تحت هذا العنوان عقد مركز مسارات مؤتمره السنوي الخامس، بهدف تسليط الضوء وخطوة على طريق تنظيم وتعميق الحوار الوطني الذي بدأ منذ سنوات طويلة، وتحديدًا منذ وصول الإستراتيجيات المعتمدة إما إلى الفشل والطريق المسدود (خيار المفاوضات حياة وإلى الأبد) أو تعطلت (المقاومة المسلحة الأحادية من دون رؤية ولا برنامج سياسي)، ما أدى خلال هذه المسيرة إلى عدم وضوح ماهية المشروع الوطني، وهل هو التحرير الكامل والعودة وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية، أو الإسلامية، أم دولة وعودة وتقرير المصير، أم دولة واحدة لكل مواطنيها، أو ثنائية القومية، سواء بالتصالح مع الحركة الصهيونية والاعتراف بها كحركة قومية للشعب اليهودي، أو عبر تفكيك وهزيمة هذا المشروع، أم حل الدولتين أو دولة على حدود 67، أو ضمنها، أو فيها مع تبادل أراضٍ وحل متفق عليه لقضية اللاجئين، أم أن المشروع الوطني بات هو قبول الأمر الواقع كما هو والسعي إلى البقاء؟
دار نقاش قبل وأثناء وبعد مؤتمر مسارات حول هل ما نحتاجه هو إعادة بناء المشروع الوطني، أم هدمه بكل ما رافقه من أطر ونخب وهياكل بعد أن وصلنا إلى الكارثة التي نحن فيها، أم أن المشروع الوطني بخير وأن كل المطلوب بناء الجبهة الوطنية العريضة وتغيير البرامج والإستراتيجيات المعتمدة؟
يتجاهل الرأي الأخير أن تعريف المشروع الوطني أصبح محل تباين واسع، ما يجعل من الضرورة بلورة هذا المشروع ضمن رؤية شاملة قادرة على تحقيق نوع من الإجماع، وينبثق عنها إستراتيجية سياسية ونضالية قادرة على توفير مقومات استمرار التواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين، ومقومات الصمود والمقاومة القادرة رويدًا رويدًا على تغيير موازين القوى، بحيث يمكن أن نصل إلى إجبار المشروع الاستعماري الاستيطاني الاحتلالي على التراجع.
لقد برز رأي قوي داخل المؤتمر يقوم على فتح الخيارات والجمع ما بينها وليس الانغلاق على خيار واحد وحيد، بمعنى أن وصول خيار الدولة الفلسطينية إلى الفشل، أو ما يسمى خطأ حل الدولتين لا يعني أن الباب بات مفتوحًا لحل الدولة الواحدة، فالعوامل والأسباب التي أدت إلى وصول مسيرة التسوية إلى طريق مسدود، وأهمها رفض إسرائيل وتعنتها، تفعل فعلها بقوة أكبر برفض حل الدولة الواحدة التي تقوم على المساواة للمواطنين، أو دولة ثنائية القومية. فالدولة الواحدة القائمة التي تسعى إسرائيل لترسيخها تقوم على أساس ترسيخ إسرائيل كتجسيد للمشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني و"كدولة" للشعب اليهودي، وطرد أكبر عدد ممكن من السكان أصحاب البلاد الأصليين، وحصر ما تبقى منهم في معازل محاصرة لا تملك مقومات الحياة الكريمة ولا مقومات الدولة، وخصوصًا السيادة التي وحدها تعطي للدولة معنى، إلى حين توفر لحظة مناسبة لطردهم أو طرد أكبر عدد ممكن منهم.
في هذا السياق، على من يتبنون خيار الدولة الواحدة ألا يقعوا بالأوهام بأنها - وفق تطلعاتهم - بكونها ديمقراطية أو ثنائية القومية أسهل وقابلة للتحقيق أكثر من إنهاء الاحتلال وإقامة دولة من دون هزيمة وتفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني. إن تجاهل هذا الأمر إن حصل يجعلهم مدافعين بوعي أو بلا وعي عن صب المياه في طاحونة الحركة الصهيونية التي قامت على أساس أن "أرض الميعاد" في كل فلسطين هي "وعد الله لليهود".
وقد وصل الأمر ببعض دعاة الدولة الواحدة إلى اعتبار أن الاستعمار الاستيطاني، خصوصًا في الضفة، ليس ذَا أهمية، مع أنه الخطر الأكبر المباشر الذي يجب التركيز عليه، ومثل هذا المنطق ربما يصل عند البعض إلى طلب ضم إسرائيل للضفة والحصول على الجنسية الإسرائيلية "كخطوة"على طريق إقامة الدولة الواحدة الموعودة.
هناك اختلاف بين اراضي 1948 والأراضي المحتلة العام 1967، فالعالم يعترف بإسرائيل ولا يعترف باحتلالها، وهناك أغلبية فلسطينية لا تزال موجودة في الضفة وغزة، وحتى في الضفة وحدها، حيث يوجد أكثر من 4.5 مليون فلسطيني، وهم أضعاف أعداد المستوطنين البالغة 800 ألف مستوطن. كما أن أراضي 67 تشهد مقاومة وانتفاضات ومقاطعة، عدا عن أن الأمم المتحدة اعترفت بالدولة الفلسطينية كعضو مراقب، وأن ميزان القوى المطلوب لتغيير كل إسرائيل أكبر بكثير من ميزان القوى المطلوب لفرض إنهاء احتلالها لأراضي 67.
إن النضال بكل الوسائل المشروعة لتحقيق أقصى ما يمكن في كل مرحلة وتركيز كل تجمع فلسطيني على تحقيق مهمته المركزية لا يتعارض مع الحفاظ على الحقوق والرواية التاريخية والهدف النهائي، على أساس أن ما يجمع الفلسطينيين بسبب طبيعة وخصائص المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني وكونه لا يقبل التسوية ويستهدفهم جميعًا بلا تمييز حقيقي بينهم أكبر مما يفرقهم، شريطة أن تكون هناك رؤية شاملة وإطار جامع يعترف بالخصائص المميزة لكل تجمع.
تدل ردة الفعل الشعبية على إثارة موضوع مثل إعادة بناء المشروع الوطني على الهوة الواسعة التي تتجه للمزيد من الاتساع بين القيادة والنخب الفلسطينية من جهة، وبين الشعب من جهة أخرى. فالوضع صعب ولا حل قريبًا على الأبواب، لا دولة فلسطينية ولا واحدة، في ظل الضم الإسرائيلي الزاحف للأراضي الفلسطينية تحقيقًا لإقامة "إسرائيل الكبرى"، وغالبًا يكون من دون إعلانات رسمية، ولكن هذا الوضع لا يبرر العدمية المطلقة واليأس من كل شيء، فهناك إنجازات يمكن البناء عليها، وهناك شعب لم ييأس رغم كل شيء. قيادته يئست وهزمت أو عاجزة أو تكتفي بتسجيل المواقف للتاريخ نعم، أما هو فلم ييأس، بدليل كل مظاهر الصمود والمقاومة والنهوض الثقافي الذي يعوض انحدار السياسة، ويمهد لنهوض سياسي جديد.
هناك آراء مقلقة مثل القول لا حل لعشرات السنين أو حتى مائة عام، وأن الهزيمة التي وصلنا إليها كانت حتمية ومكتوبة، أو بذورها ماثلة منذ البداية، وأن المصالحة والوحدة الوطنية مستحيلة، والمقاومة كذلك، ولا إمكانية لإعادة بناء الإطار الوطني الجامع، وأن الحل يكون بالانتخابات. فإذا كان الوضع بهذا السوء لماذا الانتخابات. فهذا القول غير مقنع. فلماذا الانتخابات من دون أمل من خلال وضع هدف أو أهداف يمكن تحقيقها؟ وكيف يمكن إجراء الانتخابات وضمان مشاركة الفلسطينيين فيها ضمن هذا الخراب العظيم (إذا كان الوضع شديد القتامة كما يجري تصويره)؟
إن الرفض المطلق العدمي لكل شيء يقود عن وعي أو بلا وعي لقبول الواقع والتصالح معه، على أساس "أن ليس بالإمكان أبدع مما كان"، وهذا يقود إلى التصالح مع الصهيونية وتغليب المصالح الفردية على حساب المبادئ والحقوق والأخلاق والأهداف العامة، وترك كل فرد وكل تجمع يدبر راْسه بمفرده، وهذه أسوأ وصفة يمكن أن نصل إليها.
وحتى ندرك مدى الهوة بين القيادة والنخب والشعب نعرض بعض الأفكار والعبارات المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي: "عن أي مشروع وطني تتحدثون، وأنتم قتلتم وهدمتم وغيبتم الإنسان الفلسطيني المفترض أن يحمل هذا المشروع". "المشروع الوطني صعب التحقيق لوجود قيادة همها شخصي وليس وطنيا". "توصيات توصيات وتكرار للاقتراحات وإستراتيجيات من دون تطبيق، والوطن أصبح وطنين والحبل على الجرار". . "بس ارحلوا عن المشروع الوطني الفلسطيني والقضية، وسيبوا الشعب في حاله يصْلُح الوضع تلقائيًا ويتحقق المشروع الوطني وتنتصر القضية"!.
هاني المصري
2016-12-20