■ تتهم إسرائيل الفلسطينيين بأنهم يمارسون الإرهاب ويحرضون على العنف ويعبئون الشارع ضد دولة إسرائيل. والمعنى المقصود هو أن على الفلسطيني أن يبقى صامتا إذا قتل أو جرح أو سجن أو هدم بيته كي لا يتهم بأنه يحرض ضد الاحتلال. فإذا كان التحريض ماديا، مثلا بسكين أو عصا، فهو إرهاب، وإذا كان بالشعر والأغنية والهتاف وتكريم الشهيد وإطلاق اسمه على أحد الشوارع فهذا تحريض لئيم، ومن حق إسرائيل أن ترد على السكين بمدفع وعلى الأغنية برصاصة وعلى السيارة المسرعة بقذيفة. مطلوب من الفلسطينيين، حسب قوانين الكيان الغريب، أن يخضعوا ويستسلموا ويكتموا غيظهم. ممنوع عليهم أن يذرفوا الدموع على الشهداء وممنوع عليهم أن يدبجوا القصائد في رثائهم وممنوع عليهم أن يسيروا في جنازاتهم وممنوع عليهم أن يخلدوا أسماءهم في الشوارع والساحات لأنهم في عرف نظام الفصل العنصري "إرهابيون" ويجب أن يوصفوا هكذا.
وأود في هذا المقال أن أقدم نموذجين للممارسات الإسرائيلية العديدة التي تعمل على قهر الفلسطيني وتجريده من حقه في العيش الكريم. أريد أن أصف لا أن أحرض. وسترى أن وصف الحدث نفسه مدعاة لتحريض الأمة كلها دون إضافة رتوش أو تحسينات لغوية أو بلاغية. كل ما تحتاجه كاميرا أو ذخيرة من الكلمات لوصف الحدث ونقله بأمانة للقراء لتنهال التداعيات تلقائيا حول ما ترتكبه إسرائيل من جرائم بشعة لا مثيل لها في التاريخ المعاصر على مرأى ومسمع المجتمع الدولي المنافق الذي بدأ يتبنى الرواية الإسرائيلية تماما.
في بيت الشهيد الطفل محي الدين الطباخي ـ الرام
بلدة الرام قريبة من بلدتي وتلتصق بمخيم قلندية وعلى أراضيها يوجد معبر قلندية الذي يشبه نقطة حدود دولية. على الحاجز اللئيم يقف الفلسطينيون ساعات للمرور إلى القدس. وقد تحول برج المراقبة فيه إلى نقطة احتكاك خطيرة حيث يتمركز فيه قناصون يراقبون أي حركة قد تفسر على أنها مشبوهة لإفراغ الرصاص. وقد أثارت جريمة قتل الشابة الحامل مرام إسماعيل (23 سنة) وأخيها صالح طه (15 سنة) في أبريل/نيسان الماضي ضجة كبرى لأن إطلاق النار لم يكن مبررا، وترفض إسرائيل إلى اليوم تقديم شريط إطلاق النار إلى المحكمة. كما أن الحاجز أطلق النار يوم 13 يوليو/تموز على أنور سلايمة الساعة الرابعة صباحا وهو يسوق سيارته بحجة السرعة. جدار الفصل العنصري طوق البلدة تماما من جهتها الغربية قاطعا كل صلة بينها وبين قرى بير نبالا والجيب وعدد كبير من القرى والبلدات حيث كانت الرام مركزا تجاريا لأكثر من 16 قرية. بناء الجدار متواصل من الجهة الشرقية بعد أن تم إنجاز الجهة الجنوبية. وعند اكتمال البناء يطبق الجدار على البلدة من ثلاث جهات متصلة بالقدس تاركا الجهة الرابعة لربط الرام بالضفة الغربية. من الجهة الشرقية تقف وحدة جنود لحماية عمليات بناء الجدار. كل فرد فيها يده على الزناد جاهز لإطلاق النار وأسهل الحلول لديه القتل. في اليوم الذي وصلت فيه 20 يوليو/تموز شيع الطفل محي الدين الطباخي ابن العشر سنوات إلى مثواه الأخير شهيدا. إسرائيل ادعت أنه كان يرمي الحجارة. أحببت أن أطلع بنفسي على تفاصيل الحادث. فتوجهت إلى رئيس المجلس البلدي لبلدة الرام الأسير المحرر "علي مسلماني" الذي قضى 32 سنة في السجن والذي اصطحبني بدون تردد إلى بيت والد الطفل محمد صدقي الطباخي. أردت أن أسمع من الأب ومن إخوته وأخواته لأتأكد ما إذا كان يرمي الحجارة على الدورية المتمركزة خلف الجدار أم أن الحقيقية غير ذلك.
معاذ أخو محي ابن الخامسة عشرة قال لي "إنظر إلى تلك الصخرة قرب الجدار. هل ترى الجندي الجالس على الكرسي؟ من هناك أطلق النار على محي الدين بدون أي سبب. كان في طريقه لشراء الخبز. أطلق عليه رصاصة مطاطية اخترقت القلب. حاول في البداية أن يهرب لكنه سقط على الأرض. اتصلت بأبي وقلت له لقد أصيب محي. لحقنا بسيارة الإسعاف إلى رام الله لنجد أن أخي الذي أنهى الصف الرابع الإبتدائي قد فارق الحياة. لقد جفت الدموع في عيوننا. ونحتسبه شهيدا عند الله".
الوالد محمد صدقي أقسم بالله أن محي لم يكن يرمي الحجارة. "هذا طفل ذكي. عمره العقلي سابق لعمره الزمني. محبوب من قبل الجميع وخاصة في المدرسة. معلموه بكوا دما عليه. الجيران يحبونه. عاشق لدراجته ويعتني بها ويتجول عليها في البلد. أما فرسه "سمر" فقد كان بينها وبينه صداقة وحب ورفقة. كان يركبها دون لجام. تعرفه، تحبه، وتدللــه. عند استشهادة صهلت صهيل المفجوع". أقسم الوالد أن الفرس أصيبت بما يشبه الجنون. دمعة تجمدت في عيون "سمر". بحثت عنه وصهلت. ضربت الأرض برجليها. "كنت يوم استشهاده في نابلس إتصلوا بي وقالوا لي إن محي أصيب. كانوا يخشون علي فأنا مصاب وقد قضيت خمس سنوات في سجون الاحتلال. عندما وصلت مستشفى رام الله وجدته قد استشهد. كل شيء في البيت يذكرنا بمحي. أشياؤه الصغيرة، كراساته، حقيبة مدرسته. الكل بكى عليه. مدرسة الرام الإبتدائية شاركت في الجنازة. إخوته لا يصدقون. أمه نقلت إلى المستشفى 3 مرات. قتل بدون سبب. بدون مبرر. إنظر هنا. رصاصة اخترقت شباك البيت ولم نصلحه بعد. المواجهة متواصلة لكن من طرف واحد. لمن نشكو ولمن نتوجه بمآسينا؟ تزايد الفصائل فيما بينها وتصنف كل شهيد لهذا الفصيل أو ذاك. ابني أصغر من أن ينتمي لأي فصيل، وأصغر من أن يؤذي أحدا حتى لو حمل حجرا وهو لم يحمل. لا أريد أن يصوره أحد على أنه بطل خارق بل طفل بريء. صورة الجندي الذي قتل ابني معي واحتفظ بها وسأقدم شكوى حتى لو لم استفد من ذلك. عليهم أن يعرفوا أننا لن نصمت".
محبة وملك أختا محي تحدثتا عن ذكرياتها معه، وقالت محبة (12 سنة) إنها كانت تلعب مع أخيها وكان يركبها خلفه على الفرس ولم يكن يستخدم اللجام. قالت إنها بكت عليه كثيرا في البداية لكنها تجملت بالصبر عندما علمت أن الشهداء لا يموتون بل "أحياء عند ربهم يرزقون".
وأسال هل جريمة بشعة مثل هذه بحاجة إلى بلاغة أو كلمات قوية لتحريض الناس؟ وهل من محرض ضد هذا الكيان أكثر من الجرائم التي يرتكبها صباح مساء؟
مجزرة هدم البيوت في بلدة قلندية
هناك بلدة أصلية تابعة لمحافظة القدس تحمل اسم قلندية. بعد عام النكبة 1948 أقيم مخيم كبير للاجئين الفلسطينيين يدعى مخيم قلندية سأعود للحديث عنه في مقالات لاحقة. كان في قلندية مطار أيام الحكم الأردني، وكان مسافرو الضفة الغربية يطيرون منه إلى عمان وبيروت ودمشق والقاهرة. بعد عام 1967 تحول المطار إلى استخدامات إسرائيل العسكرية والأمنية. عدد سكان القرية لا يتجاوز الألف نسمة. ظروفها صعبة ومساحة أراضيها لا تتجاوز أربعة آلاف دونم.
