لم تكن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في عهد الرئيس بوش الابن كوندوليزا رايس تدرك أن دعوتها لشرق أوسط جديد من خلال ما أسمته بالفوضى الخلاقة، سيؤدي إلى فوضى خلاقة ونظام عالمي جديد وإلاّ لكانت امتنعت عن التفكير بتلك الطريقة التي ربما كانت تصلح في وقتها لكنها لا تصلح لكل وقت. كان الوقت الذي أطلقت خلاله رايس أفكارها السوداوية مرتكزا على حقيقة استمرار مفاعيل النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الذي أعلن عنه جورج بوش الأب عام 1991.
حين أعلن بوش الأب تدشين مرحلة النظام العالمي الجديد، كان قد حقق نجاحاً باهراً بخوضه تحالفاً دولياً شارك فيه بعض العرب، أدى إلى تحرير الكويت، وحضّر الظروف التي سمحت بغزو العراق وإسقاط نظام حزب البعث الاشتراكي. غير أن الدافع الأساسي الذي جعل بوش يطلق إعلانه، كان تفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وانتهاء عالم القطبية الثنائية. وحينذاك لم تكن الصين قد انتقلت إلى مواقع قوة متقدمة كالتي تحظى بها اليوم، فكان من المبرر له أن يعلن انتهاء الحرب الباردة، وزمن القطبية الثنائية، الأمر الذي حمس فوكوياما لأن يصدر كتابه المعروف بـ "نهاية التاريخ" قبل أن يعتذر عن ما ورد فيه من أحكام. بعد ربع قرن على إعلان بوش الأب، وما تخلل تلك الفترة من حروب استعمارية خاضتها الولايات المتحدة في أكثر من منطقة من العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط كانت الظروف قد تغيّرت جذرياً، إذ عادت روسيا التي احتفظت بقدرتها على مجاراة الولايات المتحدة في مجال إنتاج وتكنولوجيا السلاح، عادت لتحيي أمجاد الزمن القديم، تحدوها آمال كبيرة وعزيمة قوية لاستعادة دورها ونفوذها على سطح الكرة الأرضية، وخلال تلك السنوات انطلق العملاق الصيني بخطوات متسارعة وثابتة حتى اصبح منافسا قويا جداً للولايات المتحدة، ويقترب من أن يصبح صاحب اكبر اقتصاد في العالم، متفوقاً بذلك على الولايات المتحدة، وخلال هذه الفترة الزمنية، نشرت الولايات المتحدة قواعدها العسكرية البرية والبحرية والصاروخية في أوروبا الشرقية على تخوم روسيا، وفي آسيا قريباً من الحدود الصينية والروسية فضلاً عن الشرق الأوسط.
حين نشرت الولايات المتحدة درعها الصاروخية بالقرب من الحدود الروسية، لم يكن لروسيا القدرة على منع ذلك واكتفت بالاعتراضات والانتقادات، والتحذير من أن ذلك يشكل تهديداًَ للأمن القومي الروسي. الولايات المتحدة هي من وفّرت الفرصة لروسيا لكي تتقدم في الوقت المناسب لملء الفراغ النسبي الذي يتركه الانسحاب الأميركي المتدرج في المنطقة، وحالة الخذلان التي أصابت وتصيب حلفاء أميركا في المنطقة. تبدو المسألة عادلة، إذ لم تعد الولايات المتحدة قادرة على الدفاع عن التهم الموجهة إليها من أطراف عديدة بما في ذلك بعض حلفائها من أنها المسؤولة عن انتعاش ظاهرة القاعدة ومن بعدها أو بموازاتها ظاهرة تنظيم الدولة المعروفة باسم داعش. في الواقع فإن سياسة الرئيس جورج بوش الابن التي انطوت على تحريض سخيف على الإسلام والمسلمين وإعلانه أن الإرهاب هو العدو الرئيسي للشعوب بعد تنحية الاتحاد السوفياتي كعدو سابق، تلك السياسة هي المسؤولة عما يجري اليوم في أنحاء العالم من إرهاب وهو المخلوق الذي ساعدت في ظهوره وضخّمته الولايات المتحدة لتبرير غزواتها وحروبها التي استهدفت إخضاع العالم.
لست ممن يعتقدون أن التدخل الروسي القوي والحاسم في المنطقة من خلال سورية وتحت عنوان محاربة الإرهاب، والحفاظ على الدولة السورية، هو ما يبرر التدخل الروسي، ولا هو كذلك، من باب إبعاد مخاطر الإرهاب عن روسيا، بقدر ما انه توفر الفرصة السانحة لعودة روسيا إلى المنافسة الدولية على المصالح، وربما لإنزال عقاب على الولايات المتحدة وحلفائها، الذين حاولوا إضعاف روسيا وإخضاعها.
لقد فات الأوان لان تعدل الولايات المتحدة سياستها، نحو أن تستعيد قدرتها على التدخل الحاسم في شؤون المنطقة العربية المضطربة، والتي باتت بعد ست سنوات على احداث ثورة الياسمين مركزاً لبركان هائل وصلت ارتداداته بقوة إلى العالم الغربي.
روسيا في موقع المبادر بالسياسة وبالسلاح، ويبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها هم في موقع الشاكي والمتذمر، في موقع الدفاع عن النفس، محزن وضع حلفاء أميركا في هذه المعادلة التي خرجت منها تركيا كدولة أطلسية، لتبدأ مرحلة من التعاون مع روسيا، فهذا وزير الخارجية البريطاني يدعو الناس للتظاهر أمام السفارة الروسية في لندن، وذاك الرئيس الفرنسي هولاند، يرفض زيارة للرئيس فلاديمير بوتين كانت مقررة لباريس، لأن الأخير يرفض شرط هولاند بأن يقتصر البحث على الملف السوري. في مواجهة الموقف الفرنسي يرد الرئيس بوتين بطريقة تنم عن الاستهزاء، إذ يقول مهلاً إلى أن ترغب الرئاسة الفرنسية في استقباله. يمكن تفسير ذلك بأنه يقول للرئيس الفرنسي بأن روسيا ليست بحاجة ماسة لمثل هذه الزيارة، وان فرنسا ستضطر للرضوخ في وقت لاحق.
وفي أنحاء مختلفة من أوروبا والولايات المتحدة تتردد دعوات لاتخاذ عقوبات ضد روسيا، والتلويح بتقديم روسيا وسورية، إلى محكمة جرائم الحرب بدعوى أنهما يرتكبان مجازر يعاقب عليها القانون. يا سلام، الغرب يعلو صوته الإنساني دفاعاً عن الشعب السوري، وعن سكان حلب، ويلوح بسيف الجنائية الدولية، لكنه يصمت صمت القبور إزاء المجازر والجرائم التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وبحق قرارات ومواثيق الأمم المتحدة. من الواضح أن العلاقات الدولية والنظام العالمي يتعرض لتغييرات أساسية واصطفافات جديدة، ويشهد تغييراً جذرياً في قواعد العمل، إذ ليس صدفة ولا هو مرتبط بحدث مباشر، أن تصدر عن هيئات الأركان الصينية والروسية تصريحات تحذر من أن الدرع الصاروخية في شرق أوروبا، تنطوي على تهديد مباشر للأمن القومي الروسي، وبأن روسيا سترد على ذلك، والسؤال هو أين وكيف سيكون الرد؟
طلال عوكل
2016-10-13