السيسي وإسرائيل.. والتناقض العربي مع الذات

بقلم: فايز رشيد

يتعرض الكاتب في بعض الأحيان لكتابة ما لا يريده، لا لشيء إلا لكونه يتخيل دوما عكسه، في صورة مفترضة، لكن حساب الحقل لا يطابق حسابات البيدر في كثير من الأحيان.
ينطبق ما سبق على رؤيتي للكتابة حول الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خاصة أننا سنكون في 15 يناير الحالي أمام الذكرى 99 لميلاد الخالد جمال عبدالناصر، وقد استبق محمد البرادعي الذكرى، لينال من الزعيم الراحل، عبر برنامج بعنوان "في رواية أخرى" من "التلفزيون العربي" الذي يبث من العاصمة البريطانية لندن. كانت الحلقة الأولى (من أربع حلقات) مُكرّسة للشأن المصري، حاول خلالها البرادعي تصفية حساباته مع المرحلة الناصرية، والرئيس جمال عبدالناصر على وجه الخصوص. معروف عن البرادعي، انه كاره لعبدالناصر وناقم على مرحلته، مشاركا بذلك السادات وإسرائيل وأمريكا وجماعات الإخوان المسلمين، الرافضين والمعادين للنهج الناصري، القائم على قِيَم التحرُّر والانحياز للعروبة ورفض التبعية، ومقاومة كل مشاريع تجزئة الوطن العربي ونهب ثرواته، أو فتح حدوده وأسواقه للشركات الرأسمالية، والكومبرادور الداخلي، الخادم الأمين للمصالح الاستعمارية في الوطن العربي.
في خميسينيات وستينيات القرن الزمني الماضي، ارتبطت مصر في أذهاننا بزعامة القائد العربي عبدالناصر، وبموقفه الوطني القومي العربي الجذري في الصراع مع العدو الصهيوني. احتضن الأحزاب القومية العربية، التي نادت بتحرير فلسطين. بارك انطلاقة الثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها، وكان أول من قدّم المرحوم ياسرعرفات إلى القيادة السوفييتية. رحل عبدالناصر، وجاء السادات، الذي تنكّر لدماء شهداء مصر ونقلها من العروبة وفلسطين، إلى هنري كيسنجر والحركة الصهيونية، وسماسرة ووكلاء الشركات عابرة القارات، تحت شعار سياسات الانفتاح الاقتصادي، وانتهى به المطاف إلى اتفاقية "كمب ديفيد"، وخرجت مصر على أثرها من مجمل الصراع العربي – الصهيوني. ثم جاء حسني مبارك، كي يُحوِّل مصر إلى مزرعة لعائلته واتباعه الفاسدين، وحلفائه في تل ابيب وواشنطن، تلك التي تركته لمصيره بعد أن قالت له جموع الشعب المصري في ميادين المدن والقرى والأرياف: إرحل.. إرحل.
كانت أحداث الربيع، وجاء مرسي، وقد حرص على إبقاء اتفاقيات "كمب ديفيد"، وبعث برسالة إلى رئيس الدولة الصهيونية حينها، شيمون بيريز، هنأه فيها بذكرى قيام إسرائيل. تحرّك الجيش وجاء السيسي، الذي مباشرة أو عن طريق غير مباشر، قزّم الدور المصري عربيا. ليس ذلك فحسب، بل عمل على تحسين علاقات مصر بالكيان الصهيوني، إلى الحد، أنني لم أقرأ تصريحا لمسؤول إسرائيلي أو عمودا لكاتب ينتقد فيه السيسي، بل يشيدون به، فرّط بأرض مصر، وجزيرتي تيران وصنافير تحديدا. إغلاق عبدالناصر لمضائق تيران أمام السفن الاسرائيلية، اعتبرها الكيان الصهيوني، سببا للقيام بعدوانه المؤيد من الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، حينها، على ثلاث دول عربية في حزيران 1967. ليس ذلك فحسب، بل قمع السيسي كل الذين يطالبون بعدم تسليم الجزيرتين إلى السعودية، مع العلم، أن كل المصادر الجغرافية والتاريخية، تؤكد تبعيتهما لمصر.
وكي لا أبدو متجنيا على الرئيس السيسي، أمامي سيل من الأقوال الصهيونية في مدح الرئيس. دراسة أعدها البروفيسور أفرايم كام، صدرت حديثا ونشرها معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، الذي عقد مؤتمره مؤخرا في تل أبيب، ويقول فيها بالحرف: أن الرئيس السيسي ما زال يواجه تحديات بعد مرور ثلاثة أعوام على وصوله للسلطة، جزء منها مشاكل قديمة في الدولة، وآخر نشأ في السنوات الأخيرة، في ظل حالة عدم الاستقرار في المنطقة. وأضافت الدراسة: أن مصادر مشاكل السيسي تكمن في ثلاثة عوامل أساسية، أولها المواجهة التي يخوضها مع خصومه السياسيين، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، وثانيها الحرب التي يشنها على الجماعات الإسلامية المسلحة، وثالثها التحديات الاقتصادية. وأوضح كام وهو مساعد رئيس المعهد، والجنرال السابق بجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) والمحاضر بكلية الأمن القومي: أن ما قام به النظام المصري من عمليات عسكرية على الحدود مع قطاع غزة، تمثلت بهدم مئات من المنازل، والإضرار بمصادر أرزاق سكان شمال شرق سيناء، تسبب بعداوات بين الدولة المصرية والسكان، وأسفر عن تنفيذ عمليات مسلحة ضد الجيش، أسهمت في حالة عدم الاستقرار الأمني داخل مصر، وهو ما أساء لسمعة الحكومة. كما أوضحت الدراسة، أن إسرائيل ترى في السيسي فرصة ثمينة لتمتين العلاقات مع مصر، فمستوى المصالح المتبادلة اتسع مؤخرا ليصل لدرجة غير مسبوقة من الحميمية والود، وتبقى المسألة الأمنية هي بيضة القبان في هذه العلاقات الثنائية.
وطرحت الدراسة تساؤلات حول قدرة نظام السيسي على الاستقرار والبقاء، رغم ما يمر به من أزمات أمنية واقتصادية، لاسيما بعد إيقاف دول الخليج العربي دعمها المالي لمصر، وما تسببه من هزة حقيقية للنظام. خلصت الدراسة إلى القول: يتوجب على إسرائيل الاستمرار في دعمها الكامل للجهود الأمنية والعسكرية المصرية بسيناء، وأن تقدم المزيد من المساعدات للجيش المصري في مجال المعلومات الأمنية والاستخبارية. وأضاف الباحث "أن هناك تعاونا بين مصر وإسرائيل في مجالات لا داعي لذكرها بهذه الدراسة".
من جهتها، نقلت صحيفة "معاريف" عن وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، إشادته في أول خطاب له في الكنيست بالسيسي، معتبرا خطابه بشأن السلام الإقليمي مهما ويخلق فرصة حقيقية. كما نقلت صحيفة "هآرتس" عن وزير الإسكان الإسرائيلي يوآف غالنت القول، إن إسرائيل محظوظة لأن السيسي تمكن من السيطرة على مقاليد الحكم في مصر، مشبها إياه بالرئيس السابق حسني مبارك "بعد عملية تجميل". من جهته، قال السفير الإسرائيلي السابق في مصر يتسحاق ليفانون في صحيفة "إسرائيل اليوم"، إن السيسي يعتبر أن السلام مع إسرائيل قصة نجاح، ويرى أن حسن علاقاته معها يضعه في مكان جيد أكثر من الآخرين، ما يتطلب من إسرائيل مد ذراعيها ترحيبا بخطواته. طبعا معروف أن السيسي قام بهدم الأنفاق مع غزة، وهو لا يفتح المعابر مع قطاع غزة إلا في المناسبات. وفي زمنه تدهورت قيمة الجنيه المصري إلى الحضيض، الأمر الذي يسبب جوعا حقيقيا لمعظم فقراء إخوتنا في الشعب المصري.
ما سبق، مما قاله القادة والكتّاب الإسرائيليون، هو غيض من فيض، ليس إلا.
من جانب آخر وعلى صعيد تناقض النظام الرسمي العربي مع الذات، هناك الكثير من الإثباتات والشواهد التاريخية القريبة، غير أني سأذكر اثنتين من التاريخ القريب، مع تأكيدي أنني ضد الديكتاتورية والديكتاتوريين وعبادة الفرد، وضد التدخل في الدول الأخرى فكيف بغزوها؟ في حملة الإصلاح التي قادها الراحل صدام حسين، وصل الوضع الاقتصادي العراقي إلى الأوج، وأذكر أن قيمة الدينار العراقي يومها وصلت إلى ثلاث دولارات ونصف الدولار. استقطب العراق في تلك المرحلة، كفاءات عربية كثيرة، وفتح أبوابه لكل العرب، وكان يعاملهم كعراقيين. بنى صدام العراق وقام بتحديث سلاحه. عمليا، مثّل العراق حينها القوة العربية الأبرز في الدفاع عن دول الخليج العربي، أمام ما اعتبر أطماعا إيرانية. خاض العراق حربا طويلة مع إيران، امتدت ثماني سنوات، كان خلالها يدافع عن الأمة العربية. كان تكتيك العراق العسكري يتمثل في نقل الحرب إلى الأراضي الإيرانية. انتهت الحرب، وتجرع الإمام الخميني "السم" وفقا لتعبيره. خرج العراق بعد الحرب مدمّرا اقتصاديا، وانخفض سعر ديناره إلى الحضيض. طالب العراق حينها بتخفيض الكويت لحصة إنتاجها على الحصة المقررة لها من طرف منظمة أوبك، وسلمت بغداد يوم 16 يوليو 1990 مذكرة إلى جامعة الدول العربية تتضمن شكواها بهذا الشأن. يا ترى لو نجحت مباحثات جدة بين البلدين، واستجيب للمطلب العراقي، هل كان صدام سيغزو الكويت؟ هذا مع إدراكي بأن الولايات المتحدة قررت إسقاط صدام، وتقسيم العراق إلى الوضع الذي نراه فيه، منذ أن هدد بتدمير نصف الكيان الصهيوني.
اليوم، التاريخ يكرر نفسه، هناك تخوف عربي خليجي من امتداد المشروع الإيراني في المنطقة. للعلم السياسة مصالح، فلا مساعدة مادية أو عسكرية أو سياسية، يقدمها بلد لآخر، دون حسابات استراتيجية يهدفها الأول. هكذا كانت السياسة منذ بدء مرحلة نشوء الدولة. في هذا المضمار يبرز تساؤلان: أين هو المشروع العربي في مواجهة المشروع الإيراني؟التساؤل الثاني، ألم يكن حريا بدول الخليج العربي المحافظة على القوة العسكرية القادرة عمليا وفعليا على التصدي لإيران، وهي العراق؟ أما عن اضطهاد إيران لإخواننا من عرب الأهواز، وهدم حتى آخر مصلى للسنة في طهران، فسيكون لهما مقالة أخرى تالية.

د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني