فقدت فلسطين أحد أبنائها البررة، الوطني الكبير/ جرار نعمان القدوة، (أبو مريد) رجل المروءة، رئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية الأسبق، ولا بد من كلمة حق انصافاً لتاريخ رجل حارب الفساد بكل أشكاله أحبه البعض وكرهه البعض الآخر، فبعد تخرجي في صيف 1998م عيّنت مفتشاً في هيئة الرقابة العامة التي آلت أخيراً إلى ديوان الرقابة المالية والإدارية، وكان رئيسها رجلاً من خيرة الرجال، يُدعى جرار نعمان القدوة، ذكاؤه حاد، وهو دوماً في سباق مع الزمن، لأن لا وقت لديه يضيعه، كل شيء يجب أن يتم في حينه، إذ لا يجوز تأجيل عمل اليوم إلى الغد، وشعاره كن فيكون. عاملني أحسن معاملة، وكنت عند حسن ظنه بي، إذ قمت بعملي خير قيام، وحققت فيه نجاحاً مرموقاً، وأثبت للجميع مقدرة ومثابرة وإخلاصاً في العمل.
عملت تحت إدارة الأستاذ جرار القدوة ثماني سنوات إلى أن أُحيل للتقاعد في فبراير 2006، وعرفته عن قرب مثالاً نموذجاً يُحتذى به في الالتزام والانضباط وقول الحق، وفي كلمة موجزة كتبتها وألقيتها في حفل تكريمه لإحالته للتقاعد بتاريخ 16/2/2006 ومما قلته فيه: (نحتفل اليوم بيوم الوفاء لرجل وضعت بين يديه الأمانة فحافظ عليها.. نادى بالإصلاح في وقت لم نسمع فيه إلا صدى صوته.. فلا عجب إذا نظر إليه الجميع نظرة التقدير والاحترام، لما له من بصمة واضحة في عمل الخير انطبعت في نفوسنا، فمدرسة جرار القدوة، وجمعية أصدقاء المريض، ومشفى العيون، والمدارس الشرعية، ودعم الجامعات والطلبة والمرضى.. كل ذلك ليس عنا ببعيد.. نودع في هذه اللحظة هذا الرجل الوفي ونقول له: إن الله سوف يجزيك من عنده خير الجزاء، وإن هذا الشعب عامة، وهذه المؤسسة خاصة لن تنساك أبداً..).
وأحب أن أشير بأن علاقتي معه لم تكن مبنية على المصلحة، وإنما هي علاقة صداقة ومحبة أخوية نابعة من تقديري للصفات والشمائل التي تميز بها، وفي مقدمتها حبه لوطنه وسخاؤه في الأعمال الخيرية والإنسانية، رغم أنه لم ينصفني وزملائي في ديوان الرقابة في الترقية طيلة عملي معه ثماني سنوات.
كان جرار القدوة، من قادة حركة الإصلاح في فلسطين - إن صح أن نسميها حركة - والغارسين لبذورها، يقول ما يجول في ذهنه بصراحة تتخطى المألوف، وكان يتمتع بمصداقية لدى الجميع، واستطاع أن يجعل من ديوان الرقابة المالية والإدارية عنواناً كبيراً يعرفه الجميع، فلم يتخذ من منصبه سبيلاً للثراء والجري وراء زخرف الدنيا على نحو ما تردى فيه نفر من معاصريه، ما جعله في مركز الصدارة بين عظماء المصلحين عن جدارة وقوة، لذلك كان رأيه في الأمور كلها صائباً مفيداً عندما يعطيه، وأثبتت الأحداث صدقه بما اشتمل عليه من فراسة وبعد نظر منقطع النظير.
ولقد ترك لنا جرار القدوة مدرسة فريدة وتراثاً رائعاً لا ينهض به إلا رجل يعيش عيشة الصالحين المنقطعين للعبادة عن طريق العمل، فقد تعلمت منه الكثير، وحري بي أن أقول في هذا الوقت العصيب الذي تمر به مدينة غزة من ظروف صعبة وحصار جائر: لو رأت آماله بعض النور، وسار قادة السلطة الفلسطينية قبل حزيران 2007م إلى تحقيق ما كان يدعو إليه من أهداف سامية ومبادئ نبيلة في الحفاظ على قدسية المال العام، لكان من شأنها أن تأتي بثمار خيرة، وتخفف من سوء النتائج التي حصل الغزيون عليها بعد أحداث 2007م، ولما وصل حالنا إلى هذا الحال، وهذا ما يدفعني إلى القول مع الشعور بعظم المسؤولية، مسؤولية الضمير والوجدان ومسؤولية المستقبل أن السلطة الفلسطينية لم تكن تحاسب أحداً من المتورطين في قضايا فساد، وكان الرئيس الراحل ياسر عرفات مشغولاً بهمومه السياسية مع إسرائيل، وتوطيد أركان السلطة في أرجاء الوطن، ولهذا كانت بطانته يؤلفون طبقة قوية من الرجال الفاسدين، وغير معنية بمصلحة المواطنين ويتطلعون فقط للإثراء الذاتي على حساب المصلحة الوطنية العامة.
ومن أبرز علامات ودلائل وجود الفساد تفشّي ظاهرة المحسوبية والقرابة في التعيينات والترقيات واستغلال وإساءة استعمال السلطة، وما ترتب على ذلك من إهدار المال العام، وإفراغ المناصب القيادية من مضمونها من خلال تعيين أشخاص غير مؤهلين لتولي زمام الأمور، وترقيتهم بطرق مخالفة للقانون، وكان من بينهم عدد كبير من أبناء وأقارب مسؤولين ووزراء، ما يعكس حجم استغلال الصلاحيات الممنوحة لهؤلاء المسؤولين، وإعطاء صورة سيئة عن أداء ومصداقية السلطة الفلسطينية لدى الشارع الفلسطيني.
وماذا أقول عن المال الذي يذهب هدراً على شكل رواتب لا يتقاضى مثلها أبناء الخليج؟ ورواتب لمن هو لا يؤدي عملاً، ولمن هو في الخارج ويعمل عملاً آخر؟ ولمن لا يزال يدرس في الخارج؟.. ألخ، والناس هنا لا تجد قوتها ليومها في مقابل ذلك تدني مستويات الأجور لدى قطاعات حيوية في المجتمع الفلسطيني مثل قطاع التعليم والمعلمين، وكانت آفة الآفات الضارة التي علقت بالحالة الفلسطينية ما اصطلح على تسميته (الإثراء بلا سبب) لبعض قادة السلطة، وتفشّي ظاهرة الفلتان الأمني، وبروز ظاهرة التحول من المنح إلى القروض التي تثقل كاهل الأجيال القادمة، وعدم الأخذ بملاحظات ديوان الرقابة المالية والإدارية، وتخصيص أراضٍ لمسؤولين كبار كـ (إنعاميات)، بينما كان عامة الناس يسحقون، ظلت هذه الطبقة تزداد غنى وثراء وجاهاً، وأبناء الشعب يتضورون جوعاً. هذه العلامات والدلائل أساءت للشعب الفلسطيني في المقام الأول، وكان الثمن الباهظ الذي دفعته السلطة وحركة فتح خسارتهما في الانتخابات التي جرت في العام 2006م، حيث رغب الناس في حدوث التغيير والإصلاح، ولكن خاب ظنهم!!.
وحسبه تعريفاً أن (الأستاذ جرار القدوة) ولد في مدينة خان يونس عام 1921، وأنهى دراسته الأولية حتى الصف الثاني الثانوي في المدرسة الرشدية بغزة عام 1939، ولظروف الحرب العالمية الثانية اضطر إلى السفر إلى القاهرة لإكمال دراسته الثانوية، وحاز عليها عام 1940، ثم التحق بكلية الآداب في (جامعة فؤاد الأول- القاهرة الآن)، ودرس اللغة العربية واللغات السامية، وتخـرج منها عام 1945، وبدأ حياته العملية بعد التخرج مباشرة في حقل التعليـم مدرساً لمدة ثلاث سنوات في مدينة غزة، ثم عـاد إلى الجامعة لتحضير الماجستير عام 1948، ووقعت كارثة فلسطين مما أدى إلى عدم استكمال الدراسة.
سافر الأستاذ جرار القدوة إلى المملكة العربية السعودية، وعمل في الحكومة والشركات التي كانت تعمل في حقل الأشغال العامة مع الحكومة السعودية، كما عمل بضع سنوات في الترجـمة، ومديراً للمحاسبة وجداول الرواتب في شركة بكتل العالمية في الرياض في الفترة من عام 1949 وحتى عام 1959، وعمـل في ستي بنك Citibank عام 1959، ووصل فيه إلـى درجة مدير عام General Manager عام 1975، ونائب رئيس البنك Vice President عام 1977، ثم ارتقى إلى ضابط أعلى الائتمان Senior Credit Officer عام 1983، وهي أعلى رتبة وصلها أي عربي في ستي بنك خلال 180 سنة من حياة البنك، وأصبح عام 1980 أحد مؤسسي البنك السعودي الأمريكي عند سعودة البنك. واستمر في ذلك الموقع، وأُعْطيَ صلاحية منح تسهيلات حتى خمسين مليون دولار إلى أن استقال عام 1988 بعد أن قضى في البنك ثلاثين سنة من حياته.
انضـم الأستاذ جرار القدوة إلى تنظيم فتح عام 1962، وعلى إثر حرب عام 1967 وتشكيل اللجنة الشعبية لرعاية أسر شهداء ومجاهـدي فلسطين في الرياض برئاسة سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز (الملك حالياً) رشحته فتح لعضوية اللجنة، واختارته اللجنة بالإجماع أميناً للسر ومديراً لمكتبها حيث قضى في هذا الموقع متطوعاً أربعة عشر عاماً، كما اختاره المجلـس الثوري المنعقـد في تونس عام 1989 لرئاسة لجنة الرقابة المالية لفتـح بأغلبية 96%.
عـاد الأستاذ جرار القدوة إلى أرض الوطن في أواخر عام 1995 مع قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، وعُيّن رئيساً لهيئة الرقابة العامة في ديسمبر 1995 والتي آلت إلى ديوان الرقابة المالية والإدارية، كما عين أميناً لسر لجنة الإشراف على سلطة النقد، بالإضافـة إلى ذلك عين عام 1996 محافظًا لفلسطين في البنك الإسلامي للتنمية بجدة. ومثَّل فلسطين في كل اجتماعات اللجنة الإدارية والمجلس الأعلى لصندوقي الأقصى والقدس، وطرح رؤية حقيقية ومسؤولة حول علاقة السلطة الوطنية الفلسطينية بالبنك الإسلامي؛ وأشرف على عملية التمويل وتنفيذ كل المشاريع التي أقرها ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية في مؤتمر القمة العربي الذي عقد في 22/11/2000، فقد قرر مؤتمر القمة اعتماد اقتراح صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية في حينه بتقديم مليار دولار أمريكي لمساعدة الشعب الفلسطيني من خلال الصندوقين.
كان المرحوم الأستاذ جرار القدوة سباقاً إلى عمل الخير، فقام ببناء مدرسة جرار القدوة في خان يونس من ماله الخاص، وترجم ونشر ووزع مجانًا (خطة الصهيونية للشرق الأوسط، ووزع بالتعاون مع مركز معلومات الأمن القومي كتابًا يقع في 422 صحيفة من مقالات السيد محمد حسنين هيكل التي تحدث فيها عن "فلسطين والصهيونية والشرق الأوسط").
توفي الأستاذ جرار القدوة إلى رحمة الله تعالى صباح يوم الأربعاء الموافق 27 تموز/ يوليو 2016م، وله ولدان وبنتان وهم: (مريد، مهند، عايدة، هالة)، تخرجوا جميعاً من جامعة الرياض، وجامعة لندن.
بقلم الكاتب/ نعمان فيصل