أعترف أولا أن موت أطفال ثلاثة من عائلة واحدة بسبب حريق تسببت به شمعة فاجعة لا تعادلها أخرى. على مثل هذه المصيبة يجوز البكاء والحزن وإعلان الحداد. يجوز للوطن كله أن يمشي في جنازتهم ويودعهم بالدموع "وليس لعينٍ لم يفضْ ماؤها عذرُ".
من المتوقع أن يموت أطفال غزة بالقنابل العنقودية والفسفورية وبزخات الرصاص والصواريخ الذكية المقدمة هدايا من الكونغرس الأمريكي. ومن المتوقع كذلك أن يموتوا بقذائف المدفعية الثقيلة أو بقذيفة يطلقها زورق من البحر، أو برصاص جندي قريب من أبراج المراقبة قرب السور الإلكتروني. كل هذا متوقع. حدث في الماضي ويحدث اليوم وسيحدث غدا وقد تعود أبناء القطاع عليه. وكم مرة دفنوا باقة من الأطفال مرة واحدة. لقد أصبح الناس في غزة يؤرخون الأيام بمذابح أطفال عائلات الدرة وغالية وزيتون وأبو جزر وسمهدانة وبكر وأبو جامع ونبيل صيام وأبو جراد والبطش. أما عائلة أبوهندي فسوف تدخل صفحات التاريخ بأنها العائلة التي فقدت ثلاثة أطفال مرة واحدة بسبب الشموع المضاءة، نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، بسبب الحصار الظالم الناتج عن تواطؤ عربي ودولي مع الكيان القاهر.
قلت لأبي مهند والد الأطفال الثلاثة، لا أريد أن أنكأ الجراح أكثر وأتفهم تماما لو لم ترد أن تحكي لي القصة الكاملة. لكنني أعيش قلقا وأحس بجبال تطبق على صدري. لا أكاد أصدق أن يحرق ثلاثة أطفال مرة واحدة بسبب شمعة. أريد يا أبا مهند أن أنشر قصتهم لعلها تصل مسامع العالم برمته. ليس لأن العالم سيتغير، بل لأن هناك الملايين الذين لديهم أطفال في عمر أولادك وسيشعرون بالوجع مثلك يا محمد. وإذا توزعت الأحزان على أمة سهل حملها. أريد أن أوزع أحزانك عبر هذا الكون. أريدك أن ترويها أو تروي منها ما تريد. أشعر بالعجز والانكسار أمام هذه المصيبة. إبكِ على راحتك كما تريد ودعني أشاركك بدمعة أو دمعتين، رغم المسافات التي تباعدنا والحواجز التي تلتف حول عنق غزة والصواريخ المصوبة نحو كل بيت ومدرسة ومستشفى وشارع. ومرة ثانية أقسم لك يا أبا يسرى ورهف وناصر، أن "هذه المصيبة لا يرقى الحداد لها لا كربلاء رأت هذا ولا النجفُ".
محمد أبو هندي يتكلم
أنا أصلا من طبريا. رمت بعائلتنا أقدار اللجوء بعد احتلال الغرباء أرضنا وبيوتنا إلى مخيم الشاطئ غرب غزة. أنا من الجيل الثالث من اللاجئين وأولادي يمثلون الجيل الرابع. عندي خمسة أطفال. مهند (7) وعلي (5) ويسرى (3) ورهف (2) وأصغرهم الرضيع ناصر إبن التسعة شهور. نسكن في قبو صغير مكون من غرفة واحدة يليها نحو الباب مكان صغير نضع فيه كنبة. يتكوم الأطفال الخمسة على فراش مصفوف أرضا مكون من الاسفنج. والقبو ليس فيه مخرج آخر أو شباك. أجرته 500 شيقل شهريا ولا يبقى من راتبي إلا 200 شيقل لشهر كامل. الشقة العادية لا تقل عن 1200 شيقل فكيف لي أن أستأجر شقة أوسع؟
يوم الجمعة (6 مايو) بقي تيار الكهرباء مقطوعا طوال اليوم. قررت أن آخذ الأولاد إلى شاطئ البحر لنهرب من ضيق القبو وحرارته إلى اتساع الشاطئ ونسائمه. نـُصبت هناك بعض المراجيح والألعاب. فسحة البحر لا تكلفنا شيئا. رأيت الفرح في عيونهم وهم يتراكضون ويلعبون والضحكات البريئة تملأ الجو. شعرت أنا وأم مهند بسعادة غامرة. ناصر بقي يلثغ حولنا بأصوات ومقاطع من أصوات نفهم جزءا منها ولا نفهم الآخر. لكن مظاهر الرضى تبدو على وجهه وهو يرى إخوته يتدافعون وينثرون رذاذ الماء على بعضهم. قررنا أن نأخذهم لوجبة عشاء خارج القبو لاستكمال يوم الاستجمام. والعشاء حبات من الفلافل في ساندويش صغير بتكلفة