المؤذن واستثارة عقيدة الخوف في اسرائيل..

بقلم: سامح المحاريق

لا أمتلك معرفة كافية بما قرأه كافكا، ورواياته يمكن أن تنتج شعوراً بأنه لم يكن قارئاً جيداً، وربما تشكلت ثقافته أساساً من الأساطير اليهودية التي كان يرويها الحاخامات للأطفال.
ولكن ثمة دلائل لدى الباحثين في حياة كافكا المبكرة حول هوسه بالمجلات الخاصة بكمال الأجسام، فيما يوضح معاناته من نقص نفسي شديد جراء ضعف بنيته الجسدية ومعاناته من حالة الضآلة والضعف بين أقرانه، وينضاف النقص الذي يولده التكوين الجسدي إلى مشاعر الانتماء إلى عرق غير محترم من وجهة النظر الأوروبية، وفوق ذلك، كانت مظاهر الحياة اليهودية في الغيتو تثير الريبة، وتمسك اليهود بموقعهم، لدرجة أنهم واجهوا أوامر هدم الأسوار حول الغيتو وفق أحد القوانين الصحية في مطلع القرن العشرين بوضع أسلاك شائكة حول مناطق سكنهم.
كانت الحركة الصهيونية تدرك هذه العقدة اليهودية، وبدأت تروج لصورة اليهودي القوي والمقاتل، وكان ذلك عاملاً لصعود الإشكناز الذين يشتركون في البنية الجسدية مع الأوروبيين، الأمر الذي مكنهم في أوقات كثيرة من إنكار ديانتهم اليهودية والتظاهر بالانتماء للمسيحية، والاختلاط مع المجتمع الغربي، بينما كان اليهود السفارديم يشبهون الشرقيين والأتراك والعرب ببشرتهم الداكنة وقاماتهم القصيرة، ولذلك لم يتمكنوا من تشكيل الأغلبية في الحركة الصهيونية، التي صعدت بسرعة وحملت على كاهلها مهمة تخليص أوروبا من اليهود، وإرسالهم إلى أي مكان، فبعض الصهاينة كانوا يعتقدون بأن أوغندا أو أي موقع آخر يمكن أن يناسبهم من الناحية الاقتصادية أكثر من فلسطين، ولكن ترويج المشروع بين اليهود المتدينين، ومعظمهم من الشرقيين الفقراء لم يكن ليتقدم دون يافطة أرض الميعاد.
المشروع الصهيوني البراغماتي العلماني انطلق يوظف التراث التوراتي للتخلص من الشرقيين في أوروبا، وهم من غير المتلائمين لأسباب عرقية وشكلية صرفة مع محيطهم العام، فاليهودي هو المختلف بالنسبة للإنسان الأوروبي، الشخص الذي لا يشبهني، ولا يشبه أقاربي أو أصدقائي، بشرته الداكنة مرة أخرى ترتبط بالظلام والكراهية التي دفعت بالمسيح إلى الصليب، هذه الأمور لم تكن لترد بصورة صريحة في روايات كافكا، فما قدمه كان تجريدياً وغائماً قياساً بالصورة الصريحة التي قدمها اسحق سنجر (الصهيوني المتحمس والحائز جائزة نوبل) في رواياته. العقد النفسية المتشابكة هي مدخل تفهم العقلية اليهودية، وما دامت إسرائيل تمضي، وهي لا تستطيع أن تفعل غير ذلك، في مشروع الدولة اليهودية، فإنه يجب أن توضع دائماً مرحلة الغيتو بوصفها شكلت الارتداد التشريعي الاسرائيلي للتمركز حول علاقة اليهودي بالعالم من حوله (الأغيار)، ففي الأندلس مثلاً وشمال افريقيا والمشرق العربي وآسيا لم يكن اليهودي يشعر بأنه مختلف كثيراً عن الآخرين، كما أن وضعه في التراتبية الاجتماعية لم يكن سيئاً، حتى أنهم بأصولهم السامية كانوا بمحاذاة العرب في كثير من الأوقات ويحظون بموقع أفضل من الفرس والأتراك والقوقازيين والأفارقة.
في أوروبا التي شهدت الوجود اليهودي متزامناً مع اجتياح وباء الطاعون تقريباً كان الربط بين الظاهرتين مغرياً لعقلية متواضعة وبسيطة في تعاملها مع معطيات الحياة، ولم يكن الأوروبيين يعرفون من الغرباء على أراضيهم أي أحد على الدرجة نفسها من الاختلاف التي يشكلها اليهود باستثناء المغول الذين اجتاحوا روسيا في القرن الثالث عشر، الأمر الذي جعل الأوروبيين يعيشون علاقة مضطربة مع الغرباء مقارنة بالمسلمين الذين تعايشوا في دول متعددة عرقياً ضمن معايير العالم القديم. هذه العلاقة دفعتهم لمزيد من المحاصرة لليهود في أحيائهم، التي شكلت مجاهل سكانية على هوامش المدن، وكانت إلى حد بعيد هادئة لمن يعبر بجوارها في الخارج، فقط العتمة كانت تمثل إشارات على الوجود اليهودي، وكانت الجلبة والصوت المرتفع يرتبط عند اليهودي بحالة هجوم من المواطنين الذي اعتادوا أن يحملوا اليهود مسؤولية أي جريمة غامضة، ويمكن في الإطار العام لهذه النفسية تفهم كيف يتأذى المجتمع في اسرائيل من صوت الأذان، الأمر الذي دفع بمواجهة بين النواب العرب واليهود في الكنيست، وكانت من أحداثها رفع النائب الطيبي للأذان في الكنيست ودعوة النائب حنين الزعبي لمن يضايقهم الأذان للعودة من حيث جاءوا، أوروبا تحديداً.
اسرائيل بوصفها دولة تجيد التلاعب بالرموز والجانب العاطفي في أي قضية، تعلم جيداً أن المعركة حول الأذان خاسرة تماماً، وأنها يمكن أن تستدعي موجة كبيرة من المواجهات وهذه المرة وراء الجدار العازل، فالمؤكد أن ثمة متغيرات ومستجدات تدفع اسرائيل لهذه المعركة، وهي التي اعتادت بفجاجة أن تهنئ الحجاج من العرب الفلسطينيين الذين يحملون جنسيتها بعودتهم من أداء مناسك الحج، وأن تدفع بالمتحدث الرسمي باسم جيشها أن يقاسم جنوده الإفطار بينما يلقي موعظة صغيرة عن تنوع اسرائيل وتسامحها وانفتاحها.
المتغير الأساسي هو رغبة اسرائيل في معرفة مدى عمق التحولات في وجهات النظر التي حدثت في المجتمع الفلسطيني بعد وصوله إلى مرحلة من خيبة الأمل في عمقه العربي والإسلامي، وتحول القضية الفلسطينية إلى مجرد بند في مشكلات المنطقة، بعد أن تصدرت طويلاً قائمة الأزمات والتحديات، فكانت قضية الشرق الأوسط تعني تحديداً وحصراً القضية الفلسطينية، واليوم لا تجد هذه القضية لنفسها سوى مكان متواضع في ذيل نشرة الأخبار.
أتى ظهور "داعش" ومشتقاته على مقربة من اسرائيل، بوصفه العامل الذي يمكن أن يؤدي لها خدمات مهمة بطريقتين متناقضتين، فمن ناحية تعتبر المطالبة بدولة دينية تبريراً الدولة اليهودية التي تنادي بها اسرائيل، ومصلاً وقائياً للمجتمع الاسرائيلي وهويته المختلة، لتوحده في مواجهة دولة دينية تقوم رؤيتها على إفناء الوجود الإسرائيلي، وفي المقابل، فإن فشل الدولة الدينية وظهورها بالمشهد الفظائعي الذي قدمه "داعش" ومشتقاته، من شأنه أن يجعل الجرائم الاسرائيلية مقبولة على الأقل من باب مقارنتها مع الجرائم التي ارتكبتها هذه التنظيمات تجاه المدنيين، ويجعل اسرائيل عنصراً في تيار يناهض هذه الوحشية، وهو ما يحاول الاسرائيليون استغلاله أيضاً في طروحاتهم للتقارب مع منطقة الخليج العربي.
الأذان هو بالونة اختبار، وردود الفعل التي تصاعدت في الكنيست ستربك الاسرائيليين، خاصة بعد أن أتبعتها تصريحات جريئة وشجاعة من المطران عطا الله حنا رفضت المقترح بصورة كاملة، ووضعت أصوات الأذان وأجراس الكنائس في كفة واحدة، وكانت مواقف المسيحيين الفلسطينيين مشرفة، لدرجة التلويح بالتضامن مع المسلمين ورفع الأذان من الكنائس في فلسطين.
الأذان يخيف اسرائيل لأنه يعمق حقيقة غربتهم عن المكان، ويستحضر في ذاكرتهم الجلبة التي كانت تترافق مع الهجمات الأوروبية على الأحياء اليهودية، ويغفلون تماماً أن الحضارة العربية حملت في طياتها عناية كبيرة بجانب حضور الصوت والسماع في مسارها اليومي والتاريخي بينما كان اليهود يبحثون عن الصمت من حولهم ويمارس ضجتهم الحسيدية التقليدية في الأقبية المعزولة وبحرص شديد على ألا تصل أصواتهم إلى خارج الغيتو.
يمكن أن الموقف الأخير موضوع لدراسة مستفيضة في اسرائيل وتحليل معمق ستضطلع به الجامعات والمراكز البحثية، بينما للأسف، ومهما كانت وتيرة الانفعال سيبقى مجرد شكل من رد الفعل، كما جرت العادة، في مجتمعاتنا ودولنا العربية.

سامح المحاريق
كاتب أردني