غادرنا فلسطين مكرهين وغادروا مثلنا ، عبرنا الجسر وكانوا شركاؤنا في العبور ، أقيم لنا مخيم طوارئ في جرش وأقيم لهم مخيم مثله ، درسنا في مدارس وكالة الغوث وكان المقعد الدراسي مشتركا بيننا وبينهم ، انتقلنا للمرحلة الثانوية وانتقلوا معنا ولكن هنا ابتدأت الحكاية لدي طبعا حيث بدأت أتساءل ما الفرق بيني وبين ابن مخيم غزة لماذا يدفع ثمن الكتب المدرسية وأنا أحصل عليها مجانا ، شعرت لحظتها بأن أبناء مخيم غزة وكأنهم جاؤوا من فلسطين مختلفة عن فلسطيننا نحن !!
سقت هذه المقدمة لأخوض في موضوع يؤرقني منذ زمن وكنت ألاحظ وكأن الخوض فيه أصبح من المحرمات ، وما دفعني بقوة للخوض فيه ، هو الجانب الإنساني المغيب عن واقع حياة هذه الشريحة من المجتمع الأردني ، فقبل قرابة الثلاثة أيام ذهبت للعلاج في مستشفى جرش الحكومي ، ولحسن حظي أو لسوئه لا أدري أيهما أنسب لفت نظري أحد المواطنين لاحظت أنه يبحث عمن يدله للحصول على تقرير طبي أو شيء من هذا القبيل ، وكعادتي دفعني الفضول لأسأله ما بك يا أخي ما الأمر ؟ وجاءت الصاعقة عندما انفجر قائلا زوجتي دخلت المستشفى للولادة ومكثت فيه مدة يومين فقط ، والآن المستشفى يطالبني بما يقارب الخمسمائة دينار بدل هذين اليومين ، وأنا أريد تقريرا بحالتها لأبحث عمن يتوسط لي للحصول على إعفاء ، تعجبت وقلت له لماذا خمسمائة دينار ؟ فأجابني أنا من مخيم غزة ، هنا عادت ذاكرتي بي للوراء وتذكرت زميلي في الثانوية الذي كان يدفع ثمن الكتب المدرسية ، حاولت أن أجد تفسيرا لما الاختلاف بيني وبينه في المعاملة لدى الدوائر الرسمية ، فلم أجد شيئا سوى الإجابة العقيمة وهي أنه من أبناء قطاع غزة ، وأنه لا يحمل رقما وطنيا ، وأنه لا يعتبر أردنيا لذلك يعامل معاملة أي إنسان أجنبي يدخل الأردن ، رغم علمي بأن بعض الأجانب والوافدين يحصلون على حقوقا أكثر مما يحصل عليه هذا الإنسان الذي عاش على أرض الأردن منذ قرابة الخمسين عاما بل أن غالبية أبناء قطاع غزة الذين هم من جيلي ولدوا وترعرعوا في الأردن
حاولت أن أهضم الأمر على مضض ولكني لم أستطع ، فالمساواة والعدالة وقوانين حقوق الإنسان وقيمنا الإسلامية وحتى عاداتنا العربية الأصيلة كلها لن تشفع عند الله لمن قرر أو ساهم في بقاء حال أبناء قطاع غزة في الأردن على ما هو عليه الآن من ظلم وشظف معيشة لا يقرها أي تشريع سماوي ولا حتى دنيوي .
يتشدق البعض بحجة الوطن البديل ، وأن أي تغيير على حال هذه الشريحة سيصب في خانة التوطين !!!
عجبي لكم تتحدثون عن التوطين والتوطين حاصل على أرض الواقع فأنا والكثير غيري كما أسلفت عبرنا الجسر سويا مع أبناء القطاع ومع ذلك فأنا احمل جواز سفر أردني ورقما وطنيا رغم أنني جئت من ارض فلسطين مثله فلماذا هو يحرم منها ، يأتي البعض ليقول أنهم كانوا يتبعون لمصر في قطاع غزة قبل الاحتلال الصهيوني ونحن كنا نتبع للأردن في الضفة الغربية حينها ، حسنا ولكنهم دخلوا الأردن بطريقة قانونية ولم يدخلوها عنوة ، وقد حاولت أن أجد لحالتهم شبيها في العالم لكني لم أجد إلا ربما البدون في إحدى الدول الخليجية ورغم ذلك فحال البدون أفضل قليلا منهم ، شردت بذهني قليلا متأملا ما يحدث لهذا العالم فوجدت أن أي دولة في العالم إذا دخل إلى أراضيها إنسان وعاش فيها ربما ربع هذه المدة يحصل على حق المواطنة والإقامة فيها ، حتى الولايات المتحدة الأمريكية والتي هي سبب كل ما حل فينا من نكبات ومصائب تعطي من يعيش فيها مدة زمنية لا تذكر قياسا بمدة إقامة أبناء القطاع في الأردن تعطيه الجنسية أو على الأقل الإقامة الدائمة بما تشمله من امتيازات وحقوق .
أعود للوهم الذي نعيشه وهو الوطن البديل وأتساءل مرة أخرى هل منح أبناء القطاع حق العلاج مثل لاجئي الضفة يسمى توطينا ؟ هل السماح لهم بالتعلم وبالتنافس على مقاعد الجامعات يسمى توطينا ؟ وهل معاملتهم في الجامعات مثل الأجانب بحيث يدرسوا على نظام البرنامج الدولي ويدفعوا رسومهم بالدولار مثلهم كمثل أبناء الخليج العربي مع فارق الدخل الشاسع بينهم هل هذا سيبعد شبح التوطين ؟
الممنوعات لا بل المحرمات على أبناء القطاع كثيرة جدا وبعضها مضحك لا تقبله حتى عقول أطفالنا الصغار ، ولكن سأحدثكم عن بعض منها لعل الكثير ممن لم يسمعوا بها يدركون واقعهم المؤلم وحياتهم التي هي اقرب للجحيم في بعض تفاصيلها : فابن قطاع غزة في الأردن ممنوع من الحصول على رخصة قيادة مركبة عمومية ! وحتى رخصة القيادة الخصوصية رسومها أعلى بكثير مما يفرض على الأردني ! ممنوع من حق امتلاك المنزل الذي تعب وكد طوال حياته للحصول عليه ! ممنوع من تسجيل أي مشروع تجاري باسمه مهما كان بسيطا ! ممنوع من اقتناء سيارة تعمل على الديزل ! يمنع ألمولود من الحصول على الجواز المؤقت أسوة بوالده إذا كانت والدته من غزة ! أي أنه يتبع لوالدته وليس لوالده بالمقابل نرى العكس حين يتعلق الأمر بمولود لام أردنية متزوجة من احد أبناء قطاع غزة بحيث يصبح المولود تابعا لوالده ولا يحصل على أي مزايا كون والدته تحمل رقما وطنيا ! تناقض ما بعده تناقض ! يمنع المتعلمين منهم من العمل أو الحصول على رخص مزاولة للمهن التي افنوا شبابهم وهم يكافحون لتعلمها ! للعلم هذه المهن كثيرة وبعضها يحتاجه سوق العمل الأردني ، فأنا اعرف طبيب أسنان من أبناء القطاع يجلس يوميا أمام شهادته ويلعن اليوم الذي فكر فيه بدراسة الطب ! ولدي مثال حي أيضا على هذا الأمر فزميلي الذي درس معي وتخرج مثلي معلما للتربية الخاصة قبل ثلاثون عاما ما زال يجلس بدون عمل ، لدرجة أنه أحيانا ينسي أنه تخرج معلما لهذه الفئة التي كان خريجيها ندرة في التسعينيات من القرن الماضي ، وحتى لا أظلم المشرع فقد سمح حديثا لبعض التخصصات التي يحتاجها سوق العمل بحق العمل وخاصة الطبية منها كالتمريض والمختبرات مثلا ولكنهم يحتاجون إلى رخصة مزاولة وهذه تحتاج إلى موافقات من الداخلية ومن الجهات الأمنية تطول مدة الحصول عليها وغالبا يواجهون برفض طلب المزاولة بدون سبب! وأخيرا تفضل عليهم رئيس الوزراء بقرار جائر وهو منع عملهم في القطاع الخاص إلا بعد الحصول على تصريح عمل وما رافق هذا القرار من أمور مبهمة حيث قيل أنهم يعفون من رسوم التصريح كونهم يعتبرون من رعايا الدولة الأردنية ! هذا الأمر أنا لم أستوعبه حتى الآن ، ومع ذلك فان الصعوبة تكمن في الحصول على التصريح حيث أن طلب الحصول عليه يحتاج موافقات لعدة دوائر كما قلت سابقا وفي النهاية ترفض غالبية الطلبات المقدمة بدون سبب واضح ، علما بأن غالبية الأعمال في القطاع الخاص مغلقة أمامهم باستثناء بعض الأعمال الهزيلة والتي يعزف الأردني عن العمل بها مثل قطاع الإنشاءات ومعاطات الدجاج .
قائمة الممنوعات تطول ولكن في الواقع إذا نظرنا لوضعهم الحالي نراه أصبح كوضع الوافدين على الأردن من الدول العربية الأخرى مثل مصر والعراق وسوريا ، وأحيانا تجد وضع الوافد ربما أفضل كونه جاء بمفرده دون أسرته لذلك يستطيع تدبر أموره بطريقة أو بأخرى وإذا لم يستطع فإنه يعود إلى بلده ، بينما ابن القطاع مجبر على البقاء هنا هو وأسرته ويترتب عليه متطلبات كثيرة مثل أي أسرة أردنية ، فكيف يستطيع تدبر أموره في ظل كل هذه الممنوعات ، ولو فكر بالعودة إلى بلده فهو ممنوع أيضا وكلنا نعلم هذا .
لن أطيل عليكم ولكن الأمر يفرض علي أن أتطرق إلى نقطة لا ادري مدى صحتها يتشدق بها البعض وهي أن سوء وضع أبناء القطاع الحالي هو نتيجة قرار ومطلب سياسي صادر من السلطة الفلسطينية في رام الله منعا لتوطينهم في الأردن ، كم أتمنى أن يكون هذا الكلام حلما أو كابوسا مزعجا لأنه أن صح فهذا يعتبر بنظري تدخل في السيادة الأردنية على أرضها وعلى رعاياها ، فمنذ متى كانت السلطة الفلسطينية تعبأ بهذه الشريحة وماذا قدمت لهم غير بضعة مقاعد للدراسة في الجامعات وإذا افترضنا جدلا أنها أي السلطة الفلسطينية مهتمة بهم وحريصة عليهم وقادرة على فعل شيء لهم فلتعيدهم إلى وطنهم إن استطاعت ! أو على الأقل فلتتحمل جزءا من المسؤولية تجاه متطلباتهم من ناحية المعيشة والصحة والعمل والتعليم وغيرها من المصاعب التي يواجهونها يوميا ، وخاصة بعد أن بدأت وكالة الغوث الدولية بتقليص خدماتها تدريجيا لهذه الشريحة من المجتمع في الأردن وهذا الأمر يعلمه الجميع ، أما وحسب ما نراه من عدم قدرة السلطة على تأمين هذه المتطلبات لمن يعيش في الأراضي المحتلة من فلسطين والتي تزعم أنها تسيطر عليها فعليها أن تقف إلى جانبهم في الحصول على هذه الحقوق المدنية والإنسانية أو لتصمت .
إذا في النهاية يتحتم على الدولة أن تنظر للجانب الإنساني لهذه الشريحة من المجتمع وتصرف النظر عن الجانب السياسي ، فهم لا يريدون دخول الحياة السياسية ولا يريدون رقما وطنيا والذي أصبح أشبه بصك الغفران بنظرهم ، وهم لا يريدون أي مكاسب قد تثير مخاوف من يفكر بالوطن البديل ، هم فقط يريدون حقوقا مدنية تسمح لهم بالعيش الكريم كباقي أبناء هذا الوطن ، فبدون هذه الحقوق مثل التعليم ، والعلاج ، والعمل وغيرها من أبجديات الحياة الكريمة ، كيف سيكون حالهم بعد حين؟ وماذا سنستفيد نحن كدولة أردنية ؟ بل لنكون صادقين ونقول ماذا سنخسر ؟ نعم ماذا سنخسر وهذا هو الأهم صدقوني لأننا سنخسر كثيرا فنحن نساهم بخلق أجيال لا فائدة منها بل ستكون عبئا على كاهل هذا الوطن ، لننظر للأمر من الجانبين الايجابي والسلبي سنجد أننا لن نجني بدون هذه الحقوق الإنسانية إلا جيلا جاهلا متعصبا حاقدا لا يبالي ولا يهتم لما يدور حوله ، فهل هذا ما نريد ، إنها مأساة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، وأنا لا أعتقد أننا في الأردن نريد أن نصل إلى هذه المأساة !!
والأمر ليس معقدا بنظري فبالإمكان تعديل بعض القوانين في سبيل إعطاء هذه الشريحة حقوقها المدنية والإنسانية ، فالقوانين والدساتير ليست آيات من القرآن لا يمسها التغيير وكلنا نتذكر كيف عدلت القوانين في أكثر من مناسبة كان أبرزها قانون فك الارتباط بين الضفتين رغم ما ترتب عليه من بعض التبعات التي أضرت بشريحة من المواطنين الأردنيين ومع ذلك أقر ، أتمنى من الله أن يحطم هذا المصطلح المسمى بالوطن البديل أو التوطين لأنه بات شماعة تعلق عليها جميع الأخطاء السابقة وكل جوانب القصور في القوانين والأنظمة والتشريعات ، وأن يدرك الجميع بأن الأردني من أصل فلسطيني سواء كان من الضفة أو من القطاع لن يتنازل قيد أنملة عن حقه في العودة إلى فلسطين التاريخية من بحرها إلى نهرها .
ماجد عبد العزيز غانم
[email protected]