حرائق النار وحرائق التحريض ايضا

بقلم: عماد شقور

"وكان بعد مدة، في أيام حصاد الحنطة، أن شمشون افتقد امرأته بجدي معزى، وقال: أدخلُ إلى امرأتي، إلى حجرتها، ولكن أباها لم يدعْه أن يدخل. وقال أبوها: اني قلتُ أنكَ قد كرهتها، فأعطيتُها لصاحبك، أليست أختها الصغيرة احسن منها، فلتكن لك عوضا عنها. فقال لهم شمشون اني بريء الآن من الفلسطينيين إذا عملت بهم شرا. وذهب شمشون وامسك ثلاثمئة ابن آوى واخذ مشاعل وجعل ذَنَبَا إلى ذَنَبٍ ووضع مشعلا بين كل ذنَبين في الوسط. ثم أضرم المشاعل نارا وأطلقها بين زروع الفلسطينيين فاحرق الأكداس والزرع وكروم الزيتون". (التوراة، سفر القضاة، الاصحاح 15، الآيات:1-5).
هكذا يعرف من يدرسون ويتعلمون التوراة، ان البطل اليهودي شمشون، بطل "تموت نفسي مع الفلسطينيين" في غزّة، انتقم من الفلسطينيين "المتسلِّطين" على اليهود في ذلك الزمان، ليس باشعال ثلاثمئة حريق صغير، كما كان ممكنا له ان يفعل، وانما "اكتفى" بمئة وخمسين حريقا، لكنها كبيرة، بفعل تحرك كل ابنَي آوى بسرعة بطيئة، تكفي للتأكد تماما من امساك النار بحقول قمح الفلسطينيين "ايام الحصاد"، وبكروم زيتونهم ايضا.
تذكرت هذا المقطع من قصص/اساطير التوراة، وانا اتابع، مع ملايين غيري، احداث وتطورات موجة الحرائق التي ضربت احراشا في كل ارض فلسطين. بلغ عددها اكثر مئتي حريق، خلال ساعات وايام معدودة، بعضها حرائق صغيرة، فيما بعضها الآخر حرائق متوسطة، الا ان بعضها كانت حرائق هائلة، اكل لهيبها احراشا ومصالح اقتصادية وبيوت سكن وعمارات. بلغ عدد المواطنين الذين تم اخلاؤهم في حيفا وحدها ستون الف، غالبيتهم العظمى من اليهود، ولكن بينهم عربا فلسطينيين ايضا. واضطرت اسرائيل الى الاستعانة بفرق اطفاء جوية، من دول الجوار وغير الجوار، كما قبلت عرضا فلسطينيا بارسال بعض سيارات وفرق الاطفاء الفلسطينية، في صورة حدث يذكر بحدث مطابق قبل بضع سنين، اثناء حريق جبل الكرمل الشهير.
رافق اندلاع الحرائق، ولحق به، وخاصة في مرحلة الذهول من كثرة وكثافة عدد الحرائق، ومرحلة التوجس والتفكير بالعواقب، ووضع السيناريوهات لتحديد اسباب تلك الحرائق، وكيفية معالجة الامر، اربعة تطورات، يخدع المتابعون انفسهم لو قالوا انهم لم يتوقعونها، او حتى انهم لم يتوقعوا اياٍّ منها:
ـ اول تلك التطورات كان انشغال اجهزة ورموز العنصرية الاسرائيلية، بالتحريض على الفلسطينيين في اسرائيل، وعلى الفلسطينيين ضحايا الاستعمار الاسرائيلي، (هل هناك ضرورة لاضافة "البغيض" ليستريح موتورون، يعتقدون ان اضافة هذه الكلمة ضرورية وكافية لـ"منح" قائلها "شهادة شرف الوطنية"، وكأن هناك استعمارا او احتلالاً "ابن حلال"، في حين ان هناك استعمارا بغيضا!! او كأن هناك عدوانا لطيفاً غير غاشم مثلاً!!)، مُلمّحين ومصرحين بان الحرائق، او نسبة عالية منها، هي حرائق مدبّرة ومُفتعلة من قِبَلِ "عناصر تحركها مشاعر قومية متعصبة".
ـ اندفاع انساني طبيعي ومتوقع للعديد من الاحزاب والجمعيات والمؤسسات والبلديات الفلسطينية في اسرائيل، وكان اولهم ابن حيفا ايمن عودة، الذين بادروا بإدانة التحريض على الفلسطينيين في اسرائيل، والتحدث بصريح العبارة عن التضامن مع ضحايا حريق الكرمل الثاني، وفتح ابواب بيوتهم وجمعياتهم ومؤسساتهم لاغاثة الضحايا، دون اي مِنّة او طمع باسترضاء، واستضافة ما امكن من العائلات المنكوبة فورا، والى حين ايجاد حلول لمآسيهم.
ـ كان التطور/الحدث الثالث ايضا متوقعاً، إذ سارع موتورون فلسطينيون وعرب باعلان فرحهم وسعادتهم باندلاع تلك الحرائق، بل و"جنّد" بعضهم الله نفسه في "معركتهم الوهمية" العاجزة، معلنين، (باعتبارهم "الناطق الرسمي" باسم الله)، ان موجة الحرائق هي رسالة تحذير من السماء، ردّاً على توجه في البرلمان الاسرائيلي العنصري، هو في الاساس توجه غبي واستفزازي واخرق، لمعالجة مسألة قوة مكبرات الصوت في بعض مآذن بعض المساجد.
ـ اما التطور الرابع الملفت للانتباه، فقد كان تسابق بعض "المحللين" الفلسطينيين والعرب في الاستدلال،..".اثر متابعة دقيقة، لتداعيات تعرض الكيان، لموجة الحرائق التي اندلعت"، على ان اسرائيل، او قل "الكيان الصهيوني"، هو كيان هشّ. فبضع حرائق فقط شلّت قدراته المُدّعاة، واجبرته التوسل للنجدة وللانقاذ. الامر الذي يعني في نظرهم، الاقرب الى العمى منه الى قصر النظر، ان الخلاص والتحرر من الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي، لا يستدعي التقدم والجدية والتصميم، اذ يكفي بضعة لترات من مواد حارقة، وبضعة اعواد من الكبريت، للانتصار ومحو اسرائيل، لتصبح "اثرا بعد عين". وذكّرني هذا بردي عندما جاءني جار، اثناء حرب اسرائيل على قطاع غزة قبل غزّة منشرحا، وهو يبلغني ان صفارات الانذار انطلقت في تل ابيب ومحيطها، فقلت له: يبدو ان لا صفارات انذار في غزّة، إذ لو كان فيها وفي الضفة الغربية وكل ارض فلسطين صفارات انذار، لكانت تُولوِل، دون توقف، منذ عام النكبة حتى يومنا هذا.
ليس في كل ما تقدم دعوة للاستكانة والقعود والركون الى الاحباط، ولا حتى الاكتفاء العاجز متمثلا بالتغني بالصمود. انه دعوة الى التدبّر وإعمال العقل، لمواجهة الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي ودحره. ومنذ عقود عديدة سمعت من والدي "سولفية"، (اي رواية يتداولها الناس، بلهجة اهلي في سخنين)، ان واحدا من خدم احد الامراء جاء باشّا وفرِحا ليبلغه: مات الكلب!. وعندما استفسر الامير من خادمه، ابلغه هذا، ان المقصود هو زعي قبيلة اعلن الامير الحرب عليها، فقال الامير لخادمه: وهل من كنت انا اقاتله كلب؟ هل يقاتل الامير كلبا؟؟ الامير يقاتل اميرا،… ألا إنك انت ايها الخادم كلب، واخضعه للعقاب. ويروون قولا مأثورا وحكمة ينسبها البعض الى علي بن ابي طالب، رابع الخلفاء الراشدين تقول: "من تُكرمه تصبح اميره، ومن يُكرمك تصبح أسيره، ومن تعاديه تصبح نظيره". فللعاقل ان لا يكتفي باختيار الصديق. ان العاقل الحكيم يختار ايضا خصمه وعدوّه. ونتذكر هنا بيت الشعر الخالد للشاعر الخالد المتنبي: فمن العداوة ما ينالك نفعُه// ومن الصداقة ما يَضُرّ ويؤلم.
تسابق عتاة اليمين العنصري في اسرائيل، بقيادة نتنياهو ومحيطه، في استغلال موجة الحرائق في اسرائيل، للتحريض على الفلسطينيين. بزّهم جميعا نفتالي بانيت، وزير التعليم في حكومة نتنياهو، وزعيم حزب"البيت اليهودي"، الذي اصاب عندما قال :"ان من يشعل حرائق في احراش بلاد، يُثبت بفعلته انه لا يحب تلك الارض"، وانه لا ينتمي اليها". هذا كلام صحيح، وهذا استنتاج منطقي. هو قال ذلك تحريضا على الفلسطينيين، مشيرا الى قناعة لديه، حتى قبل ان يقول مسؤولو الامن في اسرائيل، من شرطة واجهزة مخابرات. وقال ذلك تعريضا بحب شعب فلسطين لارض فلسطين. لكن، غابت عن ذهن هذا المسؤول الرسمي العنصري الاسرائيلي حقيقتان:
1ـ لم يثبت حتى الان، وارجو ان لا يثبت ابدا، ان فلسطينيين يائسين ومحبطين، لعبوا دورا عمليا في موجة اندلاع هذه الحرائق. لكن، وحتى لو ثبت بالدليل القاطع وبالاعتراف ايضا، ان هذه الحرائق، او حتى بعضا منها فقط، قد أُضرمت من قبل فلسطينيين، فانها ستبقى اعمالا فردية، وليست اعمالا موجهة بقرار رسمي فلسطيني. ويبقى المسؤول عنها افرادا يساوون من تطلق عليهم وسائل الإعلام الاسرائيلية تسمية "اعشاب ضارة" في حقل كبير من الزرع الطاهر النقي، ولا يجوز مجرد التفكير بتحميل كافة الفلسطينيين مسؤولية تلك الاعمال.
2ـ ان من يقدم على تجفيف بحيرة الحولة، ويحوّل مجرى نهر الاردن من طبريا، ويحرم سماء فلسطين من تحليق ملايين الطيور المهاجرة، ويقطع، بلا رحمة، جبال فلسطين، يشهد على نفسه انه كاره لارض فلسطين، وحاقد عليها.
من سخريات القدر، ما يشير اليه خبر في جريدة "هآرتس" الاسرائيلية يوم امس، يتحدث عن الاعادات لاقامة محطات تحلية ضخمة "في وسط البلاد"، لتضخ في بحيرة طبريا، عبر انابيب موازية لانابيب مشروع تحويل نهر الاردن، ولكنها تضخ بالاتجاه المعاكس، لتزوّد بحيرة طبريا بخمسين مليون متر مكعّب من المياه سنويا، لمنع وقوع كوارث محدقة، هم تسببوا بها.
لو استعنت باللهجة المصرية الجميلة، لاكتفيت بالقول: عَجَبي!!.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني