((نحن الضحية التي جربت فيها كل أنواع القتل، حتى أحدث الأسلحة، لكننا الأعجوبة التي لا تموت ولا تستطيع أن تموت)) محمود درويش.
ما تعرضت له فلسطين الأرض والشعب على مدى قرن كامل من الزمن يفوق طاقة دول وشعوب كبرى، أثبت خلاله الشعب الفلسطيني قدرة فائقة وعجيبة على الإستمرار في التمسك بحقوقه الوطنية والقومية وبقدرته في الحفاظ على الذات، وصناعة هويته المستندة إلى إرثه الثقافي والديني، والتي شكلت العقبة الكأداء أمام نجاح المشروع الصهيوني في إبتلاع فلسطين وتكريس وجوده فيها، وتبديد الشعب الفلسطيني وتذويبه في الفضاء الخارجي لجغرافيا فلسطين.
قد مارس الشعب الفلسطيني ولا زال كافة أشكال النضال والمقاومة، الهادفة للحفاظ على الذات ومواجهة مخططات التصفية والطمس لقضيته في كافة مراحلها، واليوم في زمن التيه والتشظي والغياب العربي، والإنشغال بقضايا شتى، أشعلتها الحروب المفروضة عليه، وتكالبت فيها القوى الدولية والإقليمية، يجد الكيان الصهيوني فرصة ذهبية أن يكون شريكا مع هذه القوى في إقتسام الغنائم والهيمنة والنفوذ والدخول معها في توافقات وتفاهمات بعضها ظاهر وبعضها مستتر، هادفاً من وراءها إنهاء القضية الفلسطينية، والتخلص من أعباءها، بأقل التكاليف الممكنة.
من هنا تأتي سياسة الاحتلال القائمة على تأكيد الفصل بين مكونات الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة الوطنية، وخلق التباين بين قطاع غزة والضفة الغربية، لتقويض وحدة الشعب الفلسطيني والدفع بقطاع غزة بإتجاه مصر، وتقليص صلاحية السلطة الفلسطينية وإضعافها وصولاً إلى إسقاطها، وإعادة العجلة السياسية إلى الوراء في التعامل المباشر للإحتلال مع سكان الضفة الغربية، كل ذلك من أجل الهروب من الإستحقاقات الوطنية الفلسطينية في حدها الأدنى بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967م بما فيها القدس الشرقية.
إن هذه الأهداف ليست غريبة على سلطات الإحتلال الإسرائيلي، ولكن الغرابة أن تجد هذه الخطط توافقاً من أطراف عربية وفلسطينية، تحت ذرائع شتى تتذرع بها هذه الأطراف، منطلقة من أهداف وأجندات خاصة، قد أسقطت فيها البعد الوطني والقومي ووقعت في أخطاء جسيمة لن تحمد عقباها.
لقد بات المشهد الفلسطيني اليوم أكثر تعقيداً وصعوبة من أي فترة سبقت، وأصبح الكل في صراع مع الزمن، لكن التجربة الطويلة للشعب الفلسطيني وقيادته الوطنية تمثل مخزوناً لا ينضب، تعطيهم القدرة على مواجهة هذه التعقيدات والحفاظ على الذات وعلى القضية الفلسطينية بشقيها الأرض والشعب وبأبعادها المختلفة العربية والإقليمية والدولية، فمهما إشتد الصعب ستبقى قضية فلسطين، عصية على الطمس والتذويب، مهما علا الضجيج من النشاز من الأصوات، المنبعثة من الدهماء والغوغاء والعملاء والمتآمرين على وحدة الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة في وطنه.
من هنا نفهم سياسات الإحتلال الإسرائيلي والتي عبر عنها أفغيدور ليبرمان نحو التعامل المباشر مع الشعب الفلسطيني في مناطق الإحتلال سواء في غزة أو في الضفة، كذلك التحركات الإقليمية والدولية المشبوهة التي تتقاطع مع هذه السياسات التصفوية.
المطلوب من الشعب الفلسطيني اليوم أن يكون أكثر تماسكاً وتوحداً حول أهدافه الوطنية وقيادته الوطنية، وأن يضع حداً لحالة التشظي والإنقسام التي إستنزفت جهوده وخلقت المناخ والبيئة الملائمة لنجاح خطط العدو التصفوية، وفتحت المجال للقوى الإقليمية والدولية ولأصحاب الأجندات الخاصة للعبث في الشأن الفلسطيني.
الشعب الفلسطيني اليوم يعول أكثر من أي وقت مضى على وحدة حركة "فتح" ونتائج مؤتمرها القادم أن يمثل سفينة العبور إلى شاطئ النجاة، وإلى إستعادة الوحدة الوطنية، ووحدة القيادة والمؤسسة والبرنامج في إطار م.ت.ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، "وفتح" تمتلك التجربة والقدرة على النهوض بالحالة الوطنية الفلسطينية لمواجهة هذا المخطط التصفوي للقضية، وعربياً يجب أن يدرك الجميع أن القضية الفلسطينية لا زالت وستبقى قضية أمن وطني وقومي لجميع الدول العربية، ومن هنا يجب رفض التعامل مع القضية الفلسطينية بالقطعة، لابد من بقاء الإلتزام العربي بالقضية الفلسطينية إلتزاماً يستند إلى رؤيا وطنية وقومية شاملة، تهدف إلى تحقيق الحقوق القومية والوطنية للشعب الفلسطيني في إنهاء الإحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، ورفض التعامل مع هذا المخطط التصفوي للقضية الفلسطينية ورفض الفصل بين ما يجري في بعض الدول العربية وما يجري في فلسطين، لقد بات الجميع في دائرة الإستهداف الدولي والإقليمي والكيان الصهيوني جزء من هذه القوى الطامعة في إقتسام الغنائم والنفوذ والهيمنة في عالمنا العربي.
وستبقى فلسطين أقوى من الصعب ...!!!
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس