مهما تكن الملاحظات على الانتخابات البلدية، يكفي انها تزامنت مع ذكرى عيد المقاومة والتحرير والانتصار ، ولكن رغم ذلك فنحن بحاجة فعلا إلى تجربة انتخابية جديدة ، تكون فعلا لا قولا نزيهة بكامل مواصفات النزاهة، ولا يخدشها أي شائبة ، ونحن في نفس الوقت امام فرصة حقيقية للتعرف على موازين القوى السياسية المختلفة والمتناقضة أحيانا على الميدان، فقد طفت على السطح ظواهر عديدة نتجت عن السلوك الانتخابي للمواطن اللبناني، لعل أهمها تماما بروز التيارات السياسية والمدنية المتفاعلة على الساحة.
وامام الانتخابات البلدية وما رافقها من مشاغبات في بعض القرى ، او توزيع اموال " اي رشوة "، لكن انتخابات البلديات دخلت نفقاً جديدا ، من خلال المشاركة الفعلية للقوى السياسية والعائلات والمستقلين في الانتخابات البلدية ، رغم ان الجميع يتطلع للمرحلة الجديدة وهي ضرورة اقرار قانون عصري او قانون التمثيل النسبي ، او تعديلات إضافية نوعية أخرى من شأنها أن تشكّل نقلة تجديدية وتطويرية مهمة في إدارة عمل البلديات وعلاقتها مع المجتمع المحلي ، وخاصة ان نسبة المقترعين لم تأت حسب الرغبة ، نتيجة الخلاف الحاد في الأوساط الشعبية، وخاصة على مستوى المشاركة الشعبية في الانتخابات، لذلك نؤكد ان المشاركة في الانتخابات البلدية هي واجب ضروري، ولا تقلّ أهمية عن الانتخابات النيابية، لأنها محطة تاريخية مهمة تشكل رافعة جديدة في حالة النهوض الشعبي، وتصويب العلاقة بين المجالس البلدية والاوساط الشعبية التي تنتظر أن تطور دورها وتصحح علاقتها بالناس، وخاصة مع مصالح الفقراء والمحرومين من الخدمات العامة، ولهذا نحن نقر ان المجالس البلدية محطة مفصلية رغم نزعة التململ من إحكام القوى السياسية وسيطرتها على كامل القرار التمثيلي للناس، حيث سجل فقط في الانتخابات ظهور حالات اعتراض ، ولكن أنتجت هذه الانتخابات تحالفات جديدة، وكشفت عن تحالفات أخرى ، كما كشفت عن عدم قدرة المجتمع المدني على تشكيل بديل.
من هنا نقول إن وظيفة البلدية كسلطة محلية هي تنظيم الفضاء الحياتي للناس، حيث توفر لهم حوافز التفاعل والتواصل من خلال تغليب العامّ الاجتماعي على الخاص العائلي أو الطائفي أو الفئوي السياسي، فإنشاء الطريق العامّ، أو المدرسة للجميع، والمستوصف أو المركز الطبي للجميع، والمكتبة العامة، والنادي الثقافي الاجتماعي، والملعب الرياضي، والحديقة العامة، والمشروعات العامة على اختلافها وخاصة بناء المساكن الشعبية للعائلات الفقيرة والشباب، كلها عوامل تساعد على أنسنة المجتمع المحلي وتضمن وحدة نسيجه الاجتماعي ـ الثقافي، الأمر الذي ينمّي في كل مدينة أو بلدة او قرية حسّ التواصل الانساني في العلاقات بين فئات الشعب ، ويساعد بالتالي، على انتقال المواطن من دائرة العصبية الأهلية الى مكونات الحراك الإجتماعي والشعبي وهذه الكتلة الشعبية الواسعة الى فضاء المجتمع المدني، حيث تغدو المواطنة القاسم المشترك على المستوى المحلي، و بالتالي على المستوى الوطني العامّ.
ولهذا نرى امام كل ذلك ان الشعب اللبناني كان ينتظر بشوق عظيم، ربما لأنها فرصة نادرة لتأكيد الذات والابتهاج ، وبأهمية مشاركتهم ديموقراطيا في الانتخابات البلدية على قاعدة
البرنامج والمحاسبة، حتى يثبتوا انهم قادرين على الخروج من حالة البؤس التي تخيم على الوطن العربي وبمختلف أقطاره والتكوينات والمكونات الطائفية والمذهبية فيها، وهذا الإنجاز اللبناني العظيم يعتبر فتحاً جديداً في تاريخ العمل السياسي، مشرقاً ومغربا ، لهذا رأينا ان المرحلة الانتخابية شكلت بأروع صور الاستقرار والهدوء والوئام دون ان يعكر صفوها ، وأن المشاركة الواسعة في الاستحقاق البلدي والاختياري تؤكد على إرادة الصمود والمقاومة وتحقيق الإنماء الذي يحصن هذا الصمود، وخاصة ان الانتخابات تجري في شهر الانتصار والمقاومة لتؤكد ان الشعب اللبناني بمقاومته وجيشه وصموده وانتصاره حرر وطنه بدمائه.
لقد سجل الشعب اللبناني، بكل فئاته وطوائفه، وعيا وثباتا ومواطنة صالحة من خلال مقابلتهم الوفاء بالوفاء، لهذا وقعوا أوراقهم بشعلة نور لقوى المقاومة والتغيير ، وتأييدا مطلقا للقضية الفلسطينية المكتوبة منذ العام 1948 تاريخا لا يمكن إهماله أو إسقاطه من حيثيات الذاكرة المتخمة بمرور الزمان، الذي يشهد على تاريخ لبنان الشقيق وشعبه الابي ومقاومته المناضلة، حيث توج بالصمود في الأرض والثبات في مواجهة العدو، وهنا يسجل للتنظيم الشعبي الناصري وللحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي وقوى اليسار تناغمه مع لوائح التنمية والوفاءفي الجنوب، و هذا يعتبر بحد ذاته نوعا من الاستفتاء على شعبية المقاومة وحضورها، لا سيما في ظل الهجمة غير المسبوقة عليها، وهذا انتصارا لخط المقاومة والتحرير والتغيير في آن معا .
ومن موقع التقدير والاحترام للجميع ، وبالرغم من عدم المشاركة الشعبية الفعلية في الانتخابات ، نؤكد ان الشعب اللبناني اعلن خياراته الديمقراطية بانتخاباته للمجالس البلدية والاختيارية، وهذا يستدعي العمل من اجل المرحلة المقبلة لتكون انتخابات البلدية بالاقتراع بدلا من التوافق بما ينسجم مع مصالح الناس، ومع مصالح اللبنانيين بشكل عام، وبما يساهم في إخراج لبنان من ازماته وبوضعه على سكة التعافي والتقدم والتطور.
ان ما جرى من ترشيح وحملة انتخابية، في بعض البلدات وانسحاب المرشحين نظرا للظروف الحساسة يؤكد على اهمية مسيرة تكامل طريق التنمية مع التغيير، وهذا يستدعي للمرحلة المقبلة تهيئة الشباب والشابات ، وكل الطاقات والكفاءات المبدعة، وكل المخلصين لخوض المعركة الانتخابية للمجالس البلدية والاختيارية ، من خلال العمل الشعبي في الأحياء، وعلى صعيد القطاعات المهنية، وبين صفوف العمال والطلاب والنساء، للنضال معاً من أجل النهوض والدفاع عن مصالح المواطنين وللتنمية الحقيقية، ولتكن مسيرة التحرير والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية
وفي ظل هذه الظروف اقول ان المنتصر في هذه المعركة هو خط التحرير والتنمية والمقاومة والقوى الديمقراطية والتغيير وفي مقدمتها لائحة صوت النّاس في صيدا ، بغض النظر عن فشلها في تحقيق اختراق او القوى الاخرى في الوصول في الانتخابات البلدية ، ولكنها نجحت من خلال حجم التصويت الذي حصلت عليه ،الا ان فوز لوائح التنمية والوفاء شكل خطوة مهمة و خلق حالة ديموقراطية داخل كل قرية ومدينة، كما ان قوى الديمقراطية والتغيير كانت امام مهمة وطنية عززت دورها في تحالفها مع العائلات او مع حركة امل وحزب الله في بعض المدن والقرى ليشكل نبراسا على طريق تحقيق الديمقراطية والتغيير وخاصة الحزب الشيوعي
اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي تتعدى اليوم صيغتها التقليدية ، وهذا يتطلب النضال من اجل قانون انتخاب عصري وديموقراطي ، قائم على اساس النسبية يؤمن صحة التمثيل الحقيقي ، والعمل على للوصول الى اقرار قانون النسبية، بعيدا عن كل القوانين القائمة على الاكثرية الاقصائية والطائفية والمذهبية ، مما يستدعي تعديل انظمة الانتخابات لتأمين صحة التمثيل.
ختاما : لا بد من القول ، بعد الانتهاء من انتخابات البلدية ، ان نثمن مواقف قائد مسيرة التنمية والتحرير دولة رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل الأستاذ نبيه بري في تصميمه على انجاح انتخابات البلدية والاختيارية ، ونؤكد أن انظار اللبنانيين اليوم تتجه نحو اقرار قانون الانتخابات النيابية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية ،فمن الطبيعي أن يفرح اللبنانيون، من خلال المشاركة في القرار في بلدهم الصغير والجميل، بعد ممارسة حقوقهم في انتخاب مجالس بلدية واختيارية في مدنهم والبلدات والقرى، حيث رسمت طريقا جديا من اجل تعزيز الديموقراطية و قاعدة للإنقاذ الوطني من خلال وضع آليات آليات جديدة لتجديد العمل البلدي ، وهذا يتطلب المشاركة الفعالة في اللجان المتفرعة في المجلس البلدي ولجنة اشراف على شؤون العمل البلدي ،وهي تشكل اهمية وطنية كبرى يطمح اليها الشعب والشباب اللبناني وصولا لتعزيز الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
بقلم/ عباس الجمعة