نصف شيقل للساندويش الواحد. في غزة أكثر المطاعم انتشارا هي محلات الفلافل لأسباب لا حاجة لشرحها. عدنا بحدود الساعة الثامنة إلى القبو الصغير المكدس بكل الضروريات التي تحتاجها عائلة من سبعة أفراد. تمدد الأولاد على الفراش يتسامرون ويسترجعون حكاياتهم الصغيرة حول فسحتهم وعشائهم الفاخر. مع اقتراب موعد نومهم.. ذهبت للمشاركة في جلسة عزاء أحد المعارف.. وبعد أقل من ساعة رن هاتفي.. نظرت.. إنه رقم لا أعرفه.. استغربت الأمر.. صوت رجل لا أعرفه يصيح "الدار إنحرقت"… صرخت الدار إنحرقت وخرجت راكضا. لحق بي جمع غفير. وعندما وصلت شاهدت رجال الإطفاء والدفاع المدني. اقتربت أكثر وشاهدت النيران تلتهم البيت وصحت أولادي… أجهش محمد بالبكاء. تقطعت الحروف وتهدج الصوت. لم أعد أفهم الكلمات.. بعد قليل تابع الحديث. منعني رجال الدفاع المدني من الدخول كي لا أرى الجثث المحروقة. صرخت.. بكيت.. جننت. انهارت عزيمتي تماما. سقطت على الأرض. شدني عدد من الرجال. في تلك اللحظة تأكدت أن كل أولادي وأمهم قد ماتوا حرقا. فقدت وعيي وغبت عن الوجود. فتحت عيني وأنا في مستشفى الشفاء. بحثت عنهم. وجدت زوجتي مصابة بحروق طفيفة وابني علي لم يصب بأذى. كانت زوجتي تنادي على ناصر فقد حان وقت إرضاعه. علي هرب من الباب. لحقت به زوجتي تستصرخ الناس. مهند حروقه بليغة نقل إلى مستشفى داخل الخط الأخضر عن طريق الهلال الأحمر. عندها علمت أن يسرى ورهف والرضيع ناصر قد ارتقوا إلى ربهم شهداء دونما ذنب ارتكبوه. فتمزقت روحي عليهم. أعيش حالة غريبة كأنني مخدر لا أقدر على التفكير ولا أصدق أنني فقدت ثلاثة من أبنائي في رمشة عين. وأقول في نفسي لماذا تركتهم؟ لماذا استعنا بالشمع للتملص من عتمة انطفاء الكهرباء؟ عندما يغلبني النوم لحظة يأتون إليّ. كل واحد بطريقته الخاصة.عذوبة صوت رهف وشقاوة يسرى وحركات ناصر البريئة. اللهم يا رب ألهمني الصبر على فراقهم.
إستثمار المأساة
ما يزيد الناس قهرا هو الاستثمار الرخيص للمأساة. أبو مهند يتمنى ألا يستثمر جراحه وأحزانه أحد. "أنا إنسان بسيط غلبان ليس لي أي توجه سياسي وأريد أن يتركني الجميع لأعيش فصول مأساتي". سلطة غزة تلوم سلطة رام الله وتعد جنازة عسكرية للأطفال، تحمل نعوشهم عناصر من كتائب القسام، بدل أن يحمل جنائزهم الصغيرة أطفال أبرياء من ضحايا الحروب والحصار. وسلطة رام الله تضع اللوم كليا على سلطة حماس في غزة، ويتصل عباس بالعائلة ليساندها ويأمر بترميم البيت، الذي هو أصلا ليس لهم. يتهم إسماعيل هنية حكومة الحمد الله بأنها متواطئة مع الحصار لتركيع حماس، حيث فرضت ضريبة لم أسمع بها من قبل اسمها ضريبة البلو. كما رفضت سلطة رام الله التوسط مع الفرقاء المعنيين للتخفيف من حالة الحصار، ليس من أجل عيون حماس، بل من أجل مليوني إنسان يعيشون حالة من الحصار الخانق حتى قبل أن تصل حماس إلى السلطة. أما حكومة رام الله فتتهم الإنقلابيين في غزة بالمسؤولية عن كل مصائب الناس هناك، فهي تستحوذ على الكهرباء لقياداتها مجانا، وتزيد من أعباء المواطنين بفرض ضرائب إضافية. "يظنون أن السلطة ستكافئهم على ما ارتكبوا؟ أم أن إسرائيل لسواد عيونهم ستقدم لهم ما يحتاجون من خدمات. وحتى مصر من مصلحتها تعميق أزمة حماس"، قال لي أحد المتعاطفين مع السلطة في غزة. يعادون السلطة ومصر والأردن وإسرائيل ويتوقعون المكافأة. هذه سذاجة أدت إلى أوضاع معيشية لا تطاق، ولو سمح للناس هنا أن يعبروا عن آرائهم بحرية لتمنوا أن تختفي سلطة حماس من على وجه الأرض التي لم تجلب لقطاع غزة إلا المصائب.
وفي مكالمة مع أحد انصار حماس قال، إن الفضل في بقاء القضية حية يعود لهؤلاء القابضين على الجمر. أليست أوسلو وتوابعها من وضع الشعب الفلسطيني في هذا المأزق التاريخي؟ ماذا جلب لنا أصحاب المفاوضات العبثية إلا المصائب والتفريط بالثوابت الوطنية؟ أقسم لك إننا لو نتخلى عن المقاومة لرفع نتنياهو راياته على قبة الصخرة.
قلت في نفسي كلا الطرفين يحسن تعداد عيوب الآخر وينسى بل ويتناسى عيوبه. وأفضل ما يقدمانه للشعب الفلسطيني أن يترجلا عن ظهر الشعب الفلسطيني ويتركا الأمور للجيل الجديد لابتكار وسائل جديدة للمقاومة بالطرق المناسبة التي يتقنها.
غزة وحالة اليأس الشاملة
في لقاء مؤخرا مع المفوض العام لوكالة الأونروا، بيير كريهنبول، قال إن هناك ظواهر اجتماعية سلبية ظهرت في غزة مؤخرا بسبب حالة الحصار وانسداد أفق الأمل وتكريس اليأس، من بينها ارتفاع حالات الانتحار. وقد أكد لي صديق هذه الحقيقة حيث سرد لي عددا من الحالات كان آخرها يوم الاثنين الماضي عندما حاول شخص أن يحرق نفسه وأصيب بجروح بليغة وهو الآن في المستشفى. وقبل أسبوعين قام شخص آخر بحرق نفسه وبالفعل توفي وقام آخر برمي نفسه من بناية عالية.
لقد ارتفعت حالات الاكتئاب الجماعي في القطاع، لدرجة أن بعض المواطنين يصعب عليهم التكيف مع حالات اليأس الشامل التي يعيشونها فيفضلون الموت على الاستمرار في أوضاعهم المزرية. وقالت مصادر الشرطة في غزة إن تقارير تصلها عن محاولتين إلى ثلاث محاولات انتحار يوميا في غزة. وقد سارعت السلطة أيضا لتحميل حماس مسؤولية تفاقم حالات اليأس، بعد أن جلبت إلى المواطنين كل أسباب الفشل وانسداد قنوات الأمل. لكن الحقيقة أن حالة الانقسام العميقة أصابت الشعب الفلسطيني بكامله بحالة من اليأس وانكسار الحلم والاستسلام للهزيمة الداخلية، خاصة في قطاع غزة الذي، فوق هذا وذاك، يعاني من حالة حصار غير مسبوقة تشترك في تنفيذها أطراف عربية مع إسرائيل، حيث ترتفع البطالة وتنهار البنى التحتية وتقطع الكهربا بمعدل 18 ساعة في اليوم. أضف إلى هذا برامج الردح اليومية والمناكفات السياسية وسيطرة الأجهزة الأمنية على المشهد وفرض الهيمنة الفصائلية على الناس بالقوة.
وفي ظل هذا المشهد المأساوي فقد نشهد تفاقما في ظاهرة الانتحار والهروب غير الآمن عبر الحدود لموت شبه محقق وربما تتكرر مشاهد الجنازات التي تشيع أطفالا يحرقون بالشموع. كل ما نتمناه أن يتحول استشهاد ناصر ورهف ويسرى إلى صفارة إنذار تنبه السلطتين إلى حقيقة أن الشعب بغالبيته فقد ثقته فيهما، وأن أفضل ما يعملانه أن يتركا هذا الشعب العنيد ليتدبر أموره بعيدا عن إملاءات الفصائل الفاشلة. عندها سيشعر أبو مهند بأن استشهاد أولاده الثلاثة لم يذهب هدرا.
د. عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز