اهمية كل واحدة منها على انفراد، في الغالب الأعم، وبكل المقاييس، اهمية العديد من "الدول" الاعضاء في جامعة الدول العربية، حتى لا نتحدث عن "دول" في افريقيا وآسيا وغيرها.
"الولايات المتحدة الأمريكية" ليست دولة؛ انها خمسون دولة، ومتحدة ايضا. ويجدر بنا التعامل معها على انها "الدول المتحدة الأمريكية"، وانها تملك اكبر الاقتصاديات في العالم، وان واحدة من تلك الولايات/الدول، هي كلفورنيا، تحتل، منفردة، ما بين المرتبة السابعة والمرتبة العاشرة في سُلّم الاقتصاديات الاكبر عالميا، على مدى سنوات العقد الاخير.
مناسبة هذا الكلام الآن، ودافعي لطرحه، هو ما نشهده هذه الايام من تعامل وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، باهتمام قليل للغاية، بمعارك الانتخابات في تلك الدول/الولايات، لاختيار الحزبين: الديمقراطي والجمهوري، كل لمرشحه لخوض الانتخابات النهائية لرئاسة "الولايات/الدول المتحدة الأمريكية" لاربع سنين، وليشكل الفائز من بينهما، ليس "حكومة" او "مجلس وزراء"، على غرار الغالبية العظمى من دول العالم، وانما ليشكل "ادارة" يحكم بها تلك الامبراطورية، يسمى كل واحد من افراد تلك الادارة، "سكرتيرا" للرئيس للشؤون الخارجية او الامن او المالية او ما عداها من المهمات. حيث نظام الحكم هناك، بلغة العلوم السياسية، هو "نظام جمهورية الرئيس"، بما يعنيه ذلك ويوحي اليه، من ان من يفُز بالرئاسة هو عبارة عن نوع ما من "دكتاتور" لاربع سنوات، يمكن ان تتكرر مرة واحدة فقط؛ ولم يشذ عن تلك القاعدة إلا رئيس واحد فقط، هو الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي تم انتخابه وتنصيبه اربع دورات متتالية، وذلك لاسباب وظروف لا علاقة لها في ما نحن بصدده.
هذه "الدول المتحدة"، ليست قوة سياسية وعسكرية واقتصادية وعلمية وجغرافية عادية. انها الاولى في عالم اليوم بمقاييس كثيرة، وتدعم قدراتها العسكرية قدراتها الاقتصادية، وتتبادل كافة عناصر قوتها الدعم والتكامل، بتنسيق يشرف عليه الرئيس المنتخب، وتزوده، مع طواقم ادارته، مراكز ابحاث هائلة العدد، وهائلة الامكانيات، بالبدائل والخيارات، وترسم للرئيس وطاقمه، صورة وخريطة كاملة الوضوح، للاهداف واساليب وطرق تحقيقها.
يقول اساطين السياسة في العالم، ان واحدة من ميزات السياسة الأمريكية الأهم، هي قدرتها على تغيير مواقفها وفقا للظروف المتغيرة. وان هذه الميزة بالذات، لا تعتبر هناك عيبا اونقيصة، بل العكس من ذلك تماما، حيث يُنظر اليها على انها علامة ثقة اكيدة بالنفس وبالطريق، فلا ثابت في السياسات الأمريكية إلا المصالح. ويحرص كل رئيس أمريكي على ان يخلّد اسمه ودوره من خلال ابتكار ما يسمونه هناك "عقيدة الرئيس"، المختلفة عن عقيدة، او مجمل مبادئ، من سبقوه في المنصب، بل وتختلف في احيان كثيرة عن قواعد سياسية اساسية يكون ذلك الرئيس نفسه قد اعتمدها واعلنها بوضوح من قبل. ولا تنقصنا الادلة لاثبات هذه الحقيقة.
