برحيل شمعون بيريس، يكون قد أسدل الستار على فصل تأسيس "دولة إسرائيل"، ذلك أن الرجل عاصر منذ أن كان شاباً في مقتبل العمر، دافيد بن غوريون، وكان أن انضم للهاجاناه، بعد أن رحل من روسيا البيضاء مع عائلته عام 1934، وكان له من العمر احد عشر عاماً، ومارس بذلك العمل السياسي وشارك في " تأسيس أو إقامة دولة إسرائيل " منذ ما قبل العام 1948. وبعد إقامة الدولة، سرعان ما تقدم في المناصب، خاصة في مؤسسة الجيش، حيث كان وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره بعد مديراً عاماً لوزارة الدفاع، وذلك بعد أن "أبدع" ومنذ وقت مبكر في شراء الأسلحة، كذلك في إنشاء مؤسسة التصنيع العسكري، وهو عرّاب مفاعل ديمونه، ومهندس إقامة العلاقات العسكرية مع فرنسا، في خمسينيات القرن الماضي، حيث منحت تلك العلاقات إسرائيل طائرات ميراج 3 ومهدت الطريق لمشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 .
وكان بيريس حتى وقت متأخر يعتبر ضابطاً في الموساد، حيث اشرف على تدريب الجاسوس المصري احمد الهوان خلال الفترة من 67 _ 1977، هذا إضافة إلى ظهوره كسياسي تقدم المسرح السياسي الإسرائيلي أكثر من مرة، بحيث تولى رئاسة الحكومة ومن ثم رئاسة الدولة.
تؤكد شخصية بيريس ما هو معمم في إسرائيل من ثقافة الولاء " للدولة " أكثر من الولاء للحزب، هذا رغم كل ما يقال ويشاع عن انعدام الأخلاق السياسية، في دولة أنشئت كدولة اغتصاب واحتلال، ومن قبل الدول الاستعمارية، وبهدف السيطرة، على المنطقة العربية، كذلك تؤكد شخصية بيريز، استخدام السياسة الإسرائيلية في سبيل تحقيق المصالح العليا للبلاد، كل "التعدد الداخلي" كذلك كل المراوغات الممكنة، بهدف تحقيق المصالح الخاصة.
رغم انعدام كل المسوغات الأخلاقية والقانونية، كذلك التاريخية، وغير ذلك، بإقامة دولة إسرائيل، ورغم المقاومة الباسلة التي أبداها الشعب الفلسطيني، كذلك الرفض الإقليمي لإقامة هذه الدولة، إلا أن بقاءها حتى اللحظة، لا يعود فقط، للتفوق العسكري وللإسناد الدولي، خاصة من قبل الغرب، وفي مقدمته أميركا وحسب، بل أيضا يعود إلى إقامة دولة مؤسسات عصرية، هي دولة احتلال وقمع للغير، لكنها دولة مؤسسات في الداخل، دولة قانون ودولة تداول ديمقراطي للسلطة.
هكذا كانت وما زالت عموما دول الغرب، التي كانت تستعمر دول أفريقيا وآسيا، وهي دول ديمقراطية في الداخل، تمارس ازدواجية غريبة، نعم، لكنها تحقق الظفر وتحقق أهداف الدولة.
المهم أن مناسبة رحيل بيريس، تذكرنا بما حققه مناحيم بيغن قبل أربعة عقود، في مفاوضات كامب ديفيد، مع واحد من أذكى الرؤساء العرب، وأكثرهم دهاء، نقصد أنور السادات، الذي كان رغم انه ذهب لكامب ديفيد، من تحت أقواس نصر أكتوبر 1977، لتحقيق انجاز على صعيد الملف الفلسطيني يواجه به الرفض العربي لما سمي في حينه بمبادرة السادات، من عزل كامل لمصر، حيث لم يتزحزح بيغن عن الحكم الذاتي المحدود، وللسكان فقط، في الملف الفلسطيني، وكان يعلل ذلك بالقول بأنه يواجه معارضة داخلية تكبح قدرته على أن يقدم الكثير من التنازلات.
المفاوض العربي، على العكس من ذلك، يتبجح بقدرته على أن يقدم منفردا كل ما يريد، وهذا ما كان دائما يقول به المفاوض الإسرائيلي، للمفاوض الفلسطيني.
دروس عديدة، يمكن أن نتعلمها من الإسرائيلي، وما في ذلك أي مشكلة، منها، أن نحترم التعدد الداخلي وان نعرف كيف نجعل منه مصدر قوة، لا باعث ضعف، كذلك أن نخلص للوطن والدولة أكثر من الحزب والفصيل، وان نتعلم التواضع، فشمعون بيريس _ مثلا _ ترأس الحكومة أكثر من مرة، وتتلمذ على يد بن غوريون وليفي اشكول، ورغم ذلك، قبل أن يكون وزيرا في حكومات غيره، حتى انه وهو احد رموز اليسار، وحزب العمل، انضم لشارون، في آخر حياته، ولحزب كاديما وقبل أن يكون مجرد وزير عادي، ومن ثم رئيس فخري.
وقام بكل المهام التي كلفته بها الدولة، المهام السياسية، العسكرية، والأمنية، ولم يتردد لحظة واحدة، في أن يقوم بأي عمل، مهما بدا، عملا ضئيلا أو متواضعا.
ثقافة التعدد، وإنشاء دولة القانون والمؤسسات، تجعل من كل مواطن، قادرا على تقديم كل ما لديه عن طيب خاطر، من أجل المصلحة العليا، ولا تجعل من الاختلافات حاجزا، أو كابحا للعطاء، لذا لا بد من وضع الحواجز والفواصل بين المؤسسات، فلا يمكن ولا بأي حال السماح للعسكر بالتدخل في الخصومة السياسية بين الأحزاب، ولا يمكن ولا بأي حال من الأحوال السماح للأحزاب بتجاوز القانون، ولا بحجب الرؤية عن الشعب، في كل ما يخص حياتها الداخلية من التمويل والانتخاب والبرامج، ولعل في ما نلاحظه من حراك سياسي داخل إسرائيل ما يؤكد "حيوية" وفاعلية ونجاعة السياسة الإسرائيلية، التي حققت وما زالت تحقق النجاح، رغم افتقارها لمنطق الأخلاق، ورغم ترويجها ودفاعها عن احتلال بغيض ومواجهتها لمحيط كاره لها، وذلك بفضل ما تتمتع به من حداثة، ومن قوانين خاصة، لابد لنا أن نتعلم منها، وان نفكر ولو بلحظة عابرة أن نعيد تأطير حياتنا السياسية وفق بعض تلك القوانين وتلك السمات، لعل وعسى أن نتقدم قليلا إلى الأمام.
بقلم: رجب أبو سرية
[email protected]