الغائب الأكبر في حديث الناس في فلسطين المحتلة موضوع البوصلة الوطنية التي تحدثنا عنها في مقالات سابقة. لا أحد يتحدث عن تقرير المصير أو الدولة التي وعدنا بها الأوسلويون. اختفت من أحاديث الناس عبارات وجمل شهيرة كانت ترددها الأجيال مثل "الجبل الذي لا تهزه الريح" أو "الشبل الذي سيرفع العلم الفلسطيني فوق مآذن القدس وأجراس كنائسها"، "شاء من شاء وأبى من أبى".
واختفى الحديث عن الإستراتيجية التي ستعلن عنها القيادة وهي تتوجه إلى الأمم المتحدة غير آبهة بالتهديدات والضغوط. واختفى الحديث عن المحكمة الجنائية الدولية وجرائم الحرب التي ارتكبها الكيان الصهيوني في حروبه على غزة. واختفى الحديث عن التفاوض الذي سيؤدي "للتوصل إلى حل يقود وعلى الفور إلى قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف على كامل الأراضي التي احتلت عام 1967 وإلى حل عادل لقضية اللاجئين وفق القرار 194 كما نصت عليه مبادرة السلام العربية" كما قال الرئيس عباس.
لم يعد أحد يهتم بخطاب الرئيس المقبل في الدورة الواحدة والسبعين للجمعية العامة وما إذا كان هناك قنبلة سياسية سيتم تفجيرها هذه المرة بعد أن وُعدنا بتفجير قنبلة في الدورة السبعين الماضية تتمحور حول التنصل من اتفاقيات أوسلو وإنهاء التنسيق الأمني، وإذا بالوعود تنتهي على "فاشوش" بعد قليل من الضغط الأمريكي. ودعني آخذ القراء في جولة سريعة على أهم ما يتداوله الناس هذه الأيام في الشارع الفلسطيني أي في المقاهي والجلسات الخاصة واللقاءات والندوات ومواقع التواصل الاجتماعي والصحافة وجلسات الأصدقاء.
ـ جماعة ميري كريسماس والإساءة للنسيج الاجتماعي الفلسطيني التعليق الذي أدلى به جبريل الرجوب، المكلف بملف الرياضة، لمحطة مصرية ثم أعاد بثه تلفزيون فلسطين ووكالة "وفا" الرسمية الذي قال فيه "حتى جماعة ميري كريسماس جزء منهم صوتوا لحماس الذين لم يجلبوا لفلسطين إلا الدمار والخراب"، انتشر في فلسطين وخارجها كالنار في بيادر القش الجاف. لم يبق معلق أو كاتب أو قهوجي أو سياسي أو سائق سيارة عمومي بدون أن يدلي بدلوه في الموضوع. الكل يسأل كيف يتجرأ من يعتبر نفسه أحد قادة الشعب الفلسطيني (مع تحفظنا على تعريف القيادة) بالإساءة إلى الشعب الفلسطيني عامة والمكون المسيحي الأصيل خاصة. "المسيحيون في فلسطين ليسوا جماعة"، قال تنظيم فتح في بيت لحم. "لم يكن المسيحيون طائفة أو فئة أو جماعة، بل أصحاب هذه الأرض شركاء الدم والوحدة والقرار حاملي راية فلسطين والنضال في كل المراحل". المسيحيون مكون أساسي من مكونات الشعب الفلسطيني يفتخر بما قدمه من قيادات ومناضلين وشهداء وسياسيين وكتاب ومثقفين وشعراء. الشعب الفلسطيني كان يوما كله مسيحيا. بعضهم آثروا أن يبقوا على دينهم حينما جاء الإسلام إلى هذه الديار، لأن الإسلام بكل بساطة لم يجبر أحدا على تغيير دينه ولم يهدم كنيسة ولم يحطم تمثالا. "نحن كلنا مسيحيون عندما يتعلق الأمر بالنسيج الوطني" كتب أحدهم على صفحته في الفيسبوك. أحد سياسيي فتح المتقاعدين قال "هذه ليست زلة لسان". فلماذا يتجاهل الرئيس عباس هذا التصريح الذي يعتبر إساءة كبرى لتاريخ الشعب الفلسطيني. وقالت إحدى الكاتبات في مقال لها إن عباس لن يعتذر ولن يقرّع الرجوب لأن الأخير وصفه في المقابلة نفسها بأنه "آخر العمالقة". الأب عطا الله حنا استنكر هذا التصريح وقال على صفحته: "إننا نعرب عن استنكارنا ورفضنا وتنديدنا بهذه التصريحات التي لا تسيء فقط للمسيحيين الفلسطينيين، بل لكل الشعب الفلسطيني الذي تميز دوما بوحدة أبنائه. المسيحيون الفلسطينيون ليسوا بضاعة مستوردة من الغرب ولم يؤتَ بهم من هنا أو هناك. فالحضور المسيحي في فلسطين له تاريخ مجيد وعريق يفتخر به كل أبناء الشعب الفلسطيني مسيحيين ومسلمين. نحن فلسطينيون وننتمي لهذا الشعب المناضل من أجل حريته وكرامته واستعادة حقوقه". الرجوب بعد كل هذه الانتقادات الحادة صرح على شاشة نيوز "بأن الموضوع لا يستحق هذه الضجة وليس له أي معنى ومفتعل".
ـ يتداول الناس قصة العودة المحتملة لمحمد دحلان عضو اللجنة المركزية لحركة فتح والقائد السابق للأمن الوقائي. وتقول الشائعات المنتشرة بشكل واسع إن دحلان يصرف ملايين الدولارات على أنصاره وأتباعه وتنظيمات تابعة بولائها له شخصيا. ويتداول الناس قصص الضغط المصري الأردني السعودي الإماراتي على الرئيس محمود عباس للمصالحة مع دحلان بل وتهديده بضرورة المصالحة وإلا… هذه الضغوط يبدو أنها من الحجم الثقيل، الأمر الذي جعل عباس يئن تحت وقعها فيعلن في خطاب أنه لا يأخذ أوامره من العواصم. وقد كرر كلمة عواصم عدة مرات دلالة على أنه ممتعض من أكثر من عاصمة.
ويبدو أن القيادة السيسية في مصر غاضبة على عباس حيث أوعزت لإحدى الصحف بمهاجمته في مقالين لاذعين، وهو ما يذكرنا باستضافة قناة دريم لدحلان لمدة أربع ساعات متواصلة للهجوم على عباس، فما كان من عباس إلا أن عقد جلسة لبقايا أعضاء المجلس التشريعي وألقى خطبة عصماء ضد دحلان واتهمه بالعديد من التهم ومنها التآمر على حياة ياسر عرفات.
والسؤال الذي يلقيه كل من يتحدث عن عودة دحلان إلى الساحة، ما هي الجهة التي تريد لدحلان أن يعود رئيساً؟ وما هي أجندة الرجل إن عاد فعلا وأصبح رئيس سلطة "تستطيع مجندة إسرائيلية أن تمنعه من التحرك" على حد قول عباس؟
البعض يعتقد أن هناك طبخة إقليمية. تقوم على الخيار الأردني الذي يلغي مرة وإلى الأبد موضوع قيام الدولة المستقلة ويكون دور رئيس السلطة إدارة الكانتونات والتجمعات السكانية الفلسطينية وربطها مع الأردن. وتقوم هذه المبادرة على أساس رؤية نتنياهو- ليبرمان "السلام مقابل الاقتصاد" أي تحسين الأوضاع الاقتصادية وتسهيل الحياة اليومية للناس وتبسيط عملية الخروج والدخول من وإلى الأردن. وهنا يأتي دور المصرفين السعودي والإماراتي لدفع فاتورة الإنعاش الاقتصادي للضفة وغزة (بعد سقوط أو طرد حماس) نيابة عن إسرائيل. أما القدس فلا حقوق فيها إلا الصلاة في الحرم الشريف، وربما في أيام معينة فقط مثل الحرم الإبراهيمي. تنفيذ هذا البرنامج يحتاج لرجل مدعوم أمريكيا وإسرائيليا ولا يخشى من تقديم كل هذه التنازلات على مدى الأربع سنوات المقبلة خلال فترة رئاسة أحد أقرب أصدقاء إسرائيل في البيت الأبيض، كلينتون أو ترامب، لا فرق عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
ـ "كل موظفي السلطة يجب أن يصوتوا لفتح " قال أحد قادة حزب السلطة. والمعنى لا يحتاج إلى توضيح. تصوت لمن يدفع راتبك. ليس لك رأي. والانتخابات فقط لتغيير أو تعديل أو إعادة المجالس البلدية التي أصلا أعفت الاحتلال من تلك الخدمات بعد أن جاء الأوسلويون إلى الوطن المحتل للقيام بمهة واحدة ذات وجهين مختلفين: مهمة أمنية موجهة لإسرائيل ومهمة وطنية يطالب بها الفلسطينيون، وهي قيام دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف. إسرائيل كانت تتوقع الأمن المطلق والفلسطينيون ينتظرون الدولة وقد فشلت السلطة في تنفيذ المهمتين. فلم تتمكن من ضبط غضب الفلسطينيين وقدرتهم على رفض الاحتلال ومقاومته والتغني بالبطولات وتكريم الشهداء وفشلت في إقامة الدولة المستقلة مما زاد منسوب الإحباط والقهر لدى الشعب الفلسطيني وأدى إلى إسقاط فتح عبر صناديق الاقتراع عام 2006 وانتخاب حماس، ليس حبا في زيد بل نكاية في عمرو. الانتخابات المقبلة (قررت المحكمة العلى تأجيلها)، على محدوديتها، ستشهد تنافسا بين الفتحاويين أنفسهم ثم هؤلاء سيتنافسون مع جماعات حماس المنضبطين لفكر حسن البنا وسلالاته المتعاقبة. هناك قائمة ثالثة للفصائل الوطنية الاخرى مثل الشعبية والديمقراطية وجبهة التحرير الفلسطينية وجبهة التحرير العربية والتي بالكاد تمثل خمسة بالمئة من الأصوات. أما الجهاد فلا تدخل الانتخابات لانها ترفض من حيث المبدأ العمل تحت سقف أوسلو وترى أن الاحتلال يواجه بالمقاومة. وللعلم فإن الريف الفلسطيني الذي يشكل غالبية سكان فلسطين تنتصر العشائرية على السياسة وإذا تركت عائلة بدون تمثيل أو بتمثيل فيه غبن ينسحب كل أبناء العشيرة فتحاوييهم وحمساوييهم.
الخوف الآن، كما يقول أحد الكتاب، إن هذه الانتخابات ستوسع من حالة الانقسام الفلسطيني جغرافيا وأيديولوجيا. بدأ تبادل الاتهامات باعتقال ناشطي فتح في غزة وناشطي حماس في الضفة. ولا نستبعد أن تُمنع حماس من ممارسة حقها في التعبئة الانتخابية في الضفة وأن يتم اقتحام مهرجانات فتح في غزة. وقد تتصاعد الأمور بتغذية من الخارج لتصل إلى المواجهات وتنتهي الأمور إلى تعميق الانقسام بدل معالجته كما قيل لنا عند الإعلان عن تنظيم الانتخابات المحلية هذه.
نتمنى على المعنيين أن يراجعوا مسألة الانتخابات المقبلة على ضوء المصلحة العليا للشعب الفلسطيني واتخاذ قرار إلغائها إذا كان عقدها يفاقم حالة الانقسام الحالية.
د. عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي