حرب أكتوبر: "القدرة القتالية" و"العقيدة الأمنية" الإسرائيلية

بقلم: فايز رشيد

 

مرّت ذكرى حرب أكتوبر 1973، التي في بدايتها شكّلت قضية مهمة في إمكانية الانتصار على العدو الصهيوني. وإذا كان الانتصار هو الهدف، فهو وحده لا يكفي، فمن الواجب أيضا إتقان كيفية المحافظة عليه واستغلاله سياسيا. النقطة الأخيرة للأسف، لم يتقنها الرئيس السادات في معركة أكتوبر، وتبدد الانتصار.
هذا يقودنا إلى موضوع مهم، فقد ذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية (الثلاثاء 26 يوليو 2016) تصريحا لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال غادي آيزنكوت، قال فيه "بأن التهديد الأكبر المحدق بالجيش الإسرائيلي ليس خارجيا فقط، بل هو فقدان الجمهور الإسرائيلي، الثقة بالجيش". من وجهة نظر رئيس الأركان المعني، أن تزعزع ثقة الجمهور بالجيش، مشكلة خطيرة تجعل من الصعب على الجيش تأدية دوره، خاصة أن ظاهرة انتقادات السياسيين للجيش قد ارتفعت في الآونة الأخيرة.
وأشارت "هآرتس" إلى أن المسؤول العسكري تحدث عن الوضع في الأراضي الفلسطينية، موضحا أن جنوده تمكنوا من السيطرة على المناطق الفلسطينية، وزعم، أنه في ضوء الأداء الجيد للجيش، هناك فهم متزايد في الشارع الفلسطيني لعدم جدوى خيار العمليات. ولفتت الصحيفة إلى: أنه في أعقاب حديث الجنرال آيزنكوت، فإن لجنة الخارجية والأمن، صدّقت على اقتراح رئيس اللجنة، آفي ديختر، الذي أكد ضرورة الإبقاء على الجيش خارج السجال السياسي، وتمكينه من مواجهة التحديات بدون عقبات. يتقاطع هذا مع ما سبق وأن صرح به رابين بُعيد توقيع اتفاقيات "السلام" مع الدول العربية، للصحافي الاسرائيلي حاييم بار، من أن السبب في أحد جوانبه يعود إلى شكه بأن القدرات القتالية للجيش الإسرائيلي، لم تعد مثل ما كانت عليه في السابق. أيضا فإن مقالات كثيرة ظهرت في الصحف الإسرائيلية في السنتين الأخيرتين، يحذر فيها كاتبوها من ضعف ارتباط جزء كبير من شباب الجيل الجديد سواء في إسرائيل، أو في المهجر، بـ"الوطن القومي الإسرائيلي". دليلها في هذا الفهم، انخفاض معدلات الهجرة السنوية لاسرائيل، مقابل ارتفاع نسبة المهاجرين منها. دليلها الثاني، الحملة التي تعرض لها الجيش بعد غزوه لبنان عام 2006، وتشكيل" لجنة فينوغراد" للتحقيق في العملية العسكرية، التي قام بها الكيان آنذاك. تقرير اللجنة وجّه نقدا ذريعا لرئيس الوزراء آنذاك إيهود أولمرت، وتوصل إلى أنه تسرع بالذهاب إلى الحرب، وحمّله مع قادة اخرين سياسيين وعسكريين، مسؤولية "الفشل الذريع" في الحرب. كان رئيس الأركان الإسرائيلي دان حالوتس قد استقال قبل صدور التقرير المؤقت، كما استقال وزير الدفاع عمير بيريتس عقب صدوره، لكن أولمرت تمسك بمنصبه رغم المعارضة القوية وافتقاره للشعبية.
لا يختلف اثنان، داخل إسرائيل وخارجها على أن دولة الكيان تعيش ما يعتبر عصرا ذهبيا، مقارنة بما كانت تعتبره مخاطر وجودية. وقد تحدث قادة إسرائيليون كبار، مؤخرا عن زوال ما كان يعرف بالأخطار الوجودية التي تهدد دولتهم بعد تفتيت المنطقة العربية، وانشغال الشعوب والحكومات العربية بهمومها ومشاكلها الداخلية، وتوقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى العظمى.
لا يعني زوال ما يعرف بالأخطار الوجودية، انتفاء أي أخطار من النمط القديم، وبقاء فقط الأخطار الجديدة التي تدرجها إسرائيل تحت مسمى كيانات ما دون الدولة. فزوال الأخطار، من وجهة نظرها، مؤقت ومرحلي، وهو يعتمد كثيرا على مدى قدرة العرب على إيجاد حلول مناسبة لمشاكلهم الداخلية. وبديهي أن الحل غير المرغوب فيه من جانب إسرائيل هو عودة اللحمة والوحدة الداخلية إلى كل الأقطار العربية، وعودة أشكال التضامن العربي بما في ذلك تفعيل منظومتهم الإقليمية بشكل ناجع.
الشيء المؤكد، هو أن إسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين والعرب، صارت اليوم أكثر إقرارا بمحدودية قوتها. فاليمين الصهيوني، الذي بنى سياسته على أساس القاعدة العسكرية، التي نشأ عليها الجيش الإسرائيلي، القائلة بأن ما لا يتحقق بالقوة، يمكن أن يتحقق باستخدام المزيد من القوة، صار يرى عجزه عن تحقيق أغراضه بهذه الطريقة، لأن الجيش الإسرائيلي الذي كان طوال الوقت المحفز للحروب والاعتداءات، يبدو حاليا وكأنه كابح لها. ومن المؤكد أن الحلبة السياسية في إسرائيل، خصوصا الأكثر تطرفا، تتجه نحو الإقرار بذلك. وليس مستبعدا أن يأتي هذا الإقرار ولكن ليس قبل حروب مدمرة أخرى، قد تقدم عليها إسرائيل في مراحل مقبلة! القاعدة الثانية التي تم كسرها في الصراع مع الكيان هي "أن الجيش الإسرائيلي هو الجيش الذي لا يُهزم". هذا ما أثبتته حروب إسرائيل الأخيرة على لبنان وعلى قطاع غزة. القاعدة الثالثة، التي تم كسرها أيضا، هي بقاء الجبهة الداخلية الإسرائيلية بمنأى عن تأثيرات الحروب، التي تشنها إسرائيل.
على ضوء ذلك، من المفيد التطرق إلى موضوع مهم وهو: المتغيرات في العقيدة الأمنية العسكرية الصهيونية. لقد قدّم الباحثان الإسرائيليان أليكس مينيتس وشاؤول شاي ورقة بحث مهمة، إلى مؤتمر هرتسيليا قبل عامين تحت عنوان"التغييرات الجيوساسية في المنطقة، تفرض على إسرائيل إعادة صياغة عقيدتها الأمنية". الأول هو رئيس"معهد السياسات والاستراتيجيا". الثاني هو رئيس "فرقة الأبحاث" في المركز المذكور. ترجمت الورقة عن العبرية يولا البطل. معروف أن الذي صاغ العقيدة الأمنية الإسرائيلية هو ديفيد بن غوريون وأصبحت فيما بعد نظرية تعتمد عليها إسرائيل. وفقاً لهذه العقيدة فإن من الضروري: "إقناع الدول العربية دوماً بالتسليم بالوجود الإسرائيلي. أن تدفع إسرائيل العالم العربي إلى استنتاج أنه لا سبيل عمليا لتدمير دولة إسرائيل. كل ذلك يتم عبر تحقيق انتصارات متتالية تؤدي إلى تيئيس القيادات العربية". مثلما رأينا بالتجربة فإن هذه الخطوط العامة التي عملت بها الدولة الصهيونية جرت ترجمتها إلى مبادئ أخرى، صبت في مجرى الخطوط الاستراتيجية لبن غوريون، ولعل أبرزها: الحروب الاستباقية، لردع نقل المعارك إلى أرض العدو، إنهاء الحروب العدوانية بالسرعة الممكنة، كل هذا طبقه العدو الصهيوني في اعتداءاته وحروبه على كافة الدول العربية منذ إنشاء دولة الكيان حتى سنوات قريبة.
يتطرق البحث إلى كل المحاولات السابقة لتحديث عقيدة إسرائيل. لقد كانت المحاولة الأولى من قبل الجنرال يسرائيل فال عندما أصدر كتابه: "الأمن القومي: قلة مقابل كثرة"، الذي عرض فيه تطور العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وأشار إلى التعديلات المطلوبة التي كانت تلائم من وجهة نظر الباحثين في"تسعينيات القرن الماضي". أيضا، في عام 1998 بادر وزير الدفاع آنذاك إسحق مردخاي إلى تشكيل ورشة عمل في هيئة الأركان برئاسة اللواء ديفيد عبري لبحث التجديدات في العقيدة الأمنية. ما جرى تداوله في ورشة العمل والاستنتاجات التي خلصت إليها الورشة، لم يجر عرضها على الحكومة الأمنية المصغرة ولم تُعتمد كعقيدة أمنية قومية. في عام 2006 قدّم الوزير السابق دان مريدور إلى وزير الدفاع آنذاك شاؤول موفاز، تقريراً للجنة رأسها هو، وتضم 20 خبيراً من بينهم اللواء غيورا أيلاند الذي أصبح فيما بعد رئيساً لمجلس الأمن القومي الأمريكي. الاستنتاج الأبرز لتوصيات اللجنة:أن مكوّن الدفاع بحاجة إلى ثلاثة ركائز أمنية:أهمية الرّد المتمثل في الدفاع عن السكان المدنيين والبنى التحتية في إسرائيل، من قبل الصواريخ بعيدة المدى التي يطقلها الإرهاب من ميدان القتال المباشر إلى المواطنين في الجبهة الداخلية. إعادة درس ملاءمة مفاهيم الردع، والإنذار الاستراتيجي والحسم في مواجهة لاعبين غير دولتيين على غرار التنظيمات (الإرهابية). ضرورة استنباط رد مناسب دفاعاً عن أنظمة الحواسيب القومية. أقر وزير الدفاع آنذاك شاؤول موفاز توصيات اللجنة ونقلها إلى الحكومة الأمنية المصغرّة، لكن الأخيرة لم تقر ولم تعتمد تلك التوصيات.
في عام 2013 نشر اللواء احتياط البروفيسور يتسحاق بن إسرائيل تصوره لعقيدة أمنية إسرائيلية، وأصدر كتاباً بذلك بعنوان"عقيدة إسرائيل الأمنية". من وجهة نظره: فإن العقيدة الأمنية الإسرائيلية مرّت في ثلاث مراحل:الأولى "بدأت فور انتهاء الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني لأرض إسرائيل". هذه المرحلة اتخذت طابع الخصام بين الجيران على مسائل المياه وتقسيم الأرض. المرحلة الثانية بدأت عشية إعلان الدولة واستمرت حتى مطلع تسعينيات القرن العشرين.. المرحلة الثالثة بعد ذلك: بدأت تتبلور في مفهوم جديد يتلخص في: أن التهديد الأهم المحدق بإسرائيل ليس غزو الجيوش وإنما في تنظيمات ومجموعات (إرهابية) وهذا يشمل مواجهات محدودة بين إسرائيل وهذه التنظيمات. تؤكد الورقة أن العولمة والثورات التكنولوجية في مجالات الاتصالات والسايبر والفضاء والتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية: تغير وتبدل طبيعة الحروب والمستجدات في (المجتمع) الإسرائيلي، وتستدعي إعادة درس العقيدة الأمنية الإسرائيلية وملاءمتها لظروف الواقع الديناميكي للقرن الواحد والعشرين. وترتدي طابع ملاءمة العقيدة الأمنية لأهداف الدولة ولبيئتها الإقليمية والاستراتيجية المتغيرة.
المقصود القول، إن القدرة القتالية للجيش الإسرائيلي، لم تعد بمثل ما كانت عليه في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الزمني الماضي. يا ترى أتدرس جيوشنا العربية المتغيرات في العقيدة الأمنية الاسرائيلية؟ أم تعتقد أنها أصبحت بمنأى عن الخطر الصهيوني على دولها؟ وهل تعدّ العدة لمجابهة هذه الأخطار؟ أسئلة أطرحها برسم آراء القرّاء الكرام.

د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني