إذا مرّت الانتخابات المحلية على خير وسلام، وجرت في أجواء حرة ونزيهة واحتُرِمت نتائجها، وتمكّنت المجالس المنتخبة من العمل من دون عراقيل، وهذا احتمال قائم يجب العمل حتى يكون هو الاحتمال الوحيد؛ فيمكن أن تفتح الطريق نحو الانتخابات العامة التي ستعبّر عن إرادة الشعب الفلسطيني وخياراته، شرط أن تكون ضمن رزمة تؤدي إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية. أما إذا جرت دون ذلك، أي في ظل الانقسام، فستكون قفزة في المجهول، وستكرّس الانقسام، وتساعد على تحويله إلى انفصال دائم.
بداية، لا بد من التفريق بين الانتخابات المحلية، بما تشمل البلديات والنقابات والاتحادات والجمعيات والمنظمات الأهلية والجامعات واللجان الشعبية في المخيمات ... إلخ، التي لا بد أن تجري بشكل دوري ومنتظم في كل الأحوال، وفي مختلف المناطق، وبين الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية وانتخابات المجلس الوطني التي يتطلّب إجراؤها توفر بعض الأسس التي من دونها ستكون خطوة لتكريس الانقسام الأسود مثلما حدث في الانتخابات السابقة التي فتحت طريق الانقسام.
قبل إجراء الانتخابات العامة، لا بد من تبني إستراتيجية سياسية ونضالية يفتح الاتفاق عليها الباب لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، على أن تتضمن الاتفاق على الهدف الوطني أو الأهداف التي يراد تحقيقها في هذه المرحلة، التي لا بد أن تتضمن إنهاء الاحتلال، وحق العودة، وتقرير المصير الذي يشمل الحق في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، والمساواة الفردية والقومية لشعبنا في أراضي 48، وهي أهداف يمكن أن يعتبرها البعض أهدافًا مرحلية، بينما يعتبرها البعض الآخر أهدافًا نهائية. ولنأخذ في هذا السياق النموذج الذي سارت عليه حركة المقاطعة (BDS)، التي تضم مختلف القوى والمؤسسات المجتمعية، إذ حددت الأهداف المذكورة مع إعطاء الحق لكل أصحاب الرؤى والاتجاهات الاحتفاظ بوجهات نظرهم حول التحرير الكامل أو الدولة الواحدة بمختلف أشكالها.
وبالفعل، إذا دققنا في الخارطة السياسية الفلسطينية، سنجد أن هناك إمكانية للاتفاق على برنامج الحد الأدنى الوطني (العودة والاستقلال والمساواة) من غالبية القوى والفصائل وأفراد الشعب الفلسطيني إذا تم الامتناع عن مطالبة الجميع بالموافقة على اتفاق أوسلو والتزاماته، وحتى يتحقق ذلك لا بد من تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفردية والفئوية والجهوية والعائلية والفصائلية، وتغليب الوطنية الفلسطينية على أي مشاريع، أو محاور، أو ارتباطات عربية أو إسلامية أو إقليمية أو دولية.
كما لا بد للإستراتيجية أن تشمل الاتفاق على أشكال العمل والنضال المناسبة، أي لا بد من الاتفاق على أن قرار السلم والحرب قرار لا يتخذه فصيل وحده أو حتى عدة فصائل، بل هو قرار وطني تتخذه مؤسسات الإجماع الوطني.
إن الاتفاق على المتطلبين السابقين يقودنا إلى أهمية الاتفاق على إقامة المؤسسة الوطنية الجامعة التي من المفترض أن تكون منظمة التحرير بعد إعادة تشكيل مؤسساتها، لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة وقواعد وأهداف العمل الوطني والديمقراطي، بالإضافة إلى ذلك، لا بد من الاتفاق على إعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها لكي تتحول من سلطة حكم ذاتي إلى سلطة وطنية ونواة تجسيد الدولة الحرة ذات السيادة. وإذا تعذّر ذلك فلتذهب السلطة إلى الجحيم، ولكن رحيلها في هذه الحالة لن يكون نوعًا من الانتحار السياسي، بل ستكون المنظمة برؤيتها الجديدة المستمدة من استخلاص العبر والدروس وبمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي؛ هي البديل الذي يمنع حدوث الفراغ الذي سيملؤه الاحتلال، أو التنظيمات الإرهابية التي تتغطى بالإسلام والإسلام بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
من يقول إن الانتخابات العامة هي الطريق الوحيد لإنهاء الانقسام أو للحسم من دون وحدة وطنية أولًا يدفع بحسن أو بسوء نية، بعلم أو بجهل، نحو تعميق الانقسام وتجدد الاقتتال، لأنه يتناسى أن فلسطين محتلة، وأن الاحتلال لاعب رئيسي يستطيع، ما لم تكن هناك وحدة وطنية، أن يتحكم بالانتخابات، من خلال عقدها أو عدم عقدها، والاعتراف بنتائجها أو عدم الاعتراف بها، وإلغاؤها بصورة جزئية أو جوهرية كما حدث بعد الانتخابات التشريعية السابقة، إذ قاطعت سلطات الاحتلال حكومة "حماس" وحكومة الوحدة الوطنية، واعتقلت عشرات النواب وبعض الوزراء، الأمر الذي عطّل عمل المجلس التشريعي، في حين لم تكن هناك الإرادة والإجراءات والقوانين المتفق عليها التي تحول دون قدرة الاحتلال على ذلك.
إن أهمية الاتفاق على قواعد العمل الوطني والديمقراطي المشترك ضرورة لا غنى عنها، لأن فلسطين تمر بمرحلة تحرر وطني، ولا بد من الاتفاق على قواسم مشتركة، فعلى سبيل المثل فإن مسألة مثل تبني المقاومة من عدمه ليس وجهة نظر قابلة للحوار، بل هي حق وواجب، أما الحوار فيكون حول أشكال المقاومة المناسبة في كل مرحلة، مع عدم إدانة أو تحريم أو رفض أي شكل من أشكال المقاومة التي تقرها جميع الشرائع الدينية والدنيوية. وكذلك الأمر بالنسبة للموقف من المسار السياسي المعتمد منذ اتفاق أوسلو، الذي جوهره الوهم بإمكانية التوصل إلى تسوية من خلال الاعتماد على المفاوضات الثنائية كطريق وحيد أو رئيسي، فهذا ليس مجرد وجهة نظر، بل خطأ فادح قاد إلى الكارثة التي نحن فيها، وسيقود إلى كارثة أكبر ستؤدي إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية حتى إشعار آخر. فهناك حاجة ملحة لمسار سياسي جديد مختلف جوهريًا عن المسارات المعتمدة (المفاوضات الثنائية والمقاومة المسلحة كخيارين أحاديين).
في ضوء ما تقدم، لا يمكن الذهاب نحو الانتخابات العامة قبل حسم مسألة التزام الفلسطينيين باتفاق أوسلو وبقائهم تحت سقف العملية السياسية التي أدت إليه، ويمكن أن تؤدي إذا لم يتم الخروج الكلي منها إلى ما هو أسوأ من أوسلو، مع أو من دون الاستمرار بالتهديد اللفظي بوقف المسار، والبقاء عمليًا أسرى قيوده المجحفة.
على الكل الوطني أن ينطلق بأن لا انتخابات حرة ونزيهة تأتي لتكريس الوضع الراهن وشرعنته، فالانتخابات شكل من أشكال ممارسة الحرية ولا حرية تحت الاحتلال. وتنبع أهمية إجرائها من مدى قدرتها على المساهمة في التخلص من الاحتلال، وأن تكون أداة من أدوات البرنامج الوطني.
إن الوحدة الوطنية على أساس القواسم المشتركة ضرورة لا غنى عنها، وهي لا تمنع التعددية والتنوع والمنافسة وحرية الاختلاف، ولكن في إطار الالتزام ببرنامج مشترك، ويمكن أن تكون الوحدة مصدر الشرعية إذا تعذر إجراء الانتخابات جراء رفض الاحتلال لإجرائها، وفي هذه الحالة، تصبح بصورة أكبر شكلًا من أشكال النضال لدحر الاحتلال.
مسألة أخرى لا بد من حسمها: هل بالإمكان في ظل المعطيات الحالية الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية تحقيق برنامج الحد الأدنى الوطني، أو حتى جزء منه، مثل الاستقلال أو العودة أو المساواة، أم أن أي إنجاز جوهري بحاجة إلى تغيير جدي في موازين القوى؟ وهذا يعني أنه بحاجة إلى وقت طويل، وأن الأهداف المباشرة للشعب الفلسطيني يجب أن تكون: الحفاظ على القضية الوطنية حية، وتوفير وتعزيز عوامل الصمود والتواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين، والحفاظ على ما تبقى من إنجازات ومكاسب، وإعادة الاعتبار للقضية بوصفها حركة تحرر وطني، وإعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل والمؤسسات الوطنية الجامعة، وتعزيز وإغناء الهوية الوطنية، ودحر المخططات الإسرائيلية التي تستهدف الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده.
إن هذا يقتضي إجراء عملية تجديد وتغيير وإصلاح شاملة في الفصائل الفلسطينية ومجمل النظام السياسي، على أساس بلورة رؤية جديدة، وإذا تعذر ذلك كما يبدو حتى الآن على الأقل، فإن هذا يفتح الطريق لقيام أحزاب وفصائل وحركات اجتماعية جديدة قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، وتوظيف الفرص المتاحة التي ستبقى قائمة بسبب عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي، وتمسك الشعب الفلسطيني بأهدافه، وإصراره على الكفاح من أجل تحقيقها مهما طال الزمن وغلت التضحيات، وبسبب اتضاح متزايد على المستوى العالمي، وخصوصًا لدى الرأي العام الدولي لحقيقة المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري الاحتلالي، واتضاح أن هناك خطرًا متزايدًا تمثله السياسة الإسرائيلية على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، وأن هناك نقاط ضعف كبيرة لدى إسرائيل يمكن أن تحيّد عناصر قوتها المتفوقة إذا أحسن الفلسطينيون الاستفادة منها والكفاح ضدها.
هاني المصري
2016-07-26
[email protected]