نظرة سريعة إلى المواقف الأمريكية من الرئيس السوري بشار الاسد ونظامه، مثلا، خلال السنوات القليلة الماضية، تظهر ذلك بصورة فاقعة الجلاء: من ضرورة واشتراط تنحّيه، إلى التهديد بضربه في حال استخدامه اسلحة محرمة معينة، إلى التراجع عن ذلك، واعلان عكسه. ومن هذا إلى مواضيع اكبر واشمل واعم، مثل نقل التركيز في السياسة الأمريكية من هذه المنطقة في العالم إلى تلك، مع كل ما يترتب على ذلك من التنصل من التزامات كانت تبدو راسخة تماما، وفك تحالفات قائمة، والسعي إلى بناء تحالفات جديدة مفاجئة، كانت تُصنّف على ان ابرامها مستبعد وقريب من المستحيل.
نصل هنا إلى ما يعنينا ويخصنا بشكل مباشر، حول السؤال الاهم: ماذا عن التحالف الاسرائيلي الأمريكي؟
يجدر بنا بداية التنبه إلى اعتقاد شبه راسخ لدى الغالبية العظمى من الفلسطينيين والعرب، ولكنه، رغم ذلك، خاطئ تماما. فالعلاقات الاسرائيلية الأمريكية، وقبل ذلك العلاقات الصهيونية الأمريكية شهدت في تاريخها مراحل صعود وهبوط متكررة، وهي بالتأكيد قابلة للتحول والتغير مستقبلا، ولا اتحدث هنا عن المستقبل البعيد.
في المراحل الاولى، خلال الحرب العالمية الثانية، لم تكن العلاقات الصهيونية الأمريكية على ما يرام، بل واسوأ من ذلك ايضا. ففي نهايات عهد الرئيس روزفلت، وبفضل ملاحظة من الملك عبد العزيز، جرى التفكير بالدفع نحو اعادة المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين إلى اوروبا. وعند اعلان ديفيد بن غوريون اقامة دولة اسرائيل، تردد الرئيس هاري ترومان في الاعتراف بها، اضافة إلى اقوال منسوبة له عن خطر اليهود على أمريكا. لحق بذلك الانذار الشديد الذي وجهه الرئيس دوايت ايزنهاور إلى بن غوريون واجبره على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، اثر احتلالهما في العدوان الثلاثي على مصر، دون ان ننسى في هذا السياق، دور الانذار السوفييتي لاسرائيل، حول نفس الموضوع. ويضاف إلى كل هؤلاء الرئيس جون كيندي، ورسائله المتبادلة مع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي ضمّن احدى رسائله جملته الخالدة: "لقد اعطى من لا يملك إلى من لا يستحق". لكن، بعد ان تيقنت أمريكا من صلابة عود اسرائيل، بفضل الدعم السياسي البريطاني، الذي وصل حد بناء احلاف من دول المنطقة لحماية اسرائيل؛ والدعم العسكري الفرنسي، الذي بلغ حد المبادرة إلى اقامة المفاعل الذري في ديمونا؛ والدعم المالي الالماني، الذي مكن اسرائيل من وضع اساس متين لاقتصاد قوي؛ بدأ دورها في دعم اسرائيل وتبنيها، في عهد الرئيس ليندون جونسون، ووصل حد تمكينها من شن حرب حزيران، وتحويلها من دولة صغيرة مهدّدة، إلى "امبراطورية" تحتل اراضي غيرها، اضافة إلى احتلال الوطن الفلسطيني كاملا.
ما نشهده هذه الايام، من تبدل في المزاج الشعبي الأمريكي، (والرسمي إلى حد ما)، بدءاً من الجامعات وجيل الشباب في أمريكا، تجاه اسرائيل والحركة الصهيونية واذرعها الاخطبوطية، يشير إلى امكانية حدوث تغيير في الدعم الهائل الأمريكي لاسرائيل، على كل الاصعدة. وقد يكون المؤشر الاوضح على ذلك، ما قاله ويقوله باري ساندرس، (المرشح اليهودي الاول) المنافس الاقوى لهيلاري كلينتون، للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي له في الانتخابات الشاملة في "الدول المتحدة الأمريكية"، في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
ليس كل ما في السياسة الأمريكية جيدا. بل ان في تلك السياسة عيوبا لا تحصى. إلا ان سياسة فلسطينية عاقلة وجدية ومثابرة، قادرة ان توسع الشرخ الذى بدأ يظهر جلياً في العلاقات الاسرائيلية الأمريكية، سعيا إلى فك هذا التحالف الشرير، الذي عانينا وما زلنا نعاني منه.

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور