لو تخيلنا أن النظام العربي يريد أن يتأمل وجهه في المرآة فماذا سيشاهد؟ الجواب قد يستغرق عشرات الصفحات من الإجابة أو ساعات من الشرح والمحاضرات.
فليس من السهل أن نختصر الإجابة عن الوضع العربي الراهن في مقال، وأنا الذي أقضي فصلا كاملا أحاضر طلابي عن "العالم العربي – السياسة والمجتمع في العصر الحديث". لكن الصورة باختصار تبدو قاتمة ومأساوية وعيية على المنطق.
هناك حروب بينية ونزاعات دموية في سوريا والعراق واليمن وليبيا. لبنان لا يستطيع أن ينتخب رئيسا ومصر ما بعد الانقلاب تتحول إلى شبه دولة بوليسية، الحدود بين المغرب والجزائر موصدة منذ أكثر من عشرين سنة، السودان بعد أن انسلخ ربعه يحاول احتواء أربعة صراعات في دارفور وأبيي وكردفان وبحر الغزال والسلطة الفلسطينية البائسة تعمل على حماية الاحتلال، وتطلب من المجتمع الدولي أن يحميها من الاحتلال (هل هناك مفارقة أغرب من هذا؟)، جماعات إرهابية تقيم دولا وخلافات وجيوبا في أكثر من موقع حتى أن بعض هذه الإمارات الإسلامية تزيد مساحة عن بريطانيا.
إيران تكاد تسيطر على أربع دول وعصائبها وحرسها يقاتلون في أكثر من موقع ودول الخليج تعاني من تراجع أسعار النفط واضطرارها إلى تمويل الحروب في اليمن وسوريا وتحشد كافة إمكانياتها ضد ما يسمى بالخطر الإيراني والتمدد الشــــيعي. تونس، الاستثناء الوحيد لمنظومة الخراب العـــربي، تواجه العديد من المشاكل الاقتصادية والأمنية، والجزائر تعيش أزمة قيادية، والمغرب جعل معركته الوحيدة "مغربية الصحراء". في ظل هذا الخراب تتصدر إسرائيل المشهد بقوة غير مسبوقة وعنجهية ورعونة فظة تتباهى بعلاقاتها العربية وتدس أياديها السوداء في كل صراع لتأجيجه وتوسيعه. فكيف وصل الوضع العربي إلى هذا المشهد السُريالي؟
سايكس بيكو ومرحلة الاستعمار
ستظل اتفاقية مارك سايكس بيكو ثابتة في المخيلة الجمعية للعرب بأنها المسؤولة الأساسية عن رسم الحدود العربية بالشكل الغريب التي رسمت به ومسؤولة عن تفتيت العرب كأمة وخلق كيانات وتدمير كيانات أخرى. لقد توصل الطرفان وبحضور سيرغي سازونوف وزير الخارجية الروسي قبل الثورة البلشفية بتاريخ 16 مايو 2016 على تقاسم التركة العثمانية. كانت قناة السويس في ذهن الانكليز وكانوا يريدون أساسا فصل آسيا العربية عن أفريقيا العربية، وهو هدف تم التوصل إليه عبر وثيقة هنري كامبل- بانيرمان رئيس وزراء بريطانيا بين عامي 1905 و1908 التي تقتضي إنشاء كيان بين الجناحين العربيين الآسيوي والأفريقي، لمنع وحدة بلاد الشام مع وادي النيل الحلم الذي حاول تحقيقه محمد علي باشا وابنه إبراهيم بالفعل. لقد خضعت المنطقة العربية بكاملها تقريبا للاستعمارين الفرنسي والبريطاني إضافة إلى الاستعمار الإيطالي لليبيا والإسباني لأجزاء من المغرب والصحراء. وقد أخذ الاستعمار في المنطقة العربية عدة أشكال:
- الاستعمار التقليدي القائم على أساس قوة عسكرية محدودة تخضع البلاد بالقوة، ثم ما تلبث أن تخلق طبقة محلية تدير مصالح الاستعمار نيابة عنهم. هكذا كان الوضع في العراق وسوريا ولبنان وتونس والمغرب واليمن الجنوبي. وعند إطلاق حركة تحرير جادة في أي من هذه البلدان يبدأ الاستعمار بالتفاوض من أجل الرحيل أو تبديل طريقة الحكم كما حصل في مصر بعد ثورة 1919، حيث منحت بريطانيا مصر الاستقلال الشكلي عام 1923، وظلت تحكم البلاد من خلال القصر ولم تستكمل مصر إستقلالها الناجز إلا بعد تأميم قناة السويس عام 1956 على يدي جمال عبد الناصر. كما حكمت بريطانيا العراق من خلال الملك فيصل وسلالته الذي طرده الفرنسيون من دمشق فنصبته بريطانيا ملكا على العراق إلى أن أطيح بالملكية عام 1958. وقد شهدت جميع هذه البلدان ثورات ضد الاستعمار ونجحت أخيرا في اقتناص استقلال كامل أو شبه كامل.
- الاستعمار الاستيطاني الإحلالي وهو ما طبقته فرنسا في الجزائر وبريطانيا في فلسطين. في الحالة الجزائرية كان المستوطنون الفرنسيون يملكون البلاد وخيراتها وإنتاجها، ويعتبرون الجزائر جزءا لا يتجزأ من الوطن الأم فرنسا. لقد احتاج طرد الاستعمار الفرنسي من الجزائر تضحيات كبرى على مدى أكثر من قرن وكلما وهنت ثورة أو ضعفت لحقت بها موجة أعنف منها وأشد إلى أن تم إطلاق واحدة من أعظم ثورات القرن العشرين في الأول من نوفمبر عام 1954، ولم تلق السلاح إلا بعد تطهير الجزائر كاملة من الاستعمار وأدواته. وقد كان الثمن عاليا جدا.
أما فلسطين فالوضع مختلف تماما. فقد تم إحلال غرباء مكان سكانها الأصليين بدعم من جميع دول الاستعمار الغربي كمشروع إحلالي استيطاني يخدم الغرب عامة ويؤمن مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة. وأثناء عملية زرع الكيان الغريب في فلسطين انضمت إلى المشروع دول عديدة مثل فرنسا ثم الولايات المتحدة فألمانيا الاتحادية ودولة جنوب أفريقيا العنصرية وغيرها الكثير.
- الحماية أو نظام المحميات الذي طبقته بريطانيا في دول الخليج العربي للسيطرة على مواردها النفطية. وقد تم إنجاز الاستقلال نتيجة تفاهمات واتفاقيات مع زعماء العائلات السائدة في تلك المحميات بدون الحاجة إلى تشكيل حركة نضالية لانتزاع الاستقلال. وقد تم توقيع اتفاقيتين خطيرتين لضمان مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا خاصة بعد اكتشاف النفط في أوائل العشرينيات والذي غير كثيرا من الاعتبارات الاستراتيجية للدول الغربية:
- الاتفاقية الأولى التي وقعتها مجموعة من شركات البترول الأمريكية والبريطانية العاملة في مناطق الشرق الأوسط عام 1928 وتدعى "اتفاقية الخط الأحمر"، حيث تم التوصل إليها بعد اكتشاف كميات هائلة من البترول في العراق. وقد أعطت تلك الاتفاقية الشركات الأمريكية والبريطانية حق تحديد الأسعار وبيع النفط بالطريقة التي تراها. وقد شارك في صياغة الاتفاقية شركة البترول التركية، التي أعطيت حصة من نسب التوزيع بين الشركات.
- والاتفاقية الثانية تم التوقيع عليها عام 1944 بين بريطانيا والولايات المتحدة وتدعى "اتفاقية النفط الأنكلو أمريكية". وتتعلق الاتفاقية بتقاسم الحصص بين البلدين. وقد خاطب الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت السفير البريطاني بعد الاتفاقية قائلا، "البترول الفارسي لكم والبترول السعودي لنا والبترول العراقي والكويتي لنا ولكم".
نصف قرن أو يزيد والقوى العربية الحية تناضل من أجل إنهاء الهيمنة الاستعمارية على المنطقة. فقد أطلقت الشعوب العربية وبطرق مختلفة حركات التحرر التي قادها رجال مخلصون وضعوا نصب أعينهم كهدف أساسي إنهاء الاستعمار أولا ثم تحقيق نوع من الوحدة التي كانت حلما يراود كل عربي شريف. وعندما لاحت فرصة الوحدة الفعلية بين مصر وسوريا عام 1958 تنبهت القوى الاستعمارية وأذنابها في المنطقة إلى خطورة هذه الخطوة، التي إن سمح لها أن تنجح ستبدأ الكيانات الهشة بالانهيار والانضمام لدولة الوحدة وهم ما كان الدافع الأساسي وراء انقلاب العراق عام 1958 ومظاهرات لبنان العارمة التي استوجبت تدخل قوات البحرية الأمريكية عام 1958 ومظاهرات الأردن التي تطالب بالانضمام لدولة الوحدة.
