للمرة الرابعة يلتقي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال عام، ثلاث منها في موسكو. السجاد الأحمر يفرش لنتنياهو ويعامل كأنه أحد حلفاء الكرملين أيام الاتحاد السوفييتي.
وصل نتنياهو موسكو ومعه ثلاثة وزراء يتحدثون الروسية من بينهم وزير الدفاع الجديد أفغدور ليبرمان، للاحتفال بخمس وعشرين سنة من بدء العلاقات بين إسرائيل وروسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي. تميزت تلك الفترة بوصول مليون مهاجر روسي لتعديل الخريطة الديموغرافية في كيان يدفع الملايين من أجل استقدام المزيد من المهاجرين. بوتين لا يخفي مودته الزائدة عن الحد لصديقه العزيز نتنياهو، فقد وصفت جريدة "هآرتس" العلاقات بين البلدين عشية الزيارة "بأنها لم تكن أفضل مما هي عليه الآن".
كيف نفسر هذه العلاقة الحميمية بين دولة تزود إيران بصواريخ س- 300 الاستراتيجية وتحارب إلى جانب حزب الله في سوريا لمنع نظام بشار الأسد من السقوط، في الوقت الذي من المفترض أن تكون إيران على رأس قائمة أعداء إسرائيل، التي ما فتئت تتهم نظام الملالي بأنه يريد لإسرائيل أن تختفي من الوجود. يليها مباشرة في القائمة حزب الله، التنظيم الذي دخل حروبا مع إسرائيل وأذاقها كأس الهزيمة مرتين عام 2000 و 2006، وأخيرا نظام الممانعة في سوريا الذي وإن لم يطلق طلقة واحدة على إسرائيل منذ حرب أكتوبر 1973، إلا أنه كان الممر لأسلحة إيران إلى حزب الله، التي صنعت الانتصارين السابقين.. ما الذي تغير إذن؟
ملاحظات حول الزيارة
في معرض ترحيبه بصديقه العزيز قال بوتين إن الاتحاد السوفييتي كان أول من اعترف بإسرائيل. والعلاقات بيننا في الخمس وعشرين سنة الماضية تتطور "بسرعة وبطريقة بناءة". وتمادى أكثر في تأكيده على ضرورة تعزيز العلاقات التجارية قائلا، "إنني واثق أن إقامة منطقة تجارة حرة بين الإتحاد اليوروآسيوي وإسرائيل سيكون محفزا لتطوير العلاقة الاقتصادية بين الطرفين".
نتنياهو رد على التحية بأحسن منها، فذكر بوتين بدور الجيش الأحمر في هزيمة النازية، وتذكر الأيام الأولى لإقامة العلاقات بين البلدين، التي تنامت وتطورت خلال ربع القرن الأخير. "وأود أن أقدم لك جزيل الشكرللتعاون معنا في هذه المجالات وكل المجالات التي ندفع باتجاه تطويرها، كما وصفت ذلك جيدا". كما شكر بوتين على افتتاح معهد حكومي لتدريس اللغة العبرية.
بوتين من جهته خص رئيس الوزراء الإسرائيلي بمفاجأة لم يتوقعها، حيث تحول إلى مرشد سياحي وطاف به في خبايا الغرف المغلقة والخاصة داخل مبنى الكرملين، وأطلعه على بعض النسخ النادرة من التوراة، وقدم له شروحات وافية عن القطع الأثرية والفنية والتاريخية المعروضة في تلك الغرف. كما قام نتنياهو وزوجته استكمالا للرحلة السعيدة بزيارة معرض افتتح في قلب موسكو تحت عنوان "فتح الباب لإسرائيل" وهو عبارة عن معرض تفاعلي ذي أبواب تسعة يدخلك كل باب إلى زاوية من الحياة في إسرائيل. وقال نتنياهو في المعرض "ما بيننا وبين روسيا ليس فقط علاقات ثقافية وتكنولوجية كما يبدو في هذا المعرض، بل أكثر بكثير. هناك جسر إنساني ممثل بوجود أكثر من مليون متحدث بالروسية يدخلون في نسيج بلادنا دما ولحما. لقد جاؤوا كمواطنين في إسرائيل وكلهم تعاطف مع الدولة ويحملون لها أجمل النوايا".
المفاجأة الثانية التي أثلجت صدر نتنياهو هو قرار بوتين بإعادة الدبابة الإسرائيلية التي سيطر عليها الجيش السوري في معركة السلطان يعقوب خلال حرب لبنان الاولى عام 1982، وسلمها لموسكو، استجابة لطلب نتنياهو خلال زيارته السابقة. ولا نستغرب كثيرا إذا ما قامت موسكو قريبا بتلبية طلب آخر من نتنياهو وهو نقل جثمان الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أعدم عام 1965 إلى إسرائيل لدفنه هناك كبطل قومي.
ومن بين الاتفاقات التي نجمت عن الزيارة السماح للمهاجرين الروس منذ عام 1992 بتلقي أموال التقاعد التي قطعت بسبب اختيارهم لجنسية أخرى. هذا يعني أن ملايين الدولارات سيتم تحويلها إلى البنوك الإسرائيلية لتزيد الاقتصاد الإسرائيلي انتعاشا فوق الانتعاش الحالي.
لقد مضى الزمــــن الذي كان الاتحاد السوفييتي يقود التعبئة الدولية ضد الحركة الصهيونية، وكان من بين من صاغوا قرار الجمعية العامة لعام 1975، الذي اعتبر "الصهيونية حركة عنصرية" وأنشأ دائرة بقيادة أحد أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ليترأسها، كانت مهمتها التوعية والتثقيف ضد الصهيونية، باعتبارها حركة عنصرية. الآن يعتبر بوتين نموذجا لدول ما بعد الاتحاد السوفييتي في تدليل الجالية اليهودية في الداخل، والانفتاح والتواصل مع الجاليات الروسية اليهودية المهاجرة في الخارج.
بعض الأسباب لهذه العلاقة المميزة
* يجب أن نلاحظ أولا أن العلاقة الروسية الفلسطينية باردة إلى حد كبير ولا تزيد عن تبادل بعض الزيارات وإصدار البيانات والتصويت إلى جانب مشاريع قرارات لصالح فلسطين، في معظمها معنوية، مثل قبول فلسطين كدولة مراقبة أو رفع العلم الفلسطيني أو الانضمام إلى منظمة اليونسكو. موسكو سعيدة بأنها جزء من اللجنة الرباعية التي "لا تهش ولا تنش" واستخدمتها الولايات المتحدة شماعة تعلق عليها فشل العملية السلمية. وتتصرف موسكو وواشنطن أحيانا بالطريقة نفسها في أي إطار يتعلق بفلسطين خارج اللجنة الرباعية أو مجلس الأمن. وليس صدفة أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف غاب عن مؤتمر باريس، بينما حضره جون كيري بنصف قلب ونصف نية سليمة. وكأن الطرفين يريدان أن يقولا لفرنسا ما دامت اللعبة خارج ملعبينا فلن نضع ثقلنا فيها.
لاحظنا كذلك أن فلسطين غابت تماما من خطابي أوباما وبوتين أمام الجمعية العامة في افتتاح دورتها السبعين في سبتمبر الماضي، وعندما طلبنا من لافروف في مؤتمره الصحافي في المقر الدائم للمنظمة الدولية أن يفسر سبب هذا التغييب المتعمد، راح يؤكد على الدعم التاريخي الروسي للقضية الفلسطينية، ويعدد زيارات محمود عباس للكرملين. هذا التهميش يثلج صدور الإسرائيليين ويشجعهم على التقارب أكثر من موسكو.
* الرابحان الأكبران من الأزمة السورية هما نتنياهو وبوتين. سوريا أعادت الهيبة لبوتين بعد أن قامت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من "لطش" أوكرانيا، أهم حلفائه والحزام الأمني لبلاده، فأصبح كالأسد الجريح يريد أن يعيد الاعتبار لصورة القيصر التي ثبتها منذ تولي منصب الرئيس أو رئيس الوزراء -لا فرق. أما نتنياهو فيتصرف وكأنه ملك إسرائيل على طريقة ملوك التوراة وقصصهم الخيالية وقدراتهم الأسطورية. فهناك تشابه بين الرجلين. لقد أعادت سوريا الاعتبار لبوتين وقامت روسيا بالتنسيق الدقيق مع إسرائيل حتى لا تقع أخطاء على طريقة الخطأ مع نظيرهما الثالث "السلطان" أردوغان الذي تحدى الهيبة الروسية وأسقط طائرة عسكرية في نوفمبر عام 2015، وكادت الأمور تتدهور بين القيصر والسلطان، لكن الملك نتنياهو أذكى بكثير. فما دام تدمير سوريا مستمرا فهو سعيد جدا وما دامت العمليات الإسرائيلة المحدودة (عشرة على الأقل) لا اعتراض عليها كاغتيال سمير القنطار مثلا فلا بأس. دع روسيا تطيل أمد الحرب كي يتم تدمير ما تبقى في سوريا وتوسيع الشرخ بين مكونات الشعب السوري والعمل على إنشاء الكانتونات الثلاث السني والعلوي والكردي في سوريا. إذن فلتبق أبواب الاتصالات مفتوحة بين الطرفين كي لا يقع خطأ ما. كل له مجاله الحيوي.
* عن إيران حدث ولا حرج. علاقة نتنياهو ببوتين تضمن له تأثيرا إيجابيا على النظام الإيراني لأنه بحاجة إلى الكرملين. لم يطالب نتنياهو بإلغاء صفقة صواريخ س- 300 التي يتم تسليمها لإيران هذه الأيام، لأن الروس قدموا له تطمينات بأن هذه الصواريخ ليس لها علاقة بإسرائيل، لا من قريب ولا من بعيد، وإلا ستلغي موسكو الصفقة. إن تأثير موسكو على طهران، كما تأمل إسرائيل، لا بد أن ينعكس على التصرفات السورية وحزب الله. إن التطمينات الأمريكية بحماية إسرائيل لم تعد كافية. إسرائيل حققت اختراقا في الشرق في الهند أولا ثم روسيا ثانيا. إسرائيل تريد من روسيا أن تعترف لها بدور إقليمي كبير. ولمَ لا؟ إذن تتقاسم مناطق النفوذ في المنطقة ثلاث دول: روسيا وإسرائيل وإيـران. وتحاول السعودية أن تلحق بالركب إلا أنها صحت من النوم متأخرة.
* من جهته يعرف نتنياهو أن روسيا أصبحت جارة دائمة له. فروسيا علاوة على أنها تحارب إلى جانب قوات الأسد فهـــي تقوم بتوسيع وتحديث قاعدة طرطوس البحرية. حتى لو افترضنا أن النظام ممثلا بشخص بشـــار الأسد تغـــير ولكن بقيت هيكلية النظام بعد التسوية فســـتكون هناك قناعة ببقاء روسيا لأمد أطول للعمل على استقرار البلاد ومنع العمليات الانتقامية الثأرية. كل الدلائل تشير إلى أن البقاء الروسي في سوريا طويل الأمد. إذن لا بد من التنسيق بين الجيران كي تكون الجيرة مزدوجة المنافع.
* موسكو تحتاج إسرائيل في تبادل المعلومات المتعلقة بحرب الجماعات الإرهابية. وأنا واثق ألا أحد يعرف عن "داعش" وقياداتها ومخازنها وتحركاتها أكثر من الأجهزة الإسرائيلية، وموسكو بحاجة إلى بنك المعلومات الإسرائيلي الغني في ما يسمى بالحرب على "داعش".
* وأخيرا أوباما. كلا الرجلين غير راض عن تصرف أوباما لأنه لا يعمل مستخدما عند نتنياهو كما كان يتأمل. لقد اتسعت شقة الخلاف بين الرجلين عندما أصر نتنياهو على أن أفضل صفقة مع إيران هو ألا تكون هناك صفقة أصلا، لكن أوباما أصر على موقفه. فاستنجد نتنياهو بالكونغرس الذي منحه كل الوقت الذي يريد، لكنه فشل مرة أخرى، وتم التوصل للاتفاق والتوقيع عليه ودخوله حيز النفاذ، بدون أن يلتفت أوباما لكمد نتـنياهو.
وبالنسبة لبوتين وجود إسرائيل إلى جانبه في حربه في سوريا يعزز من موقعه ويزيد من وزنه أمام أوباما، الذي يختلف معه في كثير من القضايا. فعندما اعترضت كل من تركيا والسعودية على التدخل الروسي في سوريا، استند بوتين إلى الموقفين الإسرائيلي والمصري اللذين يتماهيان في كثير من المسائل ومن بينها التهميش المتواصل للقضية الفلسطينية.
الغريب في الأمر أن بعض الكتاب والمحللين العرب يسبغون قدرات خارقة على بوتين ويمنحونه شرف المواجهة مع حلف الناتو ودول الشرق الأوسط الكثيرة. ونؤكد لهولاء أن في قاموس بوتين لا توجد مصالح دائمة ولا خيارات دائمة ولا صداقات دائمة، وبوصلته تشير دائما أين مصلحتي أنا؟
د. عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز