من الواضح بان عملية اغتيال السفير الروسي اندريه كارلوف في انقرة بالأمس،تحمل في طياتها الكثير من المعاني والدلالات،وهناك الأطراف التي خططت لها،أرادت من خلالها ان ترسل اكثر من رسالة للروس والنظام السوري وللأتراك انفسهم،فالعملية ليست بالعفوية،وتنفيذها صحيح جرى من قبل شخص منفرد،ولكن يقف خلفه جهاز واكثر من طرف،وهي لم تأت كرد على الموقف الروسي من الأزمة السورية والدعم للنظام السوري في إستعادته لحلب،بمعنى ان هذا الشخص ليس منتميا أو متحمساً او مناصراً للقوى والجماعات الإرهابية في حلب فقط،فإخراج العملية يراد له ان ياخذ على هذه الصورة،ولكن يبدو أن الحقيقة أبعد من ذلك فالشخص الذي نفذ هو معين من قبل الحكومة التركية في الحراسات الخاصة لحماية السفير الروسي،وبعد تنفيذه للعملية كان بإمكان قوات الامن التركية اعتقاله والسيطرة عليه،ولكن عملية التصفية جرت حتى يتم اخفاء الأدلة حول الجهات المتورطة في عملية الاغتيال،ونحن ندرك انه لو جرت عملية اغتيال السفير الروسي قبل اسقاط الطائرة الروسية في تشرين ثاني من العام الماضي من قبل المقاتلات التركية،لربما ادى ذلك الى مواجهة عسكرية بين روسيا وتركيا،ربما تتطور الى ما هو أبعد من مواجهة بين الطرفين،ولكن عملية الاغتيال أتت بعد استدارات متدرجة في الموقف التركي من الأزمة السورية،وتركيا اصبحت معنية بتدعيم علاقاتها مع موسكو،ليس فقط من اجل مصالحها في الجوانب الاقتصادية والسياحية والمصرفية،وخط انبوب غاز السيل الروسي الواصل لتركيا،بل في التطورات الأخيرة من الأزمة السورية واستعادة القوات السورية لشرق حلب،وجدنا ان تركيا حلت محل امريكا والسعودية وقطر في كل العملية التفاوضية المتعلقة بترحيل الجماعات الإرهابية من حلب واخراج الحالات الإنسانية والمريضة من بلدتي الفوعة وكفريا المحاصرتين في ريف إدلب،وهذا يعني بأن الدور السياسي في أي عملية تفاوضية لتلك الأطراف سيكون ثانوياً، وبأن المشروع السياسي لها الذي صرفت عليه المليارات من الدولارات قد سقط،وبالتالي خسرانها لنفوذها ودورها المؤثر والمقرر في صياغة نظام سياسي جديد لسوريا،يكون لها فيه حصة فاعلة ومعبرة عن مصالحها.
ثمة رابط جدي بين ما جرى من محاولات لبعض القوى المرتبطة بقوى عربية ودولية (السعودية وقطر وامريكا وفرنسا واسرائيل) في تعطيل تنفيذ اتفاق ترحيل وطرد الجماعات الإرهابية من شرق حلب،بالتزامن مع إخراج الحالات الإنسانية والمريضة من بلدتي كفريا والفوعة المحاصرتين في ريف إدلب،فهذه الدول تشعر بخسارتها لفقدان دورها ونفوذها والمشروع التي كانت تريد تطبيقه وتنفيذه في سوريا والمنطقة،ومن هنا جرت عملية حرق العديد من الباصات وقتل احد سائقيها من قبل جبهة النصرة وعدة قوى إرهابية أخرى،والهدف هنا واضح عدا عن تعطيل تنفيذ الإتفاق،الشعور بأن تركيا قد حلت محل تلك القوى في العملية السياسية مع روسيا،بمعنى آخر تركيا ستكون شريك رئيسي مع روسيا،فيما يتعلق بالمستقبل السوري،وخصوصاً بأنه جرى ويجري التاكيد على وحدة سوريا جيشا وجغرافيا،وبالتالي يصبح الحديث عن نظام سوري جديد بدون الأسد ضرباً من الخيال،ولكن عملية تخريب تنفيذ الإتفاق لم تنجح،حيث أن القوى الإرهابية المتبقية في شرق حلب ضغطت على تلك القوى من اجل تنفيذ الإتفاق،حتى لا تواجه خطر الموت والفناء،وكذلك المحاولات المستميتة من قبل فرنسا والحلفاء لإستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي،لإرسال مراقبين دوليين،تؤمن الحماية لكبار قادة الإرهاب الموجودين في شرق حلب،بعد فشل محاولات نقلهم وتهريبهم بالباصات الخضراء،هي الأخرى لم تحقق نجاحات كبيرة،حيث روسيا بإصرارها على إدخال تعديلات على مضمون القرار،جعل وجود مثل هؤلاء المراقبين لا معنى له.