مرحلة ما بعد الاستقلال والسلطوية القاسية
بعد إنجاز الاستقلال في الدول العربية لعبت القوى الاستعمارية الأساسية، فرنسا وبريطانيا ولاحقا الولايات المتحدة على ضمان أن تعمل الأنظمة العربية على خدمة المصالح الاستراتيجية المتفق عليها وهي: منع الوحدة العربية والسيطرة على الموارد النفطية وإبقاء الاتحاد السوفييتي خارج المنطقة وإبقاء إسرائيل متفوقة عسكريا على جميع دول المنطقة. وقد شهدت المنطقة ثلاثة أنواع من الحكم:
- الملكية الليبرالية الأقرب إلى القوى الغربية، وقد تجسدت في المغرب وليبيا (لغاية 1969) والأردن والعراق (لغاية 1958). وشهدت نوعا من أشكال الحكم الحديث كوجود دستور وبرلمان وانتخابات.
- الأنظمة السلطانية وجلها في منطقة الخليج العربي. والنظام في هذه الدول يقوم أساسا على العائلة التي تعتبر البلاد والعباد والموارد ملكا حصريا لها حيث يحتل أفراد من العائلة الحاكمة كافة الوزارات السيادية، وتملك القرار النهائي في كل ما يتعلق بالبلاد والميزانية والعقود والتجارة والسياسة الداخلية والخارجية. وعلاقة هذه الأنظمة بالمركز الغربي علاقة تبعية مطلقة.
- النوع الثالث من الأنظمة وهو الجمهوريات الوطنية التي وضعت دساتير طموحة وبرلمانات وقامت على أساس سياسي قادت المراحل الأولى منها تلك القوى التي قاومت الاستعمار وأذنابه ووكلائه أو طردتهم من سدة الحكم وبالتالي اكتسبت شرعية ثورية قبل أن تكتسب الشرعية الدستورية مثل، الجزائر ومصر وسوريا والعراق ولاحقا السودان وليبيا وموريتانيا وتونس ولبنان.
لقد كان بإمكان هذه الدول، لو سمح لها، أن تنتقل إلى الحكم المستقر والتعددية والديمقراطية وبناء اقتصاد وطني متين وصحافة متطورة وأحزاب سياسية جادة. وكانت مصر تحت قيادة جمال عبد الناصر نموذجا لهذا النوع من الأنظمة الوطنية. وعلى النهج نفسه سار النظام في الجزائر تحت قيادة هواري بومدين ونظام أحمد حسن البكر في العراق. لكن تعرضت هذه الحزمة من الأنظمة إلى مطبات كبرى:
- تم تحالف القوى الاستعمارية مع القوى الأكثر رجعية في المنطقة لهزيمة كل من يمثل التوجه القومي العروبي، وبالتالي تم التخلص من النظام الناصري واستبداله بنظام على استعداد أن يعود بمصر إلى حضن دول الهيمنة الغربية. أما الجزائر فقد تم التخلص من نظام بومدين لتدخل الجزائر عصر الفوضى والفراغ القيادي ونمو التيارات الإسلامية المتطرفة التي عطلت قدرات البلاد وأدخلتها في حروب داخلية مع قوى الهيمنة التي يمثلها الجيش.
- قيام قيادات دموية قاهرة في مجموعة هذه الدول حولت البلاد إلى حكم فردي مطلق يتعامل مع المعارضة بالحديد والنار والسجون. وأدخلت هذه القيادات شعوبها في متاهات الحروب والتصفيات الدموية وضرب فئة بفئة أخرى وما هي إلا سنوات حتى بدأت هذه الشعوب تئن من ثقل يد الطغيان الداخلي ما أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية إلى أن أوصلت المنطقة إلى التدخلات الأجنبية، التي تنتظر مثل هذه الفرصة لتنقض على ما تبقى من دول ترفع اسم العروبة والقومية كما حدث في احتلال العراق للكويت مثلا. وهو ما حدث ويحدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن وإلى حد ما مصر اليوم.
– تم تشجيع التيارات السلفية التي سرعان ما تبنت الفكر الراديكالي، الذي انتشر بسرعة خيالية، خاصة بعد تطورات ثلاثة حدثت عام 1979 وهي الثورة الإيرانية واحتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان وتوقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد.
على ضوء تلك التطورات في المئة الأولى لاتفاقية سايكس بيكو يمكن لنا أن نفهم ما يجري اليوم في رقعة جغرافية تزيد مساحتها عن 12.5 مليون كيلومتر مربع ويزيد سكانها عن أربعمئة مليون، ولديهم أكبر عدد من اللاجئين والمشردين والفقراء والجماعات الإرهابية والأراضي المحتلة.
د. عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز