الحركة الوطنية الفلسطينية تُقاد إلى المقصلة

بقلم: محمد أبو مهادي

ينشغل العالم ومعه معظم أبناء الشعب الفلسطيني في تداعيات الأحداث المتسارعة في تركيا، لدرجة أن طفلاً فلسطينياً ذُبح على أيدي عصابات الإرهاب في سوريا لم يوقظ الضمير العالمي إتجاه الكارثة التي تعصف بالشرق الأوسط منذ بداية ما يعرف "بالربيع العربي" حتى الآن، ومع إنصراف الإعلام الدولي نحو ما يجري من إنتهاكات وفظائع في تركيا، يجد محمود عباس فرصته الذهبية للإنقضاض على حركة فتح ومعها الحركة الوطنية من خلال عملية تبدو في ظاهرها ديمقراطية، لكنها تحمل في باطنها مخطط تسليم ما تبقى من النظام السياسي الفلسطيني لحركة حماس، إستكمالاً لخطّة قديمة أمر بها الأمريكان تحت عنوان "إصلاح النظام السياسي والإداري للسلطة الفلسطينية"، جوهرها ربط كل الحركة السياسية الفلسطينية بما فيها حركتي حماس والجهاد الإسلامي في حظيرة أوسلو وملحقاته الأمنية والإقتصادية، واستبدال فكرة الأرض مقابل السلام التي إنطلقت على أساسها مفاوضات التسوية السياسية بفكرة "السلام الإقتصادي" الذي تحدث به عدد من المبعوثين الدوليين، زاروا الأراضي المحتلة والتقوا عدداً من قيادات حركة حماس.

الخطوة الأولى بعد اغتيال الزعيم ياسر عرفات كانت الولوج إلى الإنتخابات البلدية والتشريعية عام 2006، رغم أن الوضع الفلسطيني لم يكن مهيئاً لإجرائها، ولم تكن كل الحركة الوطنية جاهزة لخوض هذه المعركة المهمة، وقام رئيس الوزراء الإسرائيلي "أرئيل شارون" بتسهيل المهمة حيث سمح بمشاركة الفلسطينيون من القدس الشرقية في الانتخابات، ووضع عباس الجميع أمام إستحقاق انتخابي نتائجه معروفة سلفاً والمجتمع الدولي يعلم مآلاته، إلى أن فازت حماس وخرج محمود عباس ببدعته العجيبة التي تقول أن برنامج الحكومة يجب أن يكون برنامج الرئيس، ليدخل النظام السياسي الفلسطيني في مأزق كبير استمر عدة أشهر، إلى جانب عقبات أخرى متعلقة بالصلاحيات والأجهزة الأمنية وغيرها من تفاصيل قادت حماس للإنقلاب على حكومة كانت ترأسها.

الإنقلاب العسكري الذي خاضته حماس عجيباً يثير الشكوك من أولى لحظاته، فهو إنقلاب حمساوي على سلطة تقود حكومتها حركة حماس، نصف وزرائها منهم تقريباً، حدث دون مواجهة تذكر مع أجهزة الأمن الفلسطينية التي خضعت لسيطرة عباس، في حينه لم يصدر أيّ تعليمات لمواجهة الإنقلاب، ولم يعلن حالة الطوارئ إلّا بعد إتمام سيطرة حماس على قطاع غزة، ولم تقم حركة فتح التي يرأسها بأي محاولة لحماية السلطة إلا في إطار جهود فردية محدودة خاضها بعض شباب حركة فتح، وترك فتح والسلطة وأجهزة أمنها مكشوفي الظهر، وتفرغ للخطابات في رام الله والوعود بإنهاء الإنقلاب!

وعود عباس بإنهاء الإنقلاب وإعادة قطاع غزة إلى الشرعية جاءت على شكل إجراءات واسعة وخطيرة في صفوف حركة فتح، عمليات فصل طالت عدد كبير من القيادات المهمة في حركة فتح، بدأت بالقيادي محمد دحلان الذي يحظى بشعبية كبيرة في أوساط الحركة، تعرف حجمها حركة حماس قبل محمود عباس، وتعلم أنه الرجل القوي في حركة فتح والسلطة، لهذا نسجت كل رواية إنقلابها على أكتاف هذا الرجل، وقد أعلنت أنه لا يوجد لديها مشكلة مع محمود عباس، وبإمكانه أن يمارس صلاحياته كرئيس من مقر الرئاسة في قطاع غزة، لتشترك حماس مع عباس في حملة تحريض واسعة بحق النائب دحلان حتّى وقت قريب، ليظهر جلياً أن الهدف المشترك عند الطرفين هو محاصرة دحلان إخراجه من كل النظام السياسي الفلسطيني وليس حركة فتح وحسب، وأن الإنقلاب الذي جرى لم يكن ردة فعل على تمرد بعض العناصر الأمنية ضد حكومة ترأسها حماس، بل في سياق مشروع أمريكي موّلته قطر وساعد فيه ما سمى في حينه ب"محور الممانعة"، وقاده محمود عباس لجملة أسباب أبرزها إستثمارات عائلته في إمارة قطر، وخشية من سؤال النائب دحلان في أولى إجتماعات اللجنة المركزية لحركة فتح عن مصير أموال الحركة ومنظمة التحرير الفلسطينية وصندوق الإستثمار الفلسطيني الذي وضع عنوة تحت تصرف الرئيس.

في موازاة ما فعله عباس مع معارضيه داخل فتح، لم يسلم الموالين له من إجراءاته التعسفية، بعضهم نزعت عنه صلاحياته التنظيمية، وغيرهم حلّت نقاباتهم، وآخرون حوصروا داخل المجلس التشريعي على أيدى قوى الأمن، بعضهم اعتقل بحجة "الفلتان الأمني"، وقطعت الموازنات المالية عن قيادة فتح في غزة وبعض الأقاليم في الضفة، وأقصى عشرات المناضلين من مراكز النفوذ والتأثير ليفسح المجال واسعاً أمام شريحة نفعية مرتبطة مصلحياً بدولة الإحتلال لتقرر في الشأن الفتحاوي والسلطة، بعضهم لا علاقة له بحركة فتح وقراره نافذ أكثر من قرار اللجنة المركزية لفتح ومنظمة التحرير معاً، وعاقب عدد من الشخصيات الفلسطينية خارج فتح، وحرم أحزاب مهمة في منظمة التحرير من موازناتها الشهرية لمجرد إعتراضها على موقف سياسي هزيل.

إذا ما قمنا بمراجعة مسيرة حكم محمود عباس، وربطنا تفاصيل ما جرى فلسطينياً مع ما يجري في الإقليم والعالم، وزياراته المتكررة إلى قطر وتركيا رغم معرفته بالدور الخطير في تكريس الإنقسام وتمويله، وصمته المطبق عن جولات المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس بوساطتهما، نجد أن الأمر ليس صدفة، وأنه يجري وفق خطة متدرجة لتسليم كل البلد في يد حماس، تفاوض الإحتلال مباشرة برعاية تركيا وقطر وبعض المبعوثين والوسطاء أمثال "توني بلير"، مفاوضات غايتها إحراز صفقة سياسية خطيرة، مضمونها أمن الإحتلال لقاء تحسينات إقتصادية في مناطق السلطة الفلسطينية، ودفن فكرة حل الدولتين إلى الأبد.

ما من عاقل يمكن أن يفهم إقدام عباس على إجراء الإنتخابات البلدية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتخلي عن فكرة المصالحة الشاملة لصالح هذه الإنتخابات في ظل أوضاع متردية تشهدها فتح وكل الحركة الوطنية الفلسطينية، وإعلان المفاجئ لحركة حماس بالموافقة عليها إلّا في سياق الإتفاق التركي الإسرائيلي، لإنتزاع الموضوع الوطني الفلسطيني من حاضنته العربية وتقديمه هدية أمام عرش السلطان أردوغان.

ليس غريباً ما صرح به نبيل شعت عن إجراءات ستطال من أسماهم ب "المتجنحين" سيتحالفون مع حركة حماس في الإنتخابات البلدية، هو في سياق خطة عباس لإعادة التوتير والصراع من أوسع أبوابه داخل حركة فتح، بعد نداءات عدد كبير من أبناء فتح لدخول الإنتخابات موحدين في قائمة تمثل تياراً وطنياً يمكنه أن يحرز نتائج متقدمة في الإنتخابات إذا ما تم تنظيمها، فالمقصود هنا بالضبط هو ما يرغب به محمود عباس، "وضع حركة فتح أمام الفرصة صفر في هذه الإنتخابات"، والفرار بغنيمته المالية إلى دولة يستقر فيها غالباً ستكون إمارة قطر.

يدرك محمود عباس أن المصالحة الفتحاوية والشاملة نتيجتها المباشرة إنتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية، حتماً سيكون هو أوفر الناس حظاً في السقوط إذا ما قرر مواجهة محمد دحلان أو مروان البرغوثي أو تحالف يجمعهما، فقد أرعبته إستطلاعات الرأي لدرجه دفعته إلى تسليم الجمل بما حمل للإخوان المسلمين وتركيا وقطر، صفقة مربحة له ولعائلته، تضمن عدم ملاحقته قضائياً واستعادة أموال الشعب الفلسطيني، وتبقى دحلان خارج النظام السياسي الفلسطيني وأي موقع رسمي يمكنه من فعل ذلك، وعلى مروان البرغوثي داخل الأسر، وتجعل من بقية الأحزاب الوطنية الأخرى أحزاباً هامشية، ويشاغل النظام المصري والعربي بحكم حماس في الأراضي الفلسطينية.

ما يجري إحاكته في الحالة الفلسطينية أمر بالغ الخطورة، هو ليس شأناً فتحاوياً أو فلسطينياً محض، بل يندرج بكل تأكيد في سياق كل التحولات التي تجرى في المنطقة العربية والعالم، فالقضية الفلسطينية كانت مركز اهتمام العالم وما زالت رغم تبدل الأولويات الدولية، جميع الحكومات في العالم تدرك أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو أصل الصراع في الشرق الأوسط، لهذا تسعى أمريكا وحلفائها لإغلاق هذا الملف بشكل مرضي لإسرائيل على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ومواجهة هذا المشروع الأخطر على القضية الوطنية، تستوجب نهضة أوسع من الحراك الفتحاوي الداخلي، وعملاً جديّاً فلسطينياً وعربياً لوقف مشروع تصفية القضية الفلسطينية ومنع كارثة أكيدة اذا ما قدر لمحمود عباس الإستمرار على رأس النظام السياسي الفلسطيني.

بقلم/ محمد أبو مهادي