أميركا وإسرائيل: مصالح جديدة

بقلم: نهلة الشهال

هذا خبر نُشر قبل أيام، ومرّ من دون ضجيج: قريباً قاعدة بحرية أميركية في ميناء حيفا. القرار صادر تحت البند 1259 من الـDefense Authorization Act لعام 2017، في إطار "إجازة مساعدة الولايات المتحدة لإسرائيل"، وهو سارٍ حتى 2021. تقول المبررات المصاحبة للقرار: "الأمن البحري، والإحاطة اليقِظة بالمجال البحري في شرق البحر المتوسط هما من المسائل الحساسة ليس فحسب لأمن إسرائيل ولكن أيضاً لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، ما يشجع إدارة الدفاع على الاستمرار في جهود تطوير وتعزيز الإمكانات في هذا المجال".

وكان جون كيري، وزير الخارجية الأميركي المغادر، قال قبل أيام في معرض أسفه على تعنت إسرائيل في مسألة المستوطنات، أن "الولايات المتحدة تمنحها أكثر من نصف مجمل مساعداتها للعالم بأسره".

ليس في الأمر جديد إذاً؟ بل هناك تجديد في تعيين المصالح التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل، بعدما بدا في السنوات السابقة أن وظيفة الأخيرة تخبو، وأنها صارت نوعاً من الواجب الثقيل على داعميها، بعدما استكانت المنطقة العربية لرداءة أحوالها، وتكفلت ذاتياً بتصفية أخطار بروز نزعات قومية - تحررية مفاجئة أو مهدِّدة للاستقرار القائم. وإسرائيل نفسها، وبغض النظر عن الخطاب الأيديولوجي والدعائي عن الوطن الموعود واستعادته بعد ألفي عام الخ...، تحتاج لتأكيد مستمر لمبرر وجودها، على اعتبار أن هذا الوجود ليس بديهياً (بينما دول أخرى لا تهجس به، حتى عندما تتغير خرائطها السياسية أو يظهر هكذا احتمال، بمعنى أنها كيانات راسخة).

في السنوات الماضية تلك، ما بين انكشاف فشل أوسلو المتعاظم واندلاع انتفاضات 2011 في المنطقة العربية، راحت إسرائيل تطور مهاراتها التقنية المدنية والعسكرية، وهي متداخلة، كما في كل مكان. أقامت علاقات وطيدة وواسعة مع الهند والصين في مجالات الزراعة والري وتحلية المياه والتكنولوجيا الرقمية قبل أن تصل إلى السلاح. وفعلت ذلك مع أوروبا في حقول الأبحاث المتقدمة بالفضاء والطب. وزادت من غزوها للقارة الأفريقية، ليس في ميادين استخراج المعادن (الحاضرة فيها منذ زمن)، بل في نشاطات إنتاجية مدنية متعددة (تربية المواشي والزراعة وحتى في تأطير الخبرات التعاونية الخ...)، وراحت تستعيد شعاراً (استعمارياً "ليناً") كانت هيأته في الفترة التي بدا فيها أن هناك سلماً قادماً، يتحدث عن تكامل التفوق التقني والعلمي الإسرائيلي واليد العاملة الوفيرة في المنطقة العربية.

لعل القاعدة العسكرية البحرية تلك هي الرد على الإعلان الروسي الرسمي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عن إنشاء قاعدة بحرية روسية "دائمة" في ميناء طرطوس، وعلى حضور الأسطول الروسي الكثيف في المتوسط، وعلى نشاط الطيران الروسي في قاعدة حميميم الجوية... وهو ما يندرج في ما اعتبر استعادة لأجواء "الحرب الباردة" وشروطها. ولكن إعادة تعريف أو تجديد المصالح المشتركة لا يقف عند هذا الحد.

ففي سياق "الحرب على الإرهاب"، تمكنت إسرائيل من بيع تقنيات وأجهزة وخدمات و "خبرات" للعالم بأسره. وهي تقدم نفسها "نموذجاً" يجدر بدول العالم الاقتداء به. بدأت بالاعتداد بأن مطارها في تل أبيب آمن مئة في المئة بفضل نظام فريد في إدارة الوصول إليه، وانتهت إلى نشر قصة الفتاة من جنين التي اكتُشِفت "نواياها" لارتكاب عمل ما، في عزلة تامة عن أي صلات أو أوامر. كيف تم الشهر الماضي توقيف المراهقة الصغيرة؟ بفضل برامج "ألغوريتم" معقدة يتم فيها التقاطع بين ملايين المعطيات التي تجمع من مصادر مختلفة: بشرية (أي "دراسة البيئات" علاوة على الوشايات والتجسس المعتادة)، وأخرى توفرها مراقبة الانترنت والتلفونات... وتتبجح إسرائيل بأنها لا تكف عن المراقبة الدائمة لمجمل السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، عملياً 80 في المئة منهم، أي كل من هو بين العاشرة والسبعين، رجالاً ونساء! أيّ جنون يجعل افتراض الاستمرار في هذا ممكناً أصلاً؟

ثم إن إسرائيل تدعي أن لديها "صفر فشل"، فنستعيد نحن مقابل "قصة النجاح" الخاصة بفتاة جنين هذه، التي اعتُقلت من داخل بيت أهلها وقبل إقدامها على ما كانت تنويه، قصص الفتية والفتيات الذين أوجدوا "انتفاضة السكاكين" (والمقصات والمفارك)، والذين قَتلت القوات الإسرائيلية منهم العشرات، وأصيبت بالذعر الفعلي فصارت تطلق النار على من "يُظَن به"، على أي شاب ملامحه عربية (وقد أصيب يهود إسرائيليون من أصول شرقية!) أو على أية شابة قد تغرس يدها في محفظتها بالقرب من جنود أو مستوطنين.

واليوم تنتشر قصة ذلك المجند سائق سيارة الإسعاف الذي أطلق نار مسدسه على رأس فتى فلسطيني في الخليل مصاب وملقى أمامه. اعتبرت المحكمة العسكرية في تل أبيب فعلته قتلاً، على اعتبار أن الفتى لم يكن في وضع يمكنه فيه الإيذاء، وأن محاولته طعن الجنود أجريت قبل وقت من وصول الإسعاف وسائقها الذي اشتهر بتعليقاته البالغة العنصرية والعنف على فايسبوك (وقامت عائلته بمحوها بمساعدة مكاتب مختصة بالإعلام والتواصل، تم استئجارها بفضل التبرعات المالية الكبيرة التي جُمعت لمصلحة "الشاب الوطني المخلص"). والحكم صدر بعد 9 أشهر من المحاكمة (الواقعة جرت في آذار - مارس 2016)، وأما المعترضون على الحكم فهم وزراء الثقافة والتربية ومعهم نتانياهو، الذين يطالبون بإعفاء القاتل، ويكذبون في رواية ما حصل (فلا بد من الحفاظ على مظاهر المنطق والأصول الديموقراطية والقانونية العامة)، إذ ظهر فجأة على لسانهم أن الجندي "افترض" وجود حزام ناسف، هذا فيما يهدد جمهورهم المتظاهِر خارج أسوار المحكمة قضاتها بصراحة بمصير مشابه للذي لقيه رابين!

لا يمكن لدول أوروبية أو للولايات المتحدة الاقتداء بهذا النموذج ، ليس لسبب "أخلاقي" (فحسب!) بل لأن ذلك غير متاح عملياً، وهذا على رغم التجاوزات الفادحة للقواعد التي قامت عليها هذه الدول وظلت تعتمدها بهذا القدر أو ذاك من التماسك (حسب الظروف العامة!). وهي فعلت ذلك بحجة "الحرب على الإرهاب" العتيدة، وغاصت عميقاً في الاستثناء وفي الخطاب والممارسة العنصريين. فما يصلح في قاعدة استعمارية معسكرة إلى أقصى الحدود لا يطبَّق في مجتمعات واسعة للغاية ومعقدة جداً. هذا إن لم نكترث للارتدادات المرعبة بل المدمرة لمثل تلك الممارسات.

نهلة الشهال