يوم الإثنين 25 يوليو/تمووز قامت قوات الاحتلال بهدم 12 منزلا مرة واحدة تشمل 31 طابقا ويسكنها نحو 250 مواطنا. تصدى الأهالي للجرافات المرافقة بقوة كبيرة من الجيش فاعتدى الجيش على الأهالي وأصاب سبعة منهم على الأقل بالرصاص المطاطي من بينهم رئيس المجلس البلدي يوسف عوض الله.
الحجة التي ساقها الاحتلال أن المنازل قريبة من الجدار وغير مرخصة. وقد تم تسليم إنذارات الهدم قبل أربع ساعات فقط من التنفيذ "فماذا يمكنك أن تأخذ من بيت العمر في أربع ساعات؟" قال أحد الذين هدم بيته.
الحقيقة أن الجدار الذي اقترب من البيوت وليس العكس فكيف يهدم السابق بدل تغيير مسار اللاحق. لكن الحقيقة كما أخبرني نائب محافظ القدس، عبد الله صيام، أن هناك نية إسرائيلية لبناء مستوطنة كبرى تضم أرض مطار قلندية وجزءا من أراضي القرية. وقال إن مطار قلندية يستخدم الآن لإنتاج محركات الطائرات المروحية ويتم اختبارها في أرض المطار.
أقيمت خيمة للاعتصام قرب البيوت المهدمة وقد جلست معهم واستمعت إلى رواياتهم وقهرهم وغضبهم. رئيس المجلس البلدي، يوسف عوض الله، أكد أنه تعرض للضرب المبرح نقل على أثرها للمستشفى وعاد للتضامن مع أبناء بلده. التقيت في خيمة الاعتصام مع العديد من أهالي البلدة وأصحاب البيوت المهدمة وعدد من المتضامين الأجانب. الدكتور مصطفى برغوثي، رئيس المبادرة الوطنية الفلسطينية ومرشح الرئاسة السابق قال في كلمة في الخيمة "إن الكلمات عاجزة عن نقل معاناة الناس الذين فقدوا بيوتهم. والمهم ليس الكلمات بل ما العمل؟ هذه عدو مجرم يريد أن يكرر ما حدث عام 1948 وهو تهجير الناس. يعتبرون أن 62 في المئة من الضفة الغربية المسماة المنطقة جيم لهم، وخاصة منطقة القدس وضواحيها مثل قلندية والعيسوية وسلوان. لكن حجم مجزرة هدم البيوت في قلندية غير مسبوقة. أنا واحد منكم واعتبروني جنديا معكم. ويجب أن نطلق حملة إعلامية وقضائية وسياسية كبيرة بغرض وقاية مناطق أخرى من الهدم. إن سكتنا سيتمادون في الهدم. كل بيت يهدم يجب إعادة بنائه".
رئيس المجلس أكد أن البلد تقف وقفة رجل واحد. و"سنعد ملفا حول المجزرة لتقديمه للدوائر المختصة، وسيتم توثيق ما حدث بالتفصيل. الجميع وقف معنا. لكن نريد أكثر، نريد إعادة بناء البيوت وإعادة سكانها إليها".
"أتعرف ما معنى أن يهدم بيتك؟"، قال أحد الحاضرين؟ "أتعرف أن وراء كل بيت قصة وعائلة وأطفالا وكفاحا لتأمين عيش كريم؟"
البيت بالنسبة للفلسطيني وطن وأرض وذاكرة وتقاليد وعادات ورزق وأطفال ومستقبل واستمرارية وهوية. الموت أسهل من هدم بيت وتشريد أهله وتدمير أي أمل في حياة طبيعية. يفرح الفلسطيني مرتين عند الزواج وعند استقراره في بيت يملكه، والفرحتان تعبران عن الهوية والاستمرارية والصمود. يأتي هذا السفاح البولوني أو الإثيوبي ويقرر هدم 12 بيتا مرة واحدة واقتلاع 250 مواطنا من أرضهم وذكرياتهم ومستقبلهم. هل هناك جريمة تعادل هذه الجريمة؟
هل هناك تحريض أكبر من هذا؟ هل يحتاج الفلسطيني الذي فقد ابنه أو سجن والده أو هدم بيته أو صودرت أرضه مصدر تحريض أكثر.
إن أكوام الحجارة التي خلفتها الجرافات الإسرائيلية في بلدة قلندية تجرح قلبك، تفرغ فيك مليون شحنة غضب، تثير فيك قهرا لا حدود له وتتمنى لهذا العالم المنافق الذي يتهم الضحية ويسمي رفضه للاحتلال إرهابا أن ينهار على رؤوس المجرمين وحماتهم من دول النفاق الغربية وامتداداتها في المنطقة العربية.
د. عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز