رسالة مفتوحة لمريام نائور

بقلم: جواد بولس

سعادة رئيسة محكمة العدل العليا الإسرائيلية..
قد يبدو لك ولكثيرين غريبًا، أو حتى مستهجنًا أنني اخترتك لتكوني عنوان رسالتي/ مقالتي الأسبوعية الأخيرة لهذا العام، ولربما كان أكثر انسجامًا أن أكتب عن واحد من تلك المواضيع البارزة التي تفاعلت مؤخرًا عندنا في فلسطين الكبيرة، أو حصرًا بين المواطنين العرب في إسرائيل.
علمًا بأن انتخاب واحدة من تلك المسائل الضاجة لم تكن مهمة صعبة، فأوضاعنا العامة مقلقة وتُبكي الغريب، وبعض قياديينا يتصرفون وكأننا في أحسن أحوالنا وفي قمة مجدنا، ومنهم من يندفع صوب النهر والوجع بشجاعة الرعد وهزيمه، حتى تخالهم شخوصًا من الأساطير يركبون جيادًا عيونها مغمّاة.
كان محفزي لكتابة هذه الرسالة ما قرأته عن خطابك في بيت رئيس الدولة في الثامن من الشهر الجاري، لأنني متيقن من أن بعض ما قلتِه على الملأ كان مستفزًا لبعض من حضر ذلك الاحتفال – حيث جرى في تنصيب عدد من القضاة الجدد المنضمين الى جهاز القضاء الذي تقفين على رأسه، خاصة أنك تؤكدين أمام من يفلسف عنصريته ويسوّغها باسم الأرض والسماء، أنه لا يمكن "فهم الدفاع عن المبادئ الأساسية وعن حقوق الانسان كأعمال غير ديمقراطية، فهي تجسيد للديمقرطية ذاتها" فبهذا الكلام أنت تستعْدين عمليًا كل من يتأهب، من الحاضرين والغائبين، للركوب على مركبات النار وإتمام حرثهم لأرض "المختلفين" ولتلقين "الطوابير الخامسة" دروس السادة والعبيد.
في الواقع ما جرى في بيت رئيس الدولة كان جولة إضافية في معركة فرضت عليك وعلى معظم قضاة المحكمة العليا، بعدما وصلت نيران قوى اليمين المدمر إلى أحراجكم وبيوتكم. فإحساسكم بأن منظومة الحكم في إسرائيل استوطِنت عمليًا من قبل عناصر ظلامية عنصرية كان صادقًا، واستشعاركم بأن قادتهم يسعون إلى التسلط على جهاز القضاء، لإحكام القبضة على رقبة الدولة وإقامة نظام حكم مستبد ديكتاتوري أو مملكة الأنبياء الموعودة، لم يُبقِ لكم فرصة ودفعكم إلى خوض هذه المواجهة الفريدة.
لم أكن هناك، ومع هذا يساورني شعور بأن من حضروا ووقفوا عند الحكمة، فيما أكدته أمامهم قد غادروا المبنى، بعضهم آسفًا وبعضهم راضيًا، وهم على قناعة بأن وقتكم قد فات، فما كان ينتظركم وينتظرهم في الهواء وفي جنبات ليل القدس الفاحم، كانت أصوات هي أقرب لفحيح "هيدرا" ذات الرؤوس القاتلة، من صوت المعجزة والأمل؛ فمن هناك، من بيت الرئيس المقام على "دوار سلامة" وكيفما وليت وجهك، نحو القطمون أو المالحة أو هار- حوماه أو جيلو، وأبعد وأبعد حتى تصلي هضاب "عمونة" وأخواتها، كان البرق والرياح تعلن أن صلاحية جهازكم وسلطتكم القضائية تقترب على النفاد، ومصيرها أن تلتحق بأختيها التشريعية والتنفيذية، رغم أو ربما بسبب إعلانك أن: "حكم الأكثرية هو شرط ضروري للديمقرطية، لكنه شرط غير كاف، لأن انعدام الكوابح على قوة الأكثرية من الجائز أن يحول سلطتها إلى حكم مستبد"، فالمأساة، إذا كنت لا تدرين، أن الأكثرية اليهودية التي تتحدثين عنها وإليها تؤمن فقط "بالكراتوس" (بالسلطة) وأما "الديموس" (الشعب)، ليس اكثر من حناجر تصرخ وسواعد تبطش وأقدام تدوس على الحقوق ومن يطالب بها أو يدافع عنها.
عندما قررت توجيه رسالتي إليك تذكرت أنني خاطبت، قبل أكثر من ستة أعوام، الرئيسة السابقة للمحكمة العليا في رسالة مفتوحة عرفتُ بعد نشرها أنها قرأتها، وناقشتني بفحواها متذكرةً ما كتبته لها و: "كم صرخت في آذانكم.. كم مرة أكدت أنني أخاف عليكم؛ فأنا كإنسان أريدكم، أنت وزملاءك القضاة، أقوياء وسدنة لصفاء القانون الذي يحمي الضعيف من سلطان مستبد عاسف. وأكدت أنني كمواطن في الدولة أريدكم أقوياء، وأحتمي بقوتكم عندما يسلب حقي جورًا.. وأنني كابن لأقلية قومية في هذه الدولة أريدكم ترسًا يصد عني مخالب تدميني وأنيابًا تجيد القبض على كل مقتل في جسدي".
هكذا كتبت لكم قبل ستة أعوام، داومت، كما تعرفين، خلالها على محاولاتي لإقناعكم بأنكم تسيرون على منزلق خطير، وأنكم ستدفعون ثمن مواقفكم، التاريخية والآنية على حد سواء، وحذرتكم مرارًا مما كنتم تحسبونه تعزيزات لبنيان دولتكم التي تشاوفتم أمامنا بديمقراطيتها الواهية، واستشرفت أنه سينقلب عليكم المنقلب وعلى كل يهودي سيتجرأ على رفع صوته يومًا بما لا ينسجم وأصوات "القطيع"، وتلك الجوقات اليمينية العنصرية الناعقة وفرقها الضاربة، وكنت أردد على مسامعكم رغم امتعاضكم من وضوحي مؤكدًا أن: "تلك القوى كالعلقات، لا تكتفي ولا تشبع. فبطبيعتها تعيش على مزيد ومزيد".
كم مرة عُنفت، يا سيدتي، لأنني طالبت بمساواة حكم العربي مع حكم اليهودي ووُصفت بالوقح لأنني "تماديت" مستفسرًا ومتسائلًا لماذا التفرقة عندكم؟ فحاول زميل لك أن "يبوقني" بصراخه دون أن يأتي بأي حجة تفند "وقاحتي" أو تعلل سياستكم العنصرية. أمّا عندما كنا نتظلم باسم فلاح فلسطيني أو شيخ وقع ضحية لإرهاب يهودي، لم نلق إلا الإعراض، ولم نسمع إلا الشعار المستفز: إنهم "أعشاب شاذة" وأعدادها قليلة! هلا ترين معنا كيف كانوا أقلية وصاروا بينكم وأصحاب الهضاب وحراس أبراج القلعة.
قصتنا، نحن العرب مع الجهاز القضائي للدولة طويلة وجديرة بأن تستقصى من بداياتها التي كانت قبل ولادتي كعربي بسنين قليلة، لأن القضاة شعروا، مثل باقي القيادات المؤسسة في الدولة الفتية، أنهم أصحاب البيت وحماة الحصن والمدافعون عن قيم الكيان الجديد وبناة مجتمعه الآدمي العصري المؤمن بأسس الديمقراطية الغربية المنقوصة. حينها تبنّى رجالات القانون نظرية "الأمن" تمامًا كما هندسها ووضعها أمامهم جنرالات المؤسسة العسكرية والأمنية، وتجندوا من أجل ضمان إشاعة معانيها بشكل عملي، وتفوق مفاهيمها بشكل فعلي على كل قيمة قانونية أخرى وحق أساسي مهما علا شأنه المجرد، علاوة على تقبل جيل القضاة المؤسسين، حتى ولو بالكتمان، للمفاهيم المؤسسة الرسمية التي صاغت علاقة الدولة وأجهزتها تجاه مواطنيها العرب، فالفرضية الطاغية في تلك البدايات قضت باعتبار العربي كائنًا سلبيًا وخارجًا عن واجبات منظومات الدولة الإدارية تجاه مواطنيها العاديين، إلا إذا اقتضت الحاجة عكس ذلك، لذلك نرى أن حقوق العربي الباقي في وطنه أجلت وهضمت بذرائع كثيرة ومتعددة، واحتسب بقاؤه خطأ تمنى الجهاز القضائي، مثل ساسة الدولة، أن يداوى، وليس بالضروة عن طريق مساواته الحقيقية بسائر المواطنين اليهود بل على العكس، عن طريق التضييق عليه وشرعنة تلك السياسات العنصرية ضده، وذلك بهدف تطفيش من عاندوا وبقوا .
من المؤسف أن نلحظ دور الجهاز القضائي الذي كان شريكًا في معظم هذه التطبيقات الرسمية، شراكة اتسمت أحيانًا بجهارة مؤلمة وأحيانًا بتوليفات خبيثة، ففي حين كان القضاة يؤثرون ذرائع الأمن المطلق وباسمها يبررون سحق حقوق الأقلية العربية، كنا نصرخ ، كما صرخ السابقون منا، ليس هكذا يقام العدل ولا هكذا تبنى دول، وأمّا عما قدمه فقهاء القانون والقضاة من أجل ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فالحديث قد يبدأ ولن ينتهي، لأن دور المحكمة العليا في تجميل هذا الاحتلال البغيض وتمرير معظم موبقاته سيحفظه التاريخ وذاكرة شعب ما زالت تواجه جراحها، فللواقع كان معظم قضاة المحكمة المتعاقبين منذ عام 1967 مسؤولين غير مباشرين عما مارسه الاحتلال المعرف في القانون الدولي وبين الأمم بالجريمة الكبرى.
سيدتي، لم يسعفني الصراخ، ولا ما كنت أقوله لكم مؤكدًا إننا قد نكون نحن العرب، أوائل ضحايا سياسات القمع والبطش الرسمية، لكننا لن نكون الأخيرين ولا نجاة مضمونة لأحد لأن صوت المسدسات والبساطير يصرخ في ساحاتكم منذرًا: إما الخنوع والاستسلام وإما "أعواد المشانق" أو كما تنبأتُ قبل ستة أعوام وكتبت: "إن جهازًا قضائيًا يحتمي بحراس يرافقونه حتى أبواب غرف نومه، لن يقوى على ظالم وقاتل مهما برر ودافع، وجهازًا قضائيًا لا يميز بين الضحية والجلاد لن يحمي حتى جلده مهما انحنى وطأطأ رأسه والهامة.."، فأكلت يوم أكل الثور الأبيض التي قصصتها عليكم في مرافعاتي – ستبقى حكمة ضحية ناجزة لضحية تنتظر على خط التماس.
اخترت أن أكتب لك وليس عما يؤرقني في قضايا مجتمعنا العربي لأهمية ما يجري بينكم وتأثيره علينا وعلى وجودنا، ولإيماني إذا سقطتم، رغم أنكم لم تنصفوا قضايانا كما أسلفت، سندخل في الظلمة والتيه الكبيرين، فلقد أخافني شعورك حين احتججت على موقف وزيرة القضاء ووصفت تصرفها تجاهكم كواحد يضع مسدسه على طاولة تفاوض بين طرفين غير أعداء، لقد كنتم أنتم القضاة، هذا الطرف الآخر في مجازك الجميل المخيف، لكن كثيرين في الدولة عرفوا منذ عقود أن من يحاول قتل غريم سياسي كسكرتير الحزب الشيوعي مئير فلنر ولا يلفظه مجتمعه، سيفتح الطريق لمن يضع القنابل بهدف قتل رؤساء بلديات فلسطينيين انتخبوا رسميًا في نابلس ورام الله وحلحول، وعندما تغض الدولة ومحاكمها عنهم الطرف ولا تعتبرهم جناة وقتلة، سيمضي غيرهم في طريق البارود ويزرعون القنابل على عتبات كل من لا يتوافق معهم، مثل البرفيسور زئيف شطيرنهال وغيره من اليهود الآدميين الملاحقين بسبب آرائهم، فتجارب التاريخ أدلت بحكمتها وأجهل الجهال من عثر بحجر مرتين أو بحجر ومسدس.

جواد بولس

كاتب فلسطيني