التفكير العربي والأبواب الموصدة

بقلم: عدنان الصباح

لا يجوز لي البدء بالبحث في العنوان قبل الإشارة إلى أنني تجنبت عامدا أن يكون العنوان على نحو الفكر العربي أو الفلسفة العربية لسببين اثنين الأول أن كلمة فلسفة هي تعريب حرفي للكلمة اليونانية philosophia كما يتضح جيدا من اللفظ والثاني أن الفكر له أصوله وقواعده كم هو الحال بالنسبة للفلسفة فلا وجود حتى اليوم لمعجم تاريخي للفظ العربي وهو ما يشير إلى غياب العلاقة الجدلية القائمة بين الفلسفة واللغة وهي أي اللغة أساس الفلسفة فلا يمكن القول إن الفلسفة سبقت اللغة وهذا ينطبق أيضا على الفكر بل يمكن قول ذلك عن التفكير الذي هو الأساس الذي جاء باللغة أصلا وهو معنى جنيني بدائي بمعنى أن الحاجة هنا هي من ولدت الكلام والتفكير البدائي بالحاجة الملحة للتواصل وتلبية الاحتياجات البيولوجية هي التي قادت الإنسان لاختراع اللغة وتطويرها بمقدار تطوره.

هذا ينسحب أيضا على الفكر فالفكر في حالة تجنيسه لصالح لغة ما فانه يصبح بحاجة إلى قاموس خاص به فلا يجوز مثلا القول أن هناك فكر سياسي لشعب ما أو قومية ما إذا لم يكن لديها قاموس سياسي و/أو فكري اجتماعي, فإذا لم يكن لديها مثل هذا القاموس, والقاموس هنا أكان قاموس تاريخي للفظ أو للمفردات أو للتعابير هو تعبير فلسفي يشبه إلى حد بعيد المكتشفات العلمية التي جعل منها اكتشافها وفحصها عبر القرون مسلمات لم يعد احد يبحث بسلامتها أو عدمه والأمة التي لا تملك مثل هذه المعاجم تظل فلسفتها أو فكرها في طور التجريب والمحاولة ويبقى مراوحا لمكانه فهو من جانب غير قادر على الانتقال إلى العالمية وبنفس الوقت اعجز من أن يواجه الفلسفة والفكر الغريبين الذين يهاجمانه في كل ناحية اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا, وهو بالتالي يتحول إلى متلقي رغما عن انفه وان حاول تصوير نفسه كمتخندق في مواقع وهمية لا ساتر لها أمام النيران الغريبة سوى ستائر الوهم الذاتي أو انعدام الاستعداد للاعتراف بأسبقية فكر الآخرين وفلسفتهم وهو ما يبدو جليا بأسبقيتهم في سائر النواحي العملية وعلى كافة الأصعدة بما فيها السيطرة المباشرة على الأرض ومقدراتها وأدواتها لدى هذا المتمترس خلف الوهم الذي لا يحمل من صورة القومي سوى الاسم.

لعل المثالين الابهى على ما تقدم هو عدم قدرة العرب على ايجاد صيغة ما للاعتراف بالمكونات القومية حسب التاريخ للعديد من مكونات الامة التي تعيش في الوطن العربي لا دينيا ولا مذهبيا ولا قوميا حتى فلا مجال اليوم للقول ان الامازيغ في الجزائر والمغرب عرب كما لم يكن من الممكن القول ان جنوب السودان عربي ولذا الت الامور هناك الى ما الت اليه من انفصال كلي للجنوب عن الشمال او للعربي عن غير العربي وهذا ينسحب ايضا على العراق وغيرها وقد يكون هذا الضعف هو الذي شجع الادارة الامريكية والقوى الامبريالية على استخدامه لتمزيق الوطن العربي وليقل بريجينسكي مستشار الامن القومي الامريكي في سبعينات القرن العشرين في كتابه بين جيلين " ان سكان مصر ومناطق شرق البحر المتوسط غير عرب. اما سورية ففيها عرب.. وعليها ان تخضع لشرق اوسط ممزق مكون من جماعات عرقية ودينية على اساس مبدأ الدولة وهذه الدولة يجب ان تتحول الى كانتونات طائفية وعرقية يجمعها اطار اقليمي كونفدرالي" المثال الثاني وهو الذي يبرز اهمية القاموس التاريخي للألفاظ او حتى قاموس المصطلحات ففي الخطاب الفلسطيني لا تجد تسمية موحدة لوصف الفلسطينيين الذين يخضعون لسلطة الاحتلال الاسرائيلي منذ العام 1948 فهناك عديد التسميات مثل " عرب عام 48 وعرب الداخل وفلسطينيي الداخل وعرب اسرائيل وفلسطيني خلف الخط الاخضر وهكذا وافضلهم من يتحايل على الالفاظ ليقول فلسطينيي الجليل والمثلث والنقب وهذا يقسم البلد الى اجزاء واجزاء لكن في المحصلة لا كلمة موحدة في نفس الوقت الذي لا تخطيء فيه وسائل الاعلام العبرية او في كل الخطاب العبري بتسمية الفلسطينيين بالسكان وعدم ذكر كلمة مواطنين على الاطلاق وما لذلك من دلائل واهداف وهم يكررون ذلك وغيرها من الكلمات والمصطلحات حتى يكاد الفلسطينيين يقعون في ورطة استخدامه احيانا رغم الفارق الكبير بين قدرات اللغة العربية واللغة العبرية وبالتالي فأي حديث عن الفكر العربي او الفلسفة العربية يبقى حديثا أعرج ما لم تنجز مهمة توحيد المصطلحات وتحقيق المفردات اللغوية للعربية بمجملها.

المعجم التاريخي للمفردات في اللغة العربية لا زال يراوح مكانه حتى يومنا هذا ولا زالت اللغة العربية حتى اليوم دون معجم رغم أن المحاولات والدعوات والندوات مر عليها عشرات السنين دون أن يتمكن العرب من تحقيق مثل هذا الإنجاز الذي يعتبر الأساس للفكر الفلسفي لأية امة من الأمم فمعجم المفردات التاريخي مهمة من الضرورة انجازها لأهداف عديدة تبدأ من القدرة العملية والعلمية على لفهم التراث العربي وتهذيبه لوضعه في مكانته الصحيحة كأداة ضرورية لتجديد المعرفة وتطويرها وتحديد سبل المشاركة في الفعل الإنساني والياتها, ذلك أن انجاز ذلك ينبغي له أن يسبق قراءة التراث وإدراك مقوماته وفهم مفاتيحه بشكل فوضوي غائب عن المنهجية العلمية, صحيح أن هناك مبادرات لوجود مثل هذا المعجم لكنها لا زالت قاصرة عن أن تكون هي المعجم العلمي المحكم الذي نحتاجه كتجربة فيشر – مصر وتجربة الجمعية المعجمية العربية – تونس وتجربة معهد الدراسات المصطلحية – المغرب إلا أنها جميعا لم ترقى مثلا إلى معجم أكسفورد للغة الانجليزية لوليام ليتل أو المعجم التاريخي للغة الفرنسية وحتى الآن لا زال الباحثين العرب حائرين أصلا بين استخدام كلمة تأثيل المنحوتة ترجمة من كلمة اتيمولوجيا والمنحدرة من الكلمة اليونانية logos Etymos أو تأصيل ككلمة عربية وحيدة لا يمكن لها سد الفجوة لان مهمة المعجم لا تقف عند حد الأصول بل تتعدى ذلك إلى دراسة منهج تطور الكلمات والمعاني واستخداماتها عبر المراحل المختلفة والتأصيل هنا هو جزء من العملية وقد يكون الأصح استخدام التحقيق أو التحكيم أو حقيقة المفردات حتى يجوز لنا الانطلاق في المهمة وما دمنا لم نتفق على التسمية بعد, أو انه لا زلنا متوقفين عند سد أية فجوة في لغتنا بأن نلجأ إلى تعريب ما هو قائم لدى الغير فان مهمتنا من جذرها تصبح مهمة غير واقعية ومستحيلة الانجاز وبذا تظل محاولاتنا للقول بأن لدينا فكر أو فلسفة هي محاولات ناقصة لأنها تأتي دائما بلكنة غريبة وعرجاء لا علاقة لنا بها.

الفلسفة أداة تفكير ضرورية ليس لقراءة ما هو قائم أو حاصل أو موجود فقط بل للبحث في مسبباته وتصور التغير الضروري لإيجاد مسببات أفضل لمكون أفضل يصبح واقعا أفضل وإلا فان الفلسفة تصبح سفسطة وإيغال في التأمل اللغوي لا أكثر بما يصل إلى مرحلة تكريس القائم ولذا فان للفلسفة أعمدة وجود بدونها تستحيل الفلسفة كفكر ضروري لاستحضار الأفضل عبر فحص الواقع وهذه الأعمدة هي:
أولا: النقد

ينبغي للفكر الفلسفي أن يكون فكر نقدي غير مسلم بالبديهيات الغير مفحوصة بالمطلق أو الغير مسلم بها عبر التاريخ وعبر تأكيدها المطلق فمثلا لا فائدة من نقد حركة الرياح إذا كان علماء الفلك والجيولوجيا والمناخ قد قدموا أبحاث علمية مخبريه انتهت بهم إلى ما انتهوا عليه لكن الإقرار المسبق لبعض علماء الكلام إن جاز التعبير أو بعض الفقهاء بتشريعات من صنعهم أو من مصالحهم أو مصالح السلطة التي يخدمونها يعتبر إلغاء مطلق للدور المنوط بالمفكر أو الفيلسوف الذي من المفترض فيه أن يحمل راية النقد لما يقرأ كفعل ليؤسس لفعل أفضل بغض النظر عم قال بصحة الفعل القائم ففعل الفلسفة هو فعل إبراز العيوب وتقديمها للمعني أيا كانت مكانته بدءا من الطفل وانتهاء بالأب أكان ذلك في الأسرة الصغيرة أو الدولة أو المجتمع الإنساني برمته ولهذا ظلت الفلسفة ولا زالت على صراع مع الفقهاء والذين يقومون بدور تكريس الفعل الواقع دون النظر في محتوياته أو صحتها أو نقاءها أو صلاحيتها اليوم كما كانت عليه بالأمس والثبات الدائم لدى الفقهاء يغلفونه عادة بغلاف ديني لكي يغلقوا على الفلسفة دورها فيضعونها في خانة الكفر لتقييدها ومنعها من صياغة ما هو مختلف عنهم والحال عن العرب هي حال سيطرة الفقهاء المتسلحين بعصا الدين زورا على فعل التفكير باعتباره حق مطلق لهم يصوغونه هم كما يشاءون.

ثانيا: معارض

لا يجوز للفلسفة ولا لأصحابها أن يكونوا موالين للسلطة أو لما هو سائد ومقبول وإلا تنتفي عنهم وظيفتهم في اخذ الأفعال والظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى المختبر لتشريحها في ضوء العقل وحركة التاريخ واستشراف المستقبل عبر تحليل الظواهر وتجلياتها والأفعال ومستنداتها في ضوء العلم بكل مكوناته للتوصل إلى فرز القمح عن الزوان والتأسيس لرؤيا أفضل للفعل نفسه أو للظاهرة نفسها دون نفي الصحيح بل بتطويره والتخلص من الخاطئ والمعيق وإيجاد السبل الكفيلة بالوصول إلى الواضح والضروري والصحيح.

ثالثا: محايد

لا يجوز للفلسفة أن تمتلك مواقف مسبقة وإلا فان مهمتها تنتهي قبل أن تبدأ فالانحياز لصالح قراءة مسبقة ما تحصر مهمة الفلسفة فقط في الدفاع لصالح ما هو مقروء لا في نقده وبذا تغيب كليا المهمة الحقيقة للفلسفة بقراءة الظواهر بروح نقدية لصالح تقويمها أو تطويرها فالظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دائمة التحرك وهي ليست مسلمات طبيعية لا يجدي البحث فيها من قبل الفلسفة بل من قبل علومها لقراءتها والتأثير بمخرجاتها فنحن لا نقرأ ظاهرة المطر مثلا لإلغائها بل لتحديد سبل رفع القيمة المتوخاة منها كفائدة للإنسان لأقصى درجة ممكنة فعلى الفلسفة إذن أن تكون محايدة مع أن ذلك ليس بالضرورة ملزما لصاحبها وهذا يشبه دور العالم في مختبره فلا يجوز أن تدخل معه إلى غرفة المختبر أمنياته وهو يبحث عن فيروس ما مثلا ويتمنى أن يكون مفيدا ويسعى لان يجعله كذلك فسيصبح دوره مدمرا لا عالما وهذا أيضا ينطبق على الفيلسوف الذي يحرك فكره بالاتجاهات التي ينحاز لها ويتخطى بالضرورة ما يعارضها أو ينفيها فقط بناء على رغباته ومصالحه أو مصالح الطبقة أو الفئة التي ينتمي إليها أو يخدمها كالسلطة في معظم الأحيان.

رابعا: شمولي

الشمولية صفة الفلسفة الوحيدة كونها علم العلوم فلا يجوز النظر الى الظواهر بمعزل عن ما يحيط بها من كافة الجوانب والفيلسوف ينبغي له ان يلم بسائر العلوم وان يملك القدرة على ايجاد الرابط الجدلي بين سائر العلوم علاقتها بالظاهرة المفحوصة واليات تحويلها الى ظاهرة اكثر مرونة وقدرة على تجاوز العقبات التي تقف في وجهها وبعكس سائر العلوم البحة الاخرى التي يمكنها العمل داخل المختبر المغلق او عبر التركيز الفاحص للظاهرة العلمية اياك انتب بعيدا بشكل نسبي عن غيرها من الظواهر والعلوم او ليس بالضرورة كل الظواهر والعلوم فان مختبر الفلسفة ينبغي له ان يكون الهواء الطلق, خارج الجدران ومحدداتها.

خامسا: واقعي

والواقعية هنا تعني القبول بالنتيجة وهي تعتمد على المعارضة والحياد اصلا فلا يجوز اخضاع العلم للرغبات كما لا يجوز اخضاع الفلسفة للأمنيات فالواقع ومجالاته وامكانياته وقدرته على تحمل التغيير المطلوب هو اساس عمل الفلسفة اما الطوباوية او الما بعدية فإنها لا تقل خرافة عن فلسفة الما ورائية التخيلية التي لا علاقة لها بالواقع ولا بمنطق الاشياء وامكانياتها وقراتها اكانت هذه الاشياء مادية ملموسة بالمس المباشر او ظواهر اجتماعية ملموسة بالتأثير والتفاعل.

سادسا: مخبري

ما بين فلسفة المشاءين التي أسسها أرسطو وهي فلسفة قراءة الواقع كما هو وفلسفة الاشراقيين التي أسسها أفلاطون وهي فلسفة اللجوء إلى البديهيات وإسقاطها على الواقع أو فلسفة الأحلام والرغبات المقيدة بالمسلمات والبديهيات دون إعادة إمعان النظر بتجلياتها حتى إذا سلمنا انه لا يجوز النظر في ذاتها حتى مع تطور وتوع مدارس الفلسفة الحديثة والقديمة وصولا إلى ما بعد الحداثة, كل ذلك يصب في خانة تقييد الفلسفة أو نكرانها لغيرها فاللاهوت والفقه فلسفة والماركسية والمادية الجدلية فلسفة وما بعد الحداثة أيضا لكن فلسفات نفي الآخر واعتبار قراءتها للواقع هو الوحيد هي فلسفات شمولية وان كان يجوز إعطاء الفلسفة كأداة بحث صفة شمولية البحث عن الحقيقة لا شمولية إدراك الحقيقة.
هناك صفة مشتركة بين فلسفة اللاهوت والفقه الإسلامي وكل نماذج الفكر الديني لدى سائر الأديان التي لا تترك للعقل البشري حق الانطلاق بلا حدود وان حاول فإنها تشرع في وجهه سيف التكفير فورا لردعه عن المواصلة والفلسفات الأخرى التي تطيح بكل مقدس وتملك نفسها نفس السيف الغبي الذي يطلق على اللاهوتيين والفقهاء من سائر الأديان صفة الظلامية والإرهاب الفكري وغيرهما فلا يجوز لمدرسة إلغاء مدرسة أو إنقاص احترامها لها مع جواز مناقشتها فالأديان والفلسفات جميعها جاءت بالأصل لإسعاد البشرية ومن خلال البحث عن الحقيقة وأيا كانت الحقيقة التي يصل إليها صاحبها فهي مصدر راحته لا يجوز لك إلغائها وتحطيمها بلا ادني تفكير بصاحبها وقناعاته فالجائز مناقشته ومواصلة البحث معه من حيث وصل لا إلغاء كل قناعاته لديك بدونه وبدون الاهتمام بدوره وما جاء به أكان صوابا أم خطا فالعلم بمجملها مخبريه البحث ولا تترك واردة أو شاردة دون إدخالها إلى قوارير المختبر وعادة ما يسجل العلماء فشل سابقيهم كنجاحات فالعالم الذي يخوض تجربة حتى لو كانت فاشلة فهو قد ساعد زميله الذي سيبدأ بعده على تجنب تلك التجربة ويكون قد خطا بطريق العلم خطوة إلى الأمام بتجاوز عتبة فاشلة كان لا بد من المرور بها لفحصها كذا إذن تكون الفلسفة فحتى لو كان السابق توصل لقناعات خاطئة لديك فهو قد قدمها جاهزة لك لتسهيل بحثك والفلسفة غير المخبرية هي فلسفة عرجاء هلامية ليس لها أقدام تقف بها على الأرض.

سابعا: غير مقيد

لا يجوز للفلسفة أن تقيد نفسها بنظريات جاهزة وإلا تنفي عن ذاتها صفة الإبداع والإتيان بالجديد فلا نظريات مطلقة في علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد وان كان هناك ما يمكن تسميته بالتقاليد التي يجوز اعتبار وجودها ذو قيمة إضافية للباحث في الفلسفة لا للفيلسوف نفسه الذي ينبغي له أن يتحرر من أي تقييد حتى يتسنى له الاقتراب من الحقيقة ومن جوهر الأشياء والظاهر بكل أنواعها, فالفلسفة كما عرفت قديما هي علم العلوم فقد يكون جائزا لعلم ما أن يحتفظ بقواعده وأصوله ونظرياته المثبتة لكن لا يجوز للعلم الشمولي أن يقبل حشره في زاوية مغلقة من أعمدة وجدران جاهزة ومحدودة فكل الفضاءات متاحة للفلسفة لان مسرحها يطال كل العلوم وإلا فما الفائدة إذن من البحث إذا كان سيترك المسلمات غير المثبتة قائمة ويعتبرها أساس بحثه وتفكيره ما دام لم يترك لنفسه عناء فحص أساساته فكل البنيان لا يمكن الاعتماد عليه فيما بعد.

الفلسفة وما يسمى علم الكلام

ينبغي لعلم الكلام أن يخدم الفلسفة بالضرورة لأنها علم العقل والكلام هو أداة تعبير عن مخرجات العقل وتجلياته وإذا تحول الكلام نفسه إلى علم كما يحلو لدعاته أن يسموه فقد ذهبوا بالمتلقي فقط إلى جهة توكيد الرأي السائد بسفسطة لغوية وتحايل لفظي وتحليل تجميلي لما يريدون وذلك ببحث القول لا بحث مضمونه وهذا ما يلجأ إليه عادة الفقهاء الذين ينغمسون في فكفكة المفردات وتلبيسها ما يرونه خادم للنص وهنا تأتي صنمية النص وتقديسه تقديسا غبيا والفرق كبير بين التقديس الواعي والتقديس الأعمى فالتقديس الواعي الباحث النقدي يقود أيضا إلى قناعات لكنها راسخة أكثر وعميقة أكثر ومنتجة وعصرية أكثر في حين أن التقديس الأعمى يبقي صاحبه حبيسا في غرف اللفظ أو النص المظلمة ولا يحتمل نور الشمس خارجها.
بكل الأحوال فان علم الكلام هو منتج إسلامي حصري لم يسبق لأحد أن أتى به قبل الاسلام ولالتصاق الاسلام باللغة العربية وكلامها فقد اصبح منتج عربي حصري ايضا وانسحب باعتباره علما كما تم قبوله ليشمل كل نواحي الحياة وليتم اعتماده كفلسفة عربية اعتباطا دون ادراك الفرق الجوهري بين الفلسفة وعلم الكلام باعتبار الفلسفة اداة التفكير التي ابدعت اللغة وبالتالي فلا يجوز اعتبار الابن هو الاصل وترك المنبع للغة ومظهرها وهو الكلام لتصبح النتيجة هي اساس البحث وقد يكون مناسبا قيام ما يسمى بعلم الكلام بدوره في فحص النص الديني وتفكيكه وتحليله لصالح اثباته مسبقا بسبب من قداسته لكن لا يجوز ان يصبح التفكيك هو المقدس لذاته واعتباره جزء من الاساس المبحوث كنص الهي مقدس وهو ما استفاد منه الفقهاء او علماء الكلام ومن ادعوا ذلك بتحويل كلامهم هم الى نصوص مقدسة تكاد تتجاوز النص الالهي بذاته وتحتل مكانه كون المفردات التي لم تحقق او اهل تحقيقها صعبة المنال للمتلقي البسيط فقد انفرد الفقهاء واشباههم بمهمة التفسير وقدموا شروحاتهم وتفسيراتهم كبدائل متاحة للمتلقي لا يجوز له مناقشتها او المجادلة بصحتها من عدمه.

ان امة لا يملك حتى اليوم ادوات الفكر الخاص بها بدءا من المفردات والمصطلحات وانتهاء بالمصالح والرؤى والمكانة والدور الذي ينبغي لها ان تحتله في مسيرة الصياغة البشرية المشتركة لمكونات العيش على الارض هي امة قدرت لدورها مكانة العاجز مسبقا وهي تشبه ذلك النجار الذي يرغب بالقيام بمهمة النجارة من خلال استخدام سكة حراثة الارض كونه لا يعرف او لا يملك غيرها وبالتالي فانه لن يجد امامه منتجا ما محض منتج مهما امتدت سنوات حراثته في الخشب.

بقلم
عدنان الصباح