فلسطين في الكتابة التاريخية العربية

بقلم: منى سكرية

يضيء ماهر الشريف] في كتابه الصادر حديثاً عن "دار الفارابي" بعنوان "فلسطين في الكتابة التاريخية العربية"، على علاقة فلسطين بالتاريخ وبالعكس، وقد أدرجها في فصول تناولت: القضية الفلسطينية وإشكالياتها في قلب تاريخ فلسطين المعاصر، وتاريخ فلسطين القديم، وتاريخ فلسطين في العصر الاسلامي وأسئلته، وأخيراً يتساءل في الفصل الرابع: "أين وصل البحث في تاريخ فلسطين العثماني؟".
يعترف الشريف أنه لم يرصد كل من اهتم بحقول الكتابة التاريخية عن فلسطين، "فهذه مهمة تحتاج الى فرق عمل بحثية تقوم بجردة حساب لكل ما كُتب عن تاريخ فلسطين" (ص347)، كما أن "البحث الجماعي في إطار الفرق البحثية لا يزال غائباً تقريباً في ميدان الدراسات التاريخية العربية" (ص33)، و"علاقات التأريخ العربي بالعلوم الإنسانية والاجتماعية مثل الأنتولوجيا والأنتروبولوجيا وعلم النفس والألسنيات لا تزال محدودة" (ص34)، هذا إضافة الى "ما يواجهه المؤرخ العربي على صعيد الممارسة من مشاكل في البيئة السياسية والاجتماعية التي تحول في بعض الأحيان دون تمتعه بحرية كاملة في البحث" (ص34).
لعل في هذا الكلام ما يدعو الى بدايات الأسف، لأنه وكما يذكر "فإن الاهتمام العربي بحقل فلسفة التاريخ لا يزال محدوداً جداً" (ص29)، لافتاً الى أنه من "أجل تجاوز شح المصادر الأولية"، يبرز التوجه للوصول إلى محفوظات لم يجر استثمارها بما فيه الكفاية مثل محفوظات الجيشين الأردني والمصري، ووثائق جامعة الدول العربية، ومحفوظات منظمات دولية كالصليب الأحمر الدولي في جنيف، وهيئة الأمم المتحدة، علماً أنه يشير إلى تزايد اهتمام الباحثين الفلسطينيين بالتاريخ الشفوي، وجمع الأوراق والوثائق المحفوظة لدى بعض العائلات الفلسطينية وكذلك أرشيفات الصور. وإذ يدلل الشريف إلى بروز المؤرخين الهواة الذين يكتبون سيناريوهات المسلسلات التلفزيونية التاريخية، فهو يرى أن الكتابة الدرامية تطرح "إشكالية العلاقة بين التاريخي والمتخيل، أو بين الواقعي واللاواقعي، لا سيما أن المشاهد يصدق الصورة التي يشاهدها" (ص16).
ما يطرحه الشريف يشي بالكثير من الإرباك في كتابة تاريخ فلسطين. فيقول، مثلاً إن تاريخ فلسطين القديم "لم يحتل مكانة مهمة في الكتابة التاريخية العربية، إذ لم يبدأ الاهتمام الحقيقي بهذا الحقل إلا إعتباراً من النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين" (ص169). وقد بقي هذا التاريخ "حكراً على الباحثين الغربيين"، الأمر الذي خلق إشكاليات واجهها الباحثون فيه، عرض لها الشريف "لأن معظم دراسات الباحثين الغربيين استندت الى التوراة كجزء من الخطاب الاستشراقي الغربي" (ص171)، الى أن أتت تنقيبات عالمة الآثار البريطانية كاثلين كينون في ستينيات القرن الماضي وحملات التنقيب التي اتسعت بعدها. إثر ذلك ظهرت "صعوبة ملاءمة هذه المعلومات مع الصورة المتوهمة عن تاريخ اسرائيل ويهودا، وتاريخ فلسطين بشكل عام". وقد تلا هذه التنقيبات اكتشاف "رُقُم المكتبة الملكية في إيبلا في شمال سوريا، التي تعود الى الألف الثالث قبل الميلاد كمرجع لقراءة تاريخ فاسطين وبلاد الشام، وأيضاً ما اكتشفه الفلاح السوري في العام 1928 في رأس شمرا شمال اللاذقية وفيها عثر على ألواح مسمارية باللغة الكنعانية ـ الفينيقية"، علماً أن "رسائل تل العمارنة التي عثر عليها في مصر سنة 1887 وتعود الى القرنين الخامس عشر والرابع عشر، تعتبر من أفضل المصادر الموثوق بها في ما يتعلق بالحياة السياسية والاجتماعية والدينية لتلك العهود الغابرة في المنطقة، والتي تشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق" (ص 171 ـ 172 ـ 73 ـ 74).
أما الإشكالية الثانية التي يشير إليها الكاتب فتتعلق بالبحث عن تاريخ فلسطين الاسلامي (الفصل الثالث من الكتاب)، وببروز تباين بين الإخباريين الذين دونوها، بسبب قلة المعلومات عن فلسطينن وأيضاً بسبب تداخل المعلومات عنها بالمعلومات عن بقية اجزاء بلاد الشام"(ص231)، وذلك وفقاً لما توافق عليه معظم الباحثين الذين تصدوا لدراسة هذا الموضوع مثل إحسان عباس، نبيه عاقل، نجدة خماش، خليل عثامنة، ناصر الدين الاسد، هاني أبو الرب وسليمان البدور وغيرهم.
وبرغم ازدهار الكتابات التاريخية العربية في العقود الثلاثة الأخيرة عن فلسطين في العهد العثماني، وقد شملت القرنين التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إلا انها لم تتطرق الى القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو ما استوقف الكاتب أمام إشكاليات ثلاث واجهها الباحث في تاريخ فلسطين العثماني، أولها السؤال "من أين يبدأ تاريخ فلسطين الحديث؟"، وثانيها عن "التواصل والانقطاع في هذا التاريخ"، وثالثها حول "موضوع الهوية وتبلور الوعي الوطني" (ص301).
تبرز بين سطور الأبحاث التي انتقاها الشريف ما يؤكد غياب البحث العلمي ومراكزه ومؤسساته عن خطط العقول التي أدارت الصراع العربي ـ الاسرائيلي، واقتراب التعريف بهذا الصراع من الطابع الشعاراتي على حساب الطابع العلمي للكتابة التاريخية، ومثلها في تكديس الأوراق في أدراج النسيان أو الإصرار على النسيان. والأخير هو الأقرب الى الممارسة نتيجة تشرذم القرار السياسي العربي في العقود الخالية، والدموية حالياً، وفقدان الحريات وأولها التعبير، وفي اختلاف الأهواء في فهم التاريخ، واختلاق الأساطير في كتابته، والتباين في التعبير عنه الى حد التخوين أو التكفير، هو ما ينعش الذاكرة على حساب الوقائع المجردة، ويلهب العواطف على حساب الحقائق، ويغيب الجهد الفردي وسط كم البلبلة والتمزق.
إنها أسئلة الوجع عن تقصير متعدد الوجوه، فتضاف نكبة عدم استخدام التاريخ كسلاح في مواجهة الادعاءات الصهيونية إلى نكبة احتلال الارض وطرد أهلها. أليس مثيراً ما أوردته الصحف من إصرار الأتراك على التفتيش عن مكان دفن أحشاء السلطان سليمان القانوني في هنغاريا، وابتهاجهم بإيجادها تمهيداً لتخليدها في مكان لائق؟ أليس احترام التاريخ أساس في احترام الذات والنفس والهوية؟
] ماهر الشريف، "فلسطين في الكتابة التاريخية العربية"، "دار الفارابي"، 2016.

منى سكرية/"السفير"