يجمع الكثير من المراقبين السياسيين على أن السيد دونالد ترامب ليس لديه الكثير من الخبرة السياسية، ولكنه دخل السياسة من أوسع أبوابها، فبعد أيام قليلة في 20 يناير الجاري يتسلم رئاسة الولايات المتحدة، من سلفه الرئيس أوباما الأكاديمي والقانوني المميز، والذي إتسمت سياسته بالغموض والتردد في كثير من الأحيان، والذي إنعكس بالضعف على سياسات الولايات المتحدة الخارجية، وشهدت فترته الثانية توقيع الإتفاق النووي الإيراني، الذي وضع إيران على عتبة نادي الدول النووية، رغم ما كان يبدو للكثيرين أن الولايات المتحدة والغرب لن يسمحا لإيران أن تصبح دولة نووية، إضافة إلى تراجع علاقات الولايات المتحدة مع الكثير من دول العالم التي كانت تبدو إلى حدٍ كبير أكثر من متميزة على كافة الصعد، فقد حقق على مستوى السياسة الداخلية للولايات المتحدة الكثير من الإنجازات التي تهم الطبقات المتوسطة والفقيرة، والتي هي محلُّ إنتقاد من السيد دونالد ترامب والذي يصرح بأنه سوف يتم التراجع عنها، وفي حقيقة الأمر من الصعب التراجع عن مثل هذه الإنجازات لأنها تمس حياة عشرات الملايين من الأمريكيين.
نعود إلى السيد ترامب الرئيس المقبل، والذي بدأ حملته الإنتخابية بالهجوم الشرس على إنجازات السيد أوباما وعلى مرشحة الحزب الديمقراطي السيدة هيلاري كلينتون، ومهاجمة الملونين، والمهاجرين الجدد لأمريكا، باعثاً روح الطائفية والإثنية في أمريكا، التي يجرم دستورها أي فعل سياسي من هذا القبيل، والذي يحترم كافة الأعراق التي يتكون منها المجتمع الأمريكي ويضعهم سواسية أمام القانون، وأن أي شخص بغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه يمكن له أن يتولى أي منصب، بما فيه منصب رئيس الولايات المتحدة، وقد تأكد ذلك في مثال السيد أوباما الذي ينحدر من أصول إفريقية وإسلامية، ولم يحل ذلك دون تمتعه برئاسة الولايات المتحدة لفترتين متتاليتين، وأول رئيس من ذوي البشرة السوداء، والذين يمثلون نسبة تزيد عن 12% من المجتمع الأمريكي.
فهل يتمكن السيد دونالد ترامب أن يقود إنقلاباً سياسياً ودستورياً أثناء توليه الرئاسة الأمريكية؟!، أعتقد جازماً أن ذلك غير ممكن، لأن ذلك سيؤدي إلى إغتيال طبيعة النظام الأمريكي ودستوره، والذي ميز الولايات المتحدة عن كثير من دول العالم بما فيها الديمقراطيات العريقة في أوروبا، ومكن لها من توحيد ولاياتها، وأوجد نسيجاً مجتمعياً صلباً، مثل قاعدة الإستقرار للنظام والمجتمع الأمريكي قل نظيرها بين دول العالم، وأبقى النزعات العرقية والعنصرية حبيسة لا تطفو على سطح النظام والمجتمع، وهذه مكتسبات حققها المواطن الأمريكي الجديد والقديم على السواء، يصعب التراجع عنها أو السماح بالإنقلاب عليها، من أي كان، حتى ولو كان الرئيس دونالد ترامب صاحب النزعات النرجسية، والتي تبدو أنها أكثر خيالية من أن تكون نزعات واقعية، يمكن بناء السياسات الأمريكية الجديدة على أساسها والتي يلوح بها السيد ترامب في تصريحاته وتغريداته على صفحات السوشيل ميديا، والتي تناسلت وتكاثرت بعد فوزه رسمياً بالإنتخابات، وهذا الفوز الذي فاجئ المراقبين والإعلاميين وإستبيانات الرأي، التي كانت جميعها ترجح فوز خصمه السيدة هيلاري كلينتون، ولكن يبدو أن عوامل كثيرة بعضها ظاهر، وبعضها مستتر، جاءت بالمفاجئة للجميع بفوز السيد دونالد ترامب وبفارق كبير عن السيدة كلينتون.
وفي سياق تصريحاته المنفلتة، كان للدول العربية، وللصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية نصيب وافر من ((تصريحاته الفجة)) التي يجانبها الصواب، من حيث العلاقات التاريخية السياسية والإقتصادية والأمنية التي إرتبطت بها الولايات المتحدة مع العديد من الدول العربية، خصوصاً منها دول الخليج العربي، وتلويحه بنقل سفارة بلاده إلى القدس الشرقية، لدعم المواقف الإسرائيلية، وشجبه للأمم المتحدة بعد صدور القرار 2334 عن مجلس الأمن يوم 23/12/2016م والذي يدين الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس، والتي يعتبرها القرار أراضي فلسطينية محتلة لا يجوز بأي شكل من الأشكال البناء والإستيطان فيها من قبل سكان دولة الإحتلال، وإنها سوف تكون هذه الأراضي، أراض الدولة الفلسطينية التي ستقوم على حدود الأراضي المحتلة عام 1967م.
يبدو أن السيد دونالد ترامب يعتقد أنه لازال في مرحلة الحملة الإنتخابية، وهو لم يبقى على تسلمه مقاليد الرئاسة الأمريكية سوى أيام، وأن مثل هذه الأفكار التي لازال يعبر عنها في تصريحاته تمثل إنقلاباً على السياسة الخارجية الأمريكية، التي أسهمت في بناء العلاقات العربية الأمريكية، ولا يقدر مدى إنعكاسها على المصالح للطرفين العربي والأمريكي، كما أنه لا يقيم وزناً لهذه العلاقات، ولردة الفعل العربية إذا ما تحولت تصريحاته هذه إلى سياسات تمارسها الولايات المتحدة والتي لا تعبر إلا عن دونكشتيات (عنتريات) وتتعارض مع ما يجب أن تكون عليه العلاقات الأمريكية العربية، ومع الأهمية الإستراتيجية البالغة للمنطقة العربية بالنسبة للولايات المتحدة وللعالم، كما أنها تتنافى والقواعد المنظمة للعلاقات الدولية، ومع مجمل الإتفاقات التي ترتبط بها مع دول المنطقة، ومع الدور الذي تطمح إليه الولايات المتحدة في أن تكون راعية للإستقرار والأمن والسلام في المنطقة.
إن هذه التصريحات المعلنة، عن السياسة التي سيتبعها أو سيمارسها السيد دونالد ترامب، سواء على مستوى الداخل الأمريكي أو على مستوى العلاقات الدولية مع العرب أو غيرهم مثل الصين واليابان ورسيا وغيرها من القوى الإقتصادية والعسكرية والأمنية تجعل منه سياسياً من طراز (فج) سيصطدم أولاً مع الداخل الأمريكي إجتماعياً وسياسياً وإقتصادياً وأمنياً، ومع الخارج ثانياً لما ستمثله هذه السياسات الفجة من إنقلاب أمريكي داخلي وخارجي سيعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر، كما سيعرض الأمن والإستقرار العالمي لمزيد من المخاطر والفوضى، ويقود العلاقات الدولية إلى مرحلة جديدة تكون سمتها (عولمة الفوضى)، في ظل أزمات إقتصادية وأمنية تتفاقم يوماً بعد يوم على مستوى العالم.
لذا فإن هذا التحدي الذي يظهره السيد ترامب، غير المبني على رؤى سياسية واقعية، سيجلب له الكثير من الأعداء، والقليل من الأصدقاء، والكثير من الإخفاقات، والقليل من الإنجازات، ما يحتم عليه العودة للإلتزام بما ستقرره المؤسسات صانعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، على أسس من الواقعية السياسية، التي تحقق للولايات المتحدة مصالحها على مستوى السياسة الداخلية والخارجية.
بقلم/ عبد الرحيم جاموس