التوافق الروسي- التركي- الإيراني حول ضرورة حول ضرورة التوصل الى وقف للأعمال العدائية،يشمل كامل الأراضي السورية،وبأن يعقد اجتماع لوزراء الدفاع الروس والأتراك والإيرانيين في موسكو هذا اليوم،والحديث عن نقل المفاوضات حول الملف والحوار السوري- السوري من الغرب الى الشرق ،من جنيف الى الإستانة،يعني أن أمريكا وحلفائها أصبح دورهم هامشي وثانوي في المستقبل السياسي السوري،وخصوصاً،وان إستعادة النظام السوري لشرقي حلب كعاصمة اقتصادية،شكل نصراً كبيراً للنظام السوري وتطوراً نوعياً،بكل ما يعنيه ذلك من قبر لمشروع تقسيم سوريا،وإعادة انتاج سايكس- بيكو جديد يقسم المنطقة العربية على تخوم المذهبية والطائفية،ولذلك بات من الملح القيام بخطوة ما توقف التنسيق والتوافق الروسي- الإيراني – التركي،وعملية إغتيال السفير الروسي في تركيا،أتت في هذا الإطار والسياق،حيث أعتقد من قاموا بالتخطيط والإشراف على تنفيذ تلك العملية،بأن قتل السفير الروسي،قد يخلط الأوراق،ويدفع بإتجاه تأزيم العلاقات الروسية – التركية،وإلغاء اجتماع وزراء الدفاع اليوم في موسكو،ولكن القيادة الروسية تدرك جيداً المقاصد والمرامي،من مثل هذه العملية،فبوتين طالب بتشكيل لجنة خبراء روسية – تركية مشتركة لمعرفة من يقف خلف هذه العملية،وكذلك تركيا إدانت هذه العملية بشدة،وقالت بانها تستهدف مصالح تركيا والإضرار بعلاقاتها بروسيا،والإجتماع لوزراء الدفاع الروس والأتراك والإيرانيين،تعزز بإضافة وزراء خارجية تلك البلدان لذلك الإجتماع.
الإرهاب الذي يتقهقر على غير ساحة،من سرت حتى الموصل وحلب،ضرب في الأردن،وهو يبحث عن ساحات جديدة، يفرد فيها عضلاته، وهذا صحيح أيضاً ... بيد أن الصحيح كذلك، أنه لن ينجح في فعل ذلك، إن لم يجد من يدعمه ويساعده، ويوفر له البيئة الحاضنة فكرياً واجتماعياً،الإرهاب في مرحلة أفول وتراجع،والمشاريع التي ترسم للمنطقة العربية من الفوضى الخلاقة وتفكيك الجغرافيا العربية وإعادة تركيبها خدمة للمشاريع الأمري- صهيونية والغربية الإستعمارية أخذت في التراجع والإنحسار،ولكن لا نستطيع القول بأن محور وحلف المقاومة حقق نصراً كاملاً،فالمواجهة مستمرة ومتواصلة،ولكن لن تعود العجلة للوراء،فأمريكا لم تعد شرطي العالم وقدره،فها هي روسيا تعود للساحة الدولية نداً وخصما مقرراً في الكثير من القضايا على مستوى العالم والمنطقة،وأفول المشروع المعادي يعني بأن ممكنات النهوض القومي وإستعادة الوحدة العربية،تكتسب معاني كبيرة بعد عودة حلب لحضن النظام،وتطهير الموصل من رجس " الدواعش".
بقلم/ راسم عبيدات