شكلت عودة العلاقات الدبلوماسية وتطبيعها بين الجانبين التركي و" الإسرائيلي " ، مادة للسجال بين الكثيرين من النخب ، وصلت إلى حد كيل الاتهامات ، ولو بشكل مبطن . وهذا ليس بمستغرب لما مثله هذا الاتفاق وعودة العلاقات التركية و" الإسرائيلية " من منعطف خطير في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها المنطقة برمتها ، والتي وصلت تداعياتها لتطرق أبواب العديد من دول العالم . فتطوعّ البعض منهم إلى المبادرة إلى تقدير الجهود التي بذلها الرئيس التركي الطيب أردوغان من أجل رفع المظلومية الواقعة على الشعب الفلسطيني ، وبذل الكثير من أجل مساعدة أهلنا المحاصرين في قطاع غزة ، مع بقاء هؤلاء على حذرهم ومحاذرتهم التعرض للاتفاق التركي – " الإسرائيلي " ، على الرغم من تمسكهم المبدئي بمواقفهم تجاه الاحتلال " الإسرائيلي " . والبعض الآخر ذهب بالمباشر ومن دون أية رتوش سياسية إلى إدانة الخطوة التركية الخطيرة في إعادة علاقاتها الدبلوماسية والتطبيع مع الكيان " الإسرائيلي " ، ورأى هؤلاء أن خطوة الرئيس التركي في هذا الاتجاه انطوت على الكثير من المخاطر لما ستتركه من تداعيات على مجمل الأوضاع في المنطقة ، خصوصاً أن محددات هذا الاتفاق قد تجاوزت العلاقات في الإطار الثنائي لتتعداه نحو " التنسيق الأمني الكامل على الأراضي السورية " ، وأن أحد أهدافه منع ما أسمياه ب" سيطرة إيران على سوريا عبر حزب الله " . وهذا ما كشفت عنه القناة الثانية العبرية ، وما خلصَ إليه " مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي " ، إلى " أنّ الاتفاق إيجابي وضروري للدولتين في ظل التحديات التي تواجههما أنقرة وتل أبيب ، وتحديداً في كل من سوريا وقطاع غزة " .
ولكن من المستغرب أن يجهد كاتب في تجميع ما كتبته وغردت به العديد من النخب الفلسطينية الإسلامية ، ليصيغ بها مطالعة طويلة تحت عنوان " تركيا أردوغان وجدل ما بعد التطبيع .. النخب الفلسطينية بين التبرير والتشهير " ، تُلخص إلى ما رمى من خلالها الكاتب أن يقوله لنا وللقارئ ، عن أن تركيا أردوغان كانت مضطرة للذهاب مرة جديدة نحو تطبيع لعلاقاتها مع الكيان " الإسرائيلي " . وقد انطوت مطالعة الدفاع تلك على الكثير من المفارقات التي تناقض السياق التبريري للخطوة التركية في التطبيع والاندفاع نحو خطب ود الكيان " الإسرائيلي " ورئيس حكومته نتنياهو . وجاءت في السياق التالي :-
• اعتراف الكاتب أن تطبيع العلاقات التركية مع " إسرائيل " هو موقف ليس من السهل الدفاع عنه ، خاصة وأنه بلد يتمتع بخاصية قيادية في العالم الإسلامي ، من موقع أنه يترأس منظمة التعاون الإسلامي . المفارقة هي في كيفية استسهال الدفاع تارة عن الخطوة التركية ، وتارة في صعوبة الدفاع عنها في آن واحد عند الحديث عن التطبيع ، على الرغم من أن ذلك سيترتب عليه الكثير من المخاطر والتهديدات ليس فقط على الفلسطينيين وحدهم ، بل أيضاً على الأمة بأسرها
• وإن كانت المطالعة تعترف أن التطبيع بمثابة الغصة في حلق الكاتب ، ولكنها في المقلب الآخر تعتبره قهر الضرورة ، بمعنى أن تركيا أردوغان ذهبت للتطبيع مضطرة على ذلك ، أي " مجبرٌ أخاك لا بطل " ، وفي هذا تبرير يُناقض موقف الكاتب الذي رأى في التطبيع أمراً ذي خطورة
• الكاتب عندما يُقرر حجب مواقف غير الإسلاميين في قضية على غاية من الأهمية والخطورة ، إنما يهدف من وراء ذلك ، ألاّ يقف القارئ على حقيقة مواقف النخب والقوى الفلسطينية الأخرى . فهو استعرض فقط مواقف نخبة من الإسلاميين الفلسطينيين ، وكأنه يقول أن خطوة الرئيس التركي أردوغان في توقيعه على اتفاق عودة العلاقات مع إسرائيل ، تحظى بتأييد واسع من الفلسطينيين ونخبهم
• لجوء الكاتب إلى جعل قطاع غزة القاسم المشترك بين من وصفهم بالذين قدموا الكلمة الطيبة لجهود الرئيس أردوغان ، ونظروا للمسألة من باب أن تركيا لم تدّخر جهداً إلا وبذلته من أجل رفع الحصار ومعاناة أبنائه ، وبين من وصفهم الكاتب بالجهات المشككة والمتحاملة في الأصل على تركيا . والأدهى أن الكاتب قد اتهم هذه الجهات بالتواطؤ من أجل استمرار معاناة شعبنا من خلال الحصار الظالم . وهو قد تناسى أن طيف واسع من الذين أدانوا الخطوة التركية هم في الأصل جزء من الحالة السياسية الفلسطينية المقاومة ، وإن كانت لهذه الجهات مواقف من السياسات التركية اتجاه سورية ، من خلال انخراطها في دعم المجموعات المسلحة العاملة على الأرض السورية بهدف إسقاط الدولة السورية
• ما فائدة احتكاك الكاتب بالعديد من القيادات التركية التي أتاحت له فهم ومعرفة طريقة تفكيرها ، لينتهي المطاف ببعضهم وتحديداً الرئيس التركي أردوغان إلى توقيع اتفاق مع " إسرائيل " . والكاتب نفسه قد أقرّ في مطالعته أن هذا الاتفاق ستكون له الكثير من المخاطر والتهديدات ليس فقط على الفلسطينيين وحدهم ، بل أيضاً على الأمة بأسرها
• من دون الغوص كثيراً في موضوع إقحام الكاتب للمسألة السورية وما يجري على أراضيها ، وإظهاره على أن الدور التركي اختصر على إبداء النصيحة والمشورة للقيادة السورية إذا ما أرادت نزع ما أسماها الكاتب ب "الأزمة " . وهو الذي أغفل عن عمد عدم استكمال روايته في نصفها الآخر ، عندما انخرطت تركيا بما امتلكته من موقع وإمكانيات في الحرب على سورية ، من أجل إسقاط الدولة السورية . والقول أن تركيا أردوغان قد خسرت سورية عندما دخل " تنظيم الدولة – داعش" على خط القتال هناك ، متناسياً أن " داعش " ومعظم المجموعات المسلحة ، إن لم نقل بمجملها وجدت الرعاية والاحتضان لها في تركيا
• الكاتب وإن اعترف بأن السياسة هي درجة احتراق الأيديولوجيا ، بمعنى أن المصالح هي الحاكمة في السياسة وعلاقاتها ، وبذلك هو يُقر بأن " الغاية تبرر الوسيلة " ، حتى ولو كانت القيم الإسلامية التي تحكم تركيا بحسب الكاتب تفرض عليها التزاماً أخلاقياً يحكم تلك المصالح منظومة من القيم والمبادئ
• بعد أن استعرض الكاتب في مطالعته المطولة لسياق علاقات تركيا المتصادمة مع سوريا والمتأزمة روسيا بعد إسقاط طائرة السوخوي واتساع الشرخ بينهما ، إلى الغرب الأوربي الذي لم يأخذ بالرؤية التركية لاستقرار المنطقة عبر حل الأزمة السورية ، أي التدخل العسكري المباشر . يذهب الكاتب إلى التبرير الغير مبرر ، بان تركيا أردوغان وجدت نفسها أمام طريق بمسلك أوحد هو التفكير ب" إسرائيل " ، لما أسماه الكاتب بالاعتبارات السياسية والأمنية والإنسانية ، حيث أفرد لها نقاط خمسة ، جعل منها أن " إسرائيل " تشكل خشبة الخلاص لتركيا بهدف التخلص من المشاكل والأزمات التي خلقتها لنفسها وباتت تتهددها وتعاني منها . وتلخصت بحاجة تركيا إلى عودة الزخم العلاقة مع أمريكا ، والمحافظة على مكانة تركيا كممر آمن للغاز " الإسرائيلي " نحو أوربا ، وهذا ما أكدته الباحثة " غاليا ليندنشتراوس " " أنّ تركيا وإسرائيل متفائلتان جداً فيما يتعلق بتصدير الغاز الطبيعي الذي تم اكتشافه على السواحل الإسرائيلية إلى تركيا ، ومن هناك أوروبا " . وحاجتها للجم التطلعات الكردية نحو استقلالهم ، بما يشكل خطراً حقيقياً على تركيا واستقرارها . والتهديدات الإرهابية المتعاظمة ضد تركيا . وجاءت النقطة الخامسة ، في تقديم جهد الاستطاعة التركية للتخفيف من معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة ، لتدلل أن غزة وفك الحصار عن قطاعها لم يشكل عائقاً أمام توقيع الاتفاق التركي – " الإسرائيلي " ، وهذا ما سميّ بالتفهم لخطوة تركيا أردوغان من قبل الكاتب والنخبة التي أفاض بها مطالعته للدفاع وتبرير التطبيع مع " إسرائيل " .
بقلم/ رامز مصطفى