إنتهت الإنتخابات الأمريكية الأكثر ابتذالاً ونشرا للفضائح والمؤامرات والغسيل الوسخ بفوز المرشح الجمهوري الملياردير دونالد ترامب الذي وصفه الإعلام الأمريكي بالإنسان السفيه،لكي يصبح السفيه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية،وقبل الحديث عن ترامب وبرامجه وسياساته الداخلية والخارجية،لا بد من القول بأن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية منذ تسييّدها للعالم قائمة على نشر الفتن والحروب بين البلدان العربية،وبين أبناء الشعب الواحد من أجل تفكيك نسيجه المجتمعي وتدميره بيد أبنائه،والسياسة الأمريكية تقوم على أساس مصلحة أمريكا اولاً ولو على حساب أمن واستقرار دول أخرى،وأمريكا كما عبر قادتها أكثر من مرة وآخرهم أوباما بأن أمريكا ليس لها صداقات دائمة،بل مصالح دائمة في المنطقة.
ولعله من المفيد وضع القارىء في حقائق الأمور،بأن من يصنع السياسة الأمريكية ليس الرئيس،بل الكونغرس والبنتاغون ومراكز البحث الإستراتيجي،ومن يتحكم في مفاصل الحكم الرئيسية هي الكارتيلات الإحتكارية العسكرية والمالية،والرئيس هو أداة تنفيذية بيد تلك الكارتيلات الإحتكارية المسيطرة على السياسة والإقتصاد والإعلام والتجارة والمؤسسات المالية والمصرفية.
فوز ترامب ليس بالمفاجىء أو الخارق للتوقعات،فهذا الرجل عزف على الوتر الحساس للمجتمع الأمريكي الذي ضاق ذرعاً بسياسة أوباما والديمقراطيين في دعمها ووقوفها الى جوانب قوى التطرف والإسلام السياسي على حساب رفاهية المواطن الأمريكي ونموه الإقتصادي،وبرنامج ترامب الأكثر "شوفينية" وتعصب للمواطن الأمريكي من أصل أمريكي وعنصرية ضد المهاجرين من الملونين والعرب والمسلمين أو المتأسلمين.
فوزه سيشكل كابوساً وإرباكاً لحلفاء امريكا من دول الخليج العربي على وجه التحديد،وهي من أغدقت اموال التبرعات بملايين الدولارات على صناديق مرتبطة بالسيدة كلينتون لكي تفوز في الإنتخابات،ويشكل فوزها ضمانه لها بهذه الرشاوي المالية،بعدم تغير سياساتها تجاه الخليج وسوريا والعراق واليمن،لأن منافسها الجمهوري ترامب ضد قوى الإسلام السياسي وضد "داعش" وقوى التطرف ويدعو الى ضربها بقوة،وبالنسبة لنا كفلسطينيين،فلن يكون تغيير استراتيجي في السياسة الخارجية الأمريكية،فترامب على الرغم من تطرفه وفهلويته،فهو سيكشف عن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية بدون مكياج وبدون رتوش واوهام الجزر،تلك الأوهام التي عاش عليها العرب والفلسطينيون،حيث أن تطبيلهم وتزميرهم وترويجهم لأوباما وصل حد القناعة بأن السياسة الأمريكية وصلت لحظة التغيير الإستراتيجي مع " اسرائيل" وبأن "الخليفة" اوباما يتجه لرسم علاقات استراتيجية مع العالم العربي والإسلامي،وسيمنح الفلسطينيين دولة على حدود الرابع من حزيران/1967،لكي نكتشف بأن ذلك لم يكن اكثر من شعارات رنانة وإسطوانة مشروخة وحمل كاذب،وليتمخض الجبل في النهاية ويلد أقل من فأر،فقد انتهت الولايتين الأولى والثانية له،دون أن يحقق وعده بإقامة الدولة الفلسطينية،حيث وجدنا الأمور إنتهت لكي يكون اوباما أكثر الرؤوساء الأمريكيين وفاءاً ولاءاً ودعماً لإسرائيل وتنكراً للحقوق الفلسطينية حتى في بعض القضايا المتعلقة بحقوقنا كشعب فلسطيني كان اكثر تطرفاً من الإسرائيليين أنفسهم.
فوز ترامب لم يكن كما قلت بالمفاجىء،فهو نتاج لتحولات على المستوى العالمي منذ فترة،حيث صعدت قوى اليمين في أكثر من بلد ودولة ونمت النزعات القومية والوطنية،كإرتدادات على ما يحدث في المنطقة العربية والإقليم،حيث قوى التطرف والإرهاب،والهجرات الواسعة من تلك البلدان لدول أوروبا وأمريكا،وما يتركه ذلك من تأثيرات على واقعها الإقتصادي والإجتماعي وامنها وإستقرارها ونسيجها المجتمعي،دفع بها نحو النزعات القومية والوطنية والإنكفاء على الذات.
ونحن لسنوات خلت كنا نعتقد بأن قوى اليسار في صعود كبير،وتسجل انتصارات كبرى على صعيد اوروبا ودول امريكا اللاتينية،ولكن لاحظنا منذ فترة بأن هناك إنقلابات كبرى بفضل الرأسمالية المتعولمة والمتوحشة وسطوتها ونفوذها،قادت الى تراجع وسقوط انظمة يسارية في أكثر من بلد ودولة،ولكي يأت انتصار ترامب في الإنتخابات الأمريكية،ليدشن عصر قوى اليمين والتطرف،هذا اليمين المتطرف الذي يقود دولة الإحتلال الإسرائيلي،وكذلك هذا اليمين هو من صوت على خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي،والذي سيقودها نحو المزيد من الإنكفاء والتفكك،وبإنتصار ترامب في أمريكا سيتصاعد ويتقوى حلف اليمين،"تيرزا ماي" في بريطانيا وربما "مارينا لوبان" الفرنسية،وسينضم لذلك مروحة واسعة من القوى المحسوبة على هذا التيار في العديد من الدول مثل هولندا والدنمارك وبولندا وغيرها.
على الصعيد الداخلي سيعمل ترامب على تعزيز وتقوية الإقتصاد الأمريكي وتوفير نوعاً من العدالة الإجتماعية للطبقات الشعبية،وربما سياساته ستقود الى تفكك الطبقة الوسطى التي تشكل عصب الحزب الديمقراطي،وكذلك ستشهد الولايات المتحدة حالة من تصاعد قضايا العنصرية، والتنابذ الوطني، وميل الولايات الغنية للاستقلال، والتصدّع الطبقي،والمواجهات النقابية،والإفلاسات المالية،وفضائح الاختلاس والرشى، وانهيارات البورصة.
وعلى الصعيد الخارجي سنشهد بداية تراجع امريكي نحو الإنكفاء الداخلي،دون ان يعني ذلك تخلي امريكا عن مصالحها ونفوذها في المنطقة،ولكن لن تقف الى جانب قوى الإسلام السياسي والتطرف،فهي ترى بان تلك القوى والحركات تشكل خطراً على نقاء مجتمعاتها وعلى امنها وإستقرارها مستقبلاً،ولذلك فالعلاقات الأمريكية مع حلفائها التقليديين من عربان الخليج ستصاب بشرخ ليس بالبسيط،وربما هذا سيوقف الإندفاعات الخليجية والتركية نحو مواصلة دعمها وتمويلها وتسليحها للجماعات الإرهابية والتكفيرية في سوريا والعراق،ومواصلة حرب ما يسمى ب "التحالف" العربي ضد اليمن.
ولكن على الصعيد الفلسطيني،فسنرى مواقف امريكية اكثر سفوراً ووقاحة تجاه حقوق شعبنا وقضيتنا،واكثر دعماً ومساندة لإسرائيل في كل ما تقوم به من إجراءات وممارسات قمعية وإذلالية وعنصرية بحق شعبنا الفلسطيني من عقوبات جماعية وتطهير عرقي و"تغول و"توحش" إستيطاني،ورفض لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
نحن ندرك بأن السياسة الخارجية الأمريكية لن تشهد إنعطافة حادة،فنحن شهدنا عندما جرى إحتلال العراق في عهد الرئيس بوش الإبن،عندما خلفه كلينتون،لم نلحظ تغير استراتيجي في السياسة الأمريكية،فالحزبان متفقان على ان مصالح أمريكا اولاً،وانه لا صداقات دائمة لأمريكا في المنطقة،بل مصالح دائمة،ولذلك علينا أن نستيقظ من الوهم عرباً وفلسطينيين،وأن لا نستمر في سياسة وعقدة "الإرتعاش" السياسي المستديمة في التعامل مع امريكا،بل علينا ان نستعيد عناصر قوتنا،وان نتجاوز خلافاتنا ونوحد صفوفنا،وكفلسطينيين علينا أن ننهى إنقسامنا ونستعيد وحدتنا الوطنية،ونرسم استراتيجيتنا الموحدة وفق برنامج كفاحي ونضالي مشترك،يمكننا من الصمود والمقاومة،وكعرب يجب علينا أن ننبذ عوامل فرقتنا واحترابنا المذهبي والطائفي،لكي نستطيع مواجهة ما يحاك ضد امتنا من مشاريع تآمرية علينا،تستهدفنا كجغرافيا وثروات وجيوش وانظمة حكم وهوية.
بقلم/ راسم عبيدات