تطوي الانتفاضة الثالثة صفحة عامها الأول كاتبة أسطرها بأحرفٍ من دم مُسيج بإرادة وإيمان لا ينضب بعدالة القضية والحقوق التي لن تموت بالتقادم ، أو بتواقيع من تنازل وفرط . صفحة تُضاف إلى صفحات العزة والكرامة الوطنية ، ومعارك البطولة والشموخ والإباء التي سطرها شعبنا منذ ما يزيد على الأعوام الثمانية والستين من عمر النكبة الفلسطينية والاغتصاب الصهيوني . صفحة في كتابِ مقاومة لن تُكسر إرادتها وإن خبت ، أو راوحت في المكان ، حتى وإن تراجعت . صفحة في السياق التاريخي الطويل من الصراع مع عدو قد حدد شعبنا مساره في الانتصار عليه مهما طال الزمن ، وغلت التضحيات .
مع مرور العام الأول على الانتفاضة الفلسطينية الثالثة ، كيف تُقرأ في ميزان إنجازاتها وحصادها وإخفاقاتها ، وكيف تصرف الآخرون اتجاهها سواء الفلسطيني أو" الإسرائيلي " . وقبل كل شيء أتوقف عند نقاط أربعة :-
- أولها ، أن الانتفاضة قد اندلعت من خارج تكهنات وتوقعات ما كانت تؤكد عليه النخب الحاكمة في الكيان " الإسرائيلي " الغاصب ، أن ثمة انتفاضة سيُقدم عليها الشعب الفلسطيني مستحيلة ، وليست هناك من مؤشرات تُدلل على ذلك . ولتطمين مجتمع الاستيطان من وطأة الانتفاضة ، لجأت الأجهزة الأمنية والعسكرية في الكيان لإطلاق توصيف " انتفاضة الأفراد " ، وفي المقلب الآخر بهدف الإقلال من شأنها وتقزيمها .
- ثانيها ، أن الانتفاضة قد بدأت ولا زالت بمبادرات ذات طابع شعبي ، وعمليات ذات طابع فردي ، وإن كان أصحاب تلك المبادرات في أغلبهم من المنتمين للفصائل الفلسطينية ، بمعنى أن لا قرار سياسي قد اتخذته الفصائل إذاناً باندلاع الانتفاضة .
- ثالثها ، أن الانتفاضة قد اندلعت من خارج إرادة السلطة الفلسطينية ، من خلفية أنها ورئيسها ترى أن الانتفاضة غير مجدية وتلحق الضرر بالتوجهات والخيارات السياسية القائمة على المفاوضات دون سواها .
- ورابعها ، أن الانتفاضة والرهان على إنهائها أو إجهاضها على الرغم من كل المحاولات الهادفة إلى وأدها قد فشل ، وإن تبدو للبعض أنها انتهت إلى رجعة أقله في المدى المنظور .
وعودة إلى حصاد الانتفاضة وانجازاتها ، فإنها وعلى الرغم من شح الوسائل المتاحة لديها من أجل مواجهة ومقاومة الاحتلال وقطعان المستوطنين الصهاينة ، الذين أملوا ألاّ تتطور تلك الوسائل إلى مشهد العمليات الاستشهادية التي نفذتها المقاومة إبان الانتفاضة الثانية عام 2000 . إلاّ أنها تمكنت ورغم ذلك من :-
- أولاً ، أن توحد قطاعات وفئات الشعب الفلسطيني ، الذين إما أن انخرطوا فيها ، أو احتضنوا والتفوا حولها وساندوها ، بغض النظر عن الانقسام الذي يسود المشهد والحياة السياسية الفلسطينية .
- ثانياً ، أن تفرض تأثيرها ووقعها على مجتمع الاستيطان الصهيوني وكيانه الغاصب ، وعلى كل الصعد النفسية والمعنوية ، والاقتصادية حيث الارتفاع الملحوظ على هبوط مستوى الاستثمارات وتأثر البورصة والشلل في السياحة بشقيها الداخلية والخارجية خاصة في مدينة القدس .
- وثالثاً ، أن تؤجج الخلافات بين المكونات السياسية والحزبية في الكيان ، وطفو الاتهامات المتبادلة بينها إلى سطح المشهد الحكومي والائتلاف المكون له حول المسبب في اندلاع ما أسموه بالعنف الفلسطيني .
- ورابعاً ، أن تعمل على مزيد من انكشاف السياسة الإجرامية والإجراءات التي اعتمدتها حكومة نتنياهو بهدف قمع الانتفاضة ، أمام المجتمع والرأي العام العالمي ، مما أثر على صادرات المستوطنات وعدم استقبالها في معظم دول الاتحاد الأوربي .
- خامساً ، تمكنها من تنفيذ العشرات من الهجمات والعمليات النوعية والتي تنوعت بين الطعن والدهس واستخدام السلاح ، والتي نوجز أهمها بدءاً من :-
1- عملية " إيتمار " في الأول من تشرين الأول 2015 ، والتي نفذها خمسة من الشبان المقاومين في منطقة نابلس ، مستهدفين ضابطين وحاخام وزوجته من المس بالأطفال .
2- عملية طعن وإطلاق نار نفذها الشهيد البطل " مهند الحلبي " في الثالث من تشرين الأول 2015 ، في القدس القديمة ، مستهدفاً عدداً من المستوطنين وجنود الاحتلال . سقط بنتيجتها قتيلين وجرح خمسة صهاينة قبل أن يرتقي " مهند الحلبي " شهيداً .
3- عملية طعن في ساحة باب العامود نفذها الشهيد " محمد سعيد علي " ، تمكن خلالها من جرح ثلاثة صهاينة ، جراح اثنين منهم خطرة .
4- في الثالث عشر من تشرين الأول 2015 ، نفذ الشهيد بهاء عليان والأسير بلال غانم عملية مزدوجة تخللها طعن وإطلاق نار داخل باص صهيوني ، وتمكنوا من قتل ثلاثة صهاينة وجرح حوالي عشرين مستوطناً .
5- عملية دهس ينفذها الاستشهادي " علاء أبو جمل "، في إحدى محطات الباصات ، ويعمل على طعن عدد من المستوطنين ويقتل حاخام ويصيب سبعة أخرين .
6- الاستشهادي " مهند العقبي " ينفذ عملية جريئة داخل محطة باصات في بئر السبع ، ويقتل جندي ويصيب أربعة وثلاثين مستوطن .
7- الاستشهادي " محمد حروب " يُقدم على تنفيذ عملية قرب مستوطنة " غوش عتصيون " ، مستخدماً سلاح حربي ، أدت إلى مقتل اثنين وإصابة سبعة أخرين .
8- الاستشهادي " نشأت ملحم " نفذ عملية في قلب تل أبيب ، مطلقاً النار على العديد من المستوطنين الذين كانوا داخل أحد المقاهي . وأدت إلى مقتل اثنين من الصهاينة وجرح ثمانية أخرين .
9- الاستشهادي " عبد الحميد أبو سرور " ، ينفذ عملية تفجير باص صهيوني ، ونتج عنها إصابة واحد وعشرين مستوطن وإحراق الباص .
10- المقاومين محمد وخالد المخامرة ينفذان عملية إطلاق نار على مقهى بوسط مغتصبة تل أبيب ، نتج عنها مقتل أربع مستنوطنين وجرح 3 أخرين ، واعتقال المقاومين .
وخلال عام الانتفاضة الأول اتسمت تصرفات ومواقف المستويين الفلسطيني و" الإسرائيلي " ، بالآتي :-
أولاً – فلسطينياً ، ومن خارج الموقف الشعبي والجماهيري ، فإن الانتفاضة لا زالت موضع خلاف وتجاذب واتهامات متبادلة بين المكونات السياسية من فصائل وسلطة . حيث كانت ترى الفصائل ولا زالت بما فيها شريحة واسعة من حركة فتح أن السكوت على سياسات الاحتلال الإجرامية لم يعد مقبولاً بل ومرفوضاً ، بينما كانت ترى السلطة ورئيسها ولا زالوا أن الانتفاضة لا داعي لها من خلفية التمسك بخيار المفاوضات دون سواها . وهذا مرده لسببين ، الأول ، استمرار الانقسام الذي يزداد عمقاً واتساعاً ، مما عكس نفسه وبقوة على فعاليات الانتفاضة وجعلها يتيمة ، فلا روافع أو حواضن فصائلية لها ، بل هي استغلت لتكون مادة مضافة في السجال السياسي والإعلامي بين أطراف الانقسام . والثاني ، استمرار التنسيق الأمني وارتفاع وتيرته بين أجهزة أمن السلطة مع أجهزة أمن الاحتلال ، وفقط خلال العام 2015 عقد ( 140 ) لقاء بين تلك الأجهزة ، حيث أثمر هذا التنسيق وباعتراف جهاز الأمن " الإسرائيلي " العام " الشاباك " ، عن كشف ( 57 ) مجموعة مسلحة في الضفة المحتلة كانت تخطط لاختطاف جنود ومستوطنين ، ومنها عملت على تحصير مختبرات بهدف صناعة المتفجرات ، بالإضافة إلى إفشال العديد من العمليات . وقد عمدت أجهزة أمن الاحتلال على الدوام في الإشادة بالتعاون الأمني الذي تحرص عليه أجهزة أمن السلطة ، التي تمت مكافئتها بأن صادقت سلطات الاحتلال على طلبات قدمتها السلطة الفلسطينية للحصول على مركبات مدرعة وأسلحة وذخيرة تزود بها الأجهزة الأمنية للسلطة .
ثانياً – أما " إسرائيلياً " ، وعلى الرغم من حالة الارتباك التي طبعت مشهد اندلاع الانتفاضة بسبب سوء التقديرات الأمنية والعسكرية على حدٍ سواء بأن لا انتفاضة قادمة في الأراضي المحتلة ، وإذ بها تبدأ في القدس لتعم الضفة الغربية ومناطق العام 1948 . فقد تعاطت أجهزتها الأمنية والعسكرية بكل قسوة وعنف ضد ناشطي الانتفاضة ونفذت أحكام الإعدامات الميدانية بحق كل من تشتبه به . واحتلت مناطق القدس القديمة ، وعزلت أحيائها عن بعضها ، واعتقلت الكثيرين من أبنائها ، بالإضافة إلى عقوبة إبعاد عائلات استشهاديي العمليات البطولية ، وهدم منازلهم . وفي جهود حكومة " نتنياهو " لإجهاض الانتفاضة ووأدها ، فقد أقدمت على منح التسهيلات للسلطة في المجال الأمني والاقتصادي ورخص البناء في الضفة ، ومنح تصاريح العمل داخل مناطق العام 1948 . وهذه التسهيلات مشروطة بفرض الهدوء وتوقف الانتفاضة .
إن المكونات السياسية الفلسطينية بمستوياتها من فصائل وسلطة وإن بنسبٍ متفاوتة يتحملون مسؤولية تراجع الانتفاضة ، ولربما إنهائها إذا ما استمر نمط التعاطي مع مستلزمات مدها بأسباب القوة والاستمرار ، إن لن نقل أن القطار قد فات الفصائل وبالتأكيد السلطة من خارج تلك الحسبة بوفق خياراتها البائسة . وبالتالي فإن ما عجز عنه العدو وفشل في قتل إرادة الشعب الفلسطيني في الانتفاضة والمقاومة ، تظهر الفصائل والسلطة ونتيجة عجزهم وكأنهم سهلوا على العدو مهمته وهدفه الذي عمل عليه على مدار عام منذ اندلاع الانتفاضة وحتى الآن .
رامز مصطفى