"الاعتراف الفلسطيني بدولة إسرائيل لا يمكن أن يكون مجانياً، إذ لا بد أن يقابله اعتراف إسرائيلي بدولة فلسطين... يجب أن يفهم السيد نتانياهو أنه ما لم يؤمن بحل الدولتين فلن يكون هناك سلام... نريد منه أن يقول كلمتين: أنا مع حل الدولتين على حدود 67، إذا قال هذا كل شيء سيكون جاهزاً للمفاوضات" ("الأيام" الفلسطينية، 12 - 11).
هذا ليس كلاماً لمسؤول في منظمة أممية، ولا لمحلل سياسي، وإنما هو للرئيس محمود عباس، المتحكم بتقرير الخيارات الوطنية الفلسطينية، والذي هو في الوقت ذاته رئيس المنظمة والسلطة و "فتح"، أي الكيانات الرئيسية للفلسطينيين، منذ أكثر من عقد.
هذا التصريح الذي جاء في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الروسي مدفيدف (رام الله، 11 - 11)، يثير تساؤلات وملاحظات عدة، أولها: هل الرئيس الفلسطيني لا يدري أنه تمّ الاعتراف بإسرائيل مجاناً منذ قرابة ربع قرن، وفق اتفاق أوسلو؟ وثانيها، أن الرئيس يتوعّد بأنه لن يكون هناك سلام إذا لم يستجب نتانياهو لحل الدولتين، في حين أن إسرائيل لم تشعر في أي مرحلة بأنها في أمان واطمئنان أكثر مما شعرت به في عهده، منذ 2005 حتى الآن. والسؤال هنا: ما الذي بقي للفلسطينيين، في هذه الظروف العربية والإقليمية والدولية، ومع تراجع مكانة قضيتهم، للضغط به على إسرائيل؟ وهل الرئيس لا يدرك أن الفلسطينيين لم يعودوا يمتلكون قرار الحرب والسلام، وهم لم يمتلكوه يوماً إلا بحدود، علماً أن الأمر لا يقتصر على عدم قدرتهم على مواجهة إسرائيل عسكرياً، أو عجزهم عن استعادة الكفاح المسلح، أو افتقادهم القدرة على إطلاق انتفاضة شعبية ثالثة، وإنما بتفكك مجتمعاتهم، وهشاشة كياناتهم السياسية، وغياب المشروع الوطني الجامع. وثالثها، أن التصريح يتضمن استجداء كلمتين فقط من رئيس حكومة إسرائيل لاستئناف المفاوضات، وهذا غريباً بعد كل تلك التجربة التفاوضية المذلة والمضنية والمعقدة التي بات لها أكثر من عقدين، والتي لم تفضِ إلا إلى تبديد حقوق الفلسطينيين، وفرض الإملاءات عليهم، وكل ذلك في سبيل الإصرار على الارتهان لخيار الدولة الفلسطينية المستقلة، وعدم اعتماد أي خيار آخر كبديل أو حتى كخيار مواز.
في الواقع لا شيء يسير في شكل سليم في عهد الرئيس أبو مازن، لا الكيانات الجمعية ولا الخيارات السياسية، حتى أنه هو ذاته لم يسترشد بالانتقادات التي كان دأب على توجيهها لسلفه، الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بخصوص التخلي عن القيادة الفردية والمزاجية، وعدم الجمع بين الرئاسات الثلاث (للمنظمة والسلطة وفتح)، وذلك إبان احتدام الخلاف بينهما، في فترة الانتفاضة الثانية، والتي نجم عنها تقديمه استقالة مدوية من منصبه كرئيس للحكومة، التي لم يستمر فيها، في حينه، سوى بضعة أشهر (آذار - مارس، أيلول - سبتمبر 2003).
عدا مواجهته الاستحقاق المتمثل في إخفاق خيار التسوية، وهذا ليس جديداً، فإن الرئيس الفلسطيني يواجه استحقاقين آخرين كبيرين وخطيرين، في الأسابيع القليلة المقبلة. الاستحقاق الأول، يتعلق بعقد المؤتمر السابع لحركة "فتح"، وهي كبرى المنظمات الفلسطينية (أواخر هذا الشهر)، مع أنه لا يوجد ما يدلّ على أن هذا المؤتمر سيستطيع انتشال هذه الحركة، وتالياً العمل الفلسطيني، من الأزمة المعششة فيهما. ومعلوم أن المؤتمر السابق عقد قبل سبع سنوات (2009)، من دون أن يؤثر ذلك شيئاً في انتشالها من أزمتها التي دخلتها بعد تحولها إلى حزب للسلطة، وبعد افتقادها زعيمها ومهندسها (ياسر عرفات، في 2004). ناهيك عن أن المؤتمر ينعقد هذه المرة بغرض الالتفاف على الضغوط العربية الرسمية، التي تحاول فرض صيغة معينة لانتقال القيادة في الكيانات الفلسطينية، وربما كانت هذه هي الوظيفة الأساسية للمؤتمر المذكور، بالنظر إلى ضعف التهيئة له، وعدم طرح وثائقه على النقاش العام، وغياب المعطيات التي تفيد بأن ثمة محاولة جادة فيه لمراجعة نقدية للتجربة الماضية أو لتطوير أوضاع الحركة في ثقافتها السياسية وبناها التنظيمية وعلاقاتها الداخلية، إذ يبدو مجرد مؤتمر للانتخاب وتجديد شرعية الطبقة السياسية السائدة لا أكثر من ذلك.
فوق ذلك من المفترض أن يلي التئام مؤتمر "فتح" عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، علماً أن لا أحد يعرف معايير عضوية هذا المجلس التي تتم بالتعيين وبالكوتا، ولا ادعاء التفاؤل بإمكان استنهاض منظمة التحرير. هذا يشمل واقع السلطة أيضاً، التي أضحت عرضة للتآكل مع تزايد دور الإدارة المدنية الإسرائيلية، وتعزز الهيمنة الناعمة والخشنة لإسرائيل على فلسطينيي الضفة وانتهاء الآجال الشرعية للرئاسة وللمجلس التشريعي. هذا يعني أن ثمة أزمة شرعية وأزمة كيانية في الساحة الفلسطينية، وهاتان لا تبدو الطبقة السياسة الفلسطينية في أوضاعها الراهنة راغبة ولا مؤهلة في إيجاد حلول لهما.
الاستحقاق الثاني يتمثل في فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، والذي يثير بمواقفه المخاوف من احتمال تغيير السياسة الأميركية المتّبعة، إزاء القضية الفلسطينية، حتى لو كانت تأتي على مجرد وعود ومواقف نظرية مع انحياز مطلق لإسرائيل.
وفي الواقع، جاء انتخاب ترامب في واحدة من أصعب المراحل على الفلسطينيين، حيث أضحت قضيتهم خارج سلم الأولويات العربية والإقليمية والدولية تقريباً، وبالنظر إلى الصعوبات والتعقيدات والانقسامات والإحباطات التي يواجهونها بعد كفاح نصف قرن. وعليه، فمن الواضح أن ترامب الذي يفتقد أي ثقافة سياسية، أو الذي يظهر لا مبالاة إزاء السياسة الخارجية، مع إبداء عطف كبير على إسرائيل، وإعجاب بها، لن يولي قضية الفلسطينيين الاهتمام، ولو الشكلي أو الديبلوماسي، الذي كانت تحظى به في عهد الإدارات السابقة. ولعل تصريحه لصحيفة "إسرائيل اليوم" يؤكد ذلك، إذ يقول: "إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط والمدافعة الوحيدة عن حقوق الإنسان وتشكل شعاع أمل للكثيرين... بإمكان إدارتي أن تؤدي دوراً مهماً في مساعدة الجانبين من أجل تحقيق سلام عادل ودائم، وهو الذي يجب تحقيقه بواسطة مفاوضات بين الجانبين نفسيهما وألا يُفرض عليها من جانب آخرين"، في حين لا يجد أبو مازن ما يقوله سوى طلبه الغريب من ترامب فرض حل الدولتين، مع أنه يعرف أن كارتر وبوش الأب وكلينتون وأوباما لم يستطيعوا شيئاً، ولا حتى تفكيك مستوطنة في الضفة، أو مجرد تجميد جزئي للمستوطنات.
قصارى القول، الفلسطينيون ليسوا في حاجة إلى خطابات كهذه، ولا إلى الاستمرار على رهانات ثبت فشلها، بمقدار حاجتهم إلى مراجعة خياراتهم السياسية وتجربتهم الكفاحية بطريقة نقدية ومسؤولة، وإعادة بناء كياناتهم الوطنية، وضمن ذلك إتاحة توليد قيادة جديدة بطريقة تمثيلية وديموقراطية، بدلاً من ترك الأمور للأهواء أو للتدخلات الخارجية المريبة.
ماجد كيالي
* كاتب فلسطيني